حرية – 19/12/2020
“كان اهتماماً استثنائياً”، يقول السفير العراقي في أنقرة حسن الجنابي، واصفاً الفعاليات التي وجّه بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، احتفاءً بزيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي والوفد المرافق.
“في سياسات الدول، لا مجال للمجاملات والمشاعر الشخصية” كما يقول خبراء الدبلوماسية، ورغم أن الرجلين –أردوغان والكاظمي- يحظيان بعلاقة شخصية تمتد إلى سنوات ما قبل تسلم الأخير رئاسة وزراء العراق، إلا أن طبيعة الاحتفاء، تَشي بما هو عابر للعلاقة الشخصية، وهي تكشف وفقاً لخبراء، مستوى الاندفاع التركي نحو العراق، والرغبة في إطلاق مرحلة جديدة في العلاقة بين البلدين، يغادران فيها “الفتور والجمود” نحو شراكة عميقة، فيما لا تنفك بغداد عن التأكيد على أنها تشاطر أنقرة المستوى ذاته من الحماس.
في ذروة الاحتقان بين البلدين، بسبب ملف المياه، حزيران 2018، أطفأ الرئيس التركي غضب العراقيين، بتصريح شهير، حين أجّلَ ملء سد أليسو رغم بلوغ الموعد الذي قالت أنقرة إن بغداد وافقت عليه.
“لا يُمكن حبس المياه عن العراقيين في رمضان”، قال أردوغان، مُستعيداً قاعدة “بدائية” في علاقة شعبين يشتركان في الغالبية الدينية، أما في كانون الأول 2020، فيبدو أن العلاقات بين البلدين، في طريقها إلى التقدم نحو ماهو أبعد من المشتركات الإثنية، فتحقيق “الحلم العراقي” الأكثر رواجاً في هذه الأيام، بإطلالة للموانئ العراقية على أوروبا، يمر حتماً عبر تركيا.
عاشت الحكومات العراقية المتعاقبة في غمرة وفرة المال بفضل أسعار النفط المرتفعة، لهذا، ولأسباب أخرى، اكتفت تلك الحكومات بإجراء العملية الأكثر بساطة لتسيير الدولة “بيع النفط والإنفاق من ثمنه” أما حكومة الكاظمي الحالية، فقد وُلدت وهي تواجه لحظة الحقيقة التي تجاهلتها الحكومات الماضية، حيث ثبت أن النفط سندٌ غير مأمون للدولة، لذا، فقد توجهت بغداد منذ أيار الماضي، نحو إحياء “ثروة الجغرافيا” ومحاولة إحراز تقدم في “الحزام والطريق” وهو ما لن يقتصر على تحقيق أمن اقتصادي مُستدام للعراق فحسب، بل قد ينعكس بشكل إيجابي غير مسبوق، على الأمن في تركيا أيضاً، إذا ما أُتيح للعراق إبرام تفاهمات دولية وإقليمية على قاعدة “الأرباح للجميع”.
لدى العراقيين الكثير ليقولونه في أنقرة، حيث امتلأت الجرائد وعجّت الشاشات، بعشرات المختصين الذين تحدثوا عن قائمة طويلة من الإشكالات بين البلدين، ليس ابتداءً بملفّي المياه، والبككة، ولا انتهاءً بالرغبة المشتركة في استعادة تموضع العراق، محطة رئيسية على طريق القوافل الآسيوية نحو أوروبا، عبر تركيا، غير أن تمديد الرئيس التركي مدة لقائه الثنائي بالكاظمي، ثم “الدردشة المطوّلة” طيلة مأدبة العشاء، يكشف أن لدى الرئيس التركي ما يقوله أيضاً.
لكن، إذا كانت أولويات العراق في العلاقة مع تركيا، مكشوفة ومعلومة، فما الذي يدفع الأتراك هذه المرة إلى هذا المستوى من الاندفاع، بعد سنوات طويلة، كانت العلاقة فيها بين البلدين، تُدار من طرف واحد، حيث تركيا هي المُصدّر، والعراق هو المُستورد الذي لا يتلقى سوى البضائع وقذائف المناوشات بين القوات التركية والبككة، وأنباء تشييد السدود أعاليَ النهرين؟.
تركيا تستبق تحدياتها مبكراً.. وتختار البوابة
أنْ تواجه تركيا ضغوطاً وتحديات، لا يبدو أمراً جديداً على الدولة التي تتربع في واحدة من أكثر مناطق خارطة العالم توتراً، وتدير تحدياتها طيلة عقد من الزمن، بما يُبقيها وجهة مفضّلة لدى غالبية السياح وحتى المستثمرين العراقيين والعرب.
غير أن طريقة مواجهة حكومة رجب طيب أردوغان لتلك التحديات، هي ما سيحدد موقع العراق وموقفه.
تأتي زيارة الوفد العراقي بعد أيام على إعلان (أميركا ترامب) حزمة عقوبات طالت الصناعات العسكرية في تركيا، إثر تفجر أزمة إضافية بين البلدين بسبب قرار أنقرة حيازة المضادات الجوية الروسية أس 400، إلا أن المسار المُرتقب الذي قد تُظهره (أميركا بايدن) في التعاطي مع تركيا، لا يبدو أكثر طمأنة، خاصة مع المواقف المعروفة للديمقراطيين، وبايدن شخصياً، إزاء الملف السوري، الأكثر إثارة للصداع بالنسبة لأردوغان.
وبالتزامن، تبدو أنباء الانفراجة في الملف النووي الإيراني، تحدياً تركياً آخر، حيث سيكون على أنقرة، أن تتعامل مع واقع جديد، فيما لو تمت إعادة تطبيع الوضع الإيراني، وإطلاق يد طهران من جديد في عدة مسارات على مستوى المنطقة، بشكل يزاحم مصالح أنقرة.
من جهة أخرى، تبدو الأنباء المتكررة، عن قرب حسم ملف الأزمة الخليجية، دافعاً إضافياً لتركيا، من أجل إعادة قراءة المشهد، واتخاذ خطوات استباقية، فتركيا اليوم، ليست ذاتها قبل سنوات، بل اتسعت خارطة انتشارها حتى عسكرياً، من شرق شبه الجزيرة العربية في قطر، إلى غربها في “سواكن” السودانية.
سلة المكاسب التي حققتها تركيا، خلال السنوات الأربع الماضية، كانت في الوقت ذاته، مُكلفة على مستوى العلاقات بدول وازنة في المنطقة، على رأسها، السعودية والإمارات، حيث دخل الطرفان في مواجهة شبه مفتوحة، كانت تركيا تكسب الكثير من جولاتها، اعتماداً على تحالف وجدت الدوحة نفسها مضطرة إليه بعد الأزمة الخليجية.
العراق على المسار ذاته
إذا كانت ثمّة قائمة تحوي أسماء دول المنطقة التي “لا تُحسَد على أوضاعها الداخلية” فإن العراق بلا شك سيكون في مرتبة متقدمة، وحين تواجه تركيا التحديات السابق ذكرها، فإن للعراق نصيب منها جميعاً.
تحديات مشتركة، قد تُفسر التقارب عاليَ المستوى، والتفهّم الذي أحاط أجواء اللقاء بين قيادتَي البلدين.
ورغم أن المصاعب التي قد تواجه البلدين، قد تتساوى في الشدة، إلا أنها تتباين في النوع، وهو ما قد يبني مصالح مشتركة بين الثنائي وفق علاقة تكامل، فللعراق علاقات متوازنة، ووثيقة مع خصوم تركيا، حيث توصف علاقة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بأنها –فوق العادة- مع صناع القرار في المملكة العربية السعودية، كما أنه حافظ على علاقات متزنة مع الجارة الشرقية إيران، فضلاً عن استمرار العراق في سياسة النأي طيلة فترة الأزمة الخليجية.
وفي المقابل، تجمع شخصيات حضرت جانباً من لقاءات الوفدين العراقي والتركي، أن الأخير، أظهر انفتاحاً غير مسبوق على مستوى، الاستثمار بشكل عام، وملف المياه، وملف الإستثمار في الري والبناء والسكن، وبقية مجالات الإعمار، التي “يحترفها” الأتراك، ويحتاجها العراق، وفق شراكات ستراتيجية.
ويُمكن القول، بحسب خبراء ومراقبين اشتركوا في “تقدير الموقف” الحالي مابعد 17 كانون الأول 2020، إن العراق، على مقربة من بناء جسر عابر من أنقرة إلى الرياض، يمر عبر بغداد، وتستفيد منه، فوق حطام اشتباك دام أكثر من 4 أعوام، لم تجنِ أطرافه سوى مزيداً من التراجع والاستنزاف، وتأسيساً على ذلك، سيكون مفهوماً أن يُعاد عمّا قريب، تحديد موعد جديد لزيارة الوفد العراقي الحكومي إلى الرياض، ليس لتبادل الفعاليات البروتوكولية هذه المرة، بل للحديث بشكل صريح، عن “طور جديد في العلاقات بين القوى الرئيسة في المنطقة”.
“طور جديد” يستهدف إجراء سلسلة خطوات استباقية، تمنح دول المنطقة المترقّبة، حصانة من أية تداعيات محتملة لخطوات يحضّر لها الوافد الجديد للبيت الأبيض.
مصالح متشابكة.. أمن مشترك
بالصدفة، أو بغيرها، استمع أعضاء الوفد العراقي في قصر السلطان، إلى نغم عراقي يعرفونه، وبينما كان أردوغان يحادث الكاظمي في دردشة العشاء، كان مطرب الفرقة يردد من أغنية الغزالي، “أترك الدولة.. وأعوف السلطنة”، وسواءً كان اختيار، الأغنية عشوائياً، أم استذكاراً لرؤية مؤسس تركيا الحديثة، مصطفى كمال أتاتورك، الذي أنهى “السلطنة” وأقام الدولة، والذي زار الكاظمي ضريحه، فإن صانع القرار التركي في المرحلة المقبلة، ربما يكرر سماع، أو ترديد مقطع الغزالي، في السعي لحماية تركيا من التحديات المقبلة، في مرحلة جديدة للسياسة التركية، يظهر العراق حماساً للشراكة فيها، وتحقيق مصالح مشتركة.
وإذا كانت ثمّة صفة، كرر المحللون وصف رئيس الوزراء العراقي الحالي بها، فهي أنه “قادر على إدارة توازنات بين الأضداد تعبر بهم من الصدام، إلى التفاهم، يبدو العراق، أحوج الاطراف إلى هذا التفاهم، لكن ليس على طريقة المحاولات التي خاضها مسؤولون عراقيون سابقون، اقتصروا فيها على محاولات ترطيب الأجواء ونقل الرسائل، بل بتقديم شبكة مصالحة مُقنعة، تُثبت وتضمن لأطراف الصراع الإقليمي مصالح أكبر في السلم.
وحين يعلن العراق لجواره، أنه يخطط للمرة الأولى للإستفادة فعلياً من خارطته العمودية، ليكون طريقاً واصلاً بين الشرق والغرب، والجنوب والشمال، والبحر والبحر، فإنه يقول ضمناً إنه يعرض الوساطة بين أقوام المنطقة، العرب والترك والفرس والكرد.
وأن يكون العراق طريقاً مريحاً ومفيداً تسلكه البضائع السعودية والخليجية من عرعر العراق، إلى اسطنبول ومرسين تركيا، والعكس.
وأن “قدَر طريق التجارة” بين أقصى الشرق، وأقصى الغرب، أو بين دول المنطقة نفسها، سيحتم أن يشارك الجميع في التفاهم، ليتشاركوا في المكاسب.
فالقافلة القادمة من آسيا إلى أوروبا، مروراً بالفاو، ستمر عبر الديوانية وكربلاء والأنبار وكردستان وتركيا.
وإن العراق، الذي يحظى بعلاقات يُمكن التعويل عليها مع جميع تلك الأطراف، -سيما القوى التي تدير مناطق شرق سوريا وتدفع ثمن الحرب فقراً وجوعاً- يُمكنه إقناع الجميع، بالسلام من أجل التجارة والرخاء، بدل الحرب من أجل الآيدولوجيا والمصالح المرحلية.