حرية – (9/8/2021)
تشهد لاسا عاصمة التيبت طفرة عمرانية بفضل الاستثمارات الصينية، لكن ذلك يؤدي على ما يبدو إلى تعميق الشرخ في سوق العقارات بين الموظفين الرسميين وسائر السكان، وفي التيبت، ثمة ما يشبه المواجهة بين التنمية الاقتصادية والتوجهات الانفصالية. ففي مسعى لمساواة هذا الإقليم مع سائر مناطق الصين، استثمرت بكين بشكل كبير في البنية التحتية (المطارات والطرق والسكك الحديد) منذ أعمال الشغب المناهضة للنظام الشيوعي الحاكم في العام 2008، ويكمن الهدف المعلن في تسهيل الحياة اليومية للسكان في هذه المنطقة المعزولة المسماة “سقف العالم” من خلال تحديثها. بحسب فرانس برس.
غير أن ورش البناء المنتشرة في لاسا تعدّل في النسيج الحضري لهذه المنطقة التي تشكل قبلة البوذيين في العالم. كما أنها تبرز التفاوتات في توزيع الثروات في منطقة حساسة ينقسم فيها السكان حيال السيادة الصينية.
على مرمى حجر من قصر بوتالا الذي شغله الدالاي لاما حتى انتقاله إلى المنفى في عام 1959، يستكمل العمال بناء أبراج تشيدها شركة “كاونتري غاردن” الصينية العقارية، تُباع هذه الشقق الراقية بأسعار مماثلة لأسعار المساكن الفاخرة في مدن صينية متوسطة الحجم، وهي بعيدة كل البعد عن متوسط الدخل في التيبت الذي لا يزال من بين أدنى المعدلات في البلاد.
موظفون رسميون
وبنتيجة ذلك، يقسم هذا الجنون العقاري المدينة ذات الـ860 ألف نسمة، بين موظفي القطاع العام الذين يتمتعون بالإمكانيات اللازمة للسكن في هذه الشقق الجديدة من جهة، وبين بقية السكان من جهة ثانية.
ويشغل أشخاص من التيبت الكثير من مناصب الخدمة العامة، إضافة إلى آخرين من أعراق مختلفة، لا سيما إتنية هان الصينية التي يشكل أفرادها أكثر من 90% من السكان في سائر أنحاء الصين.
وفي منطقة الحكم الذاتي التي تتمتع بأحد أعلى معدلات النمو الاقتصادي في البلاد، بيع ما يقرب من مليون متر مربع من المساكن الجديدة في لاسا وحدها في عام 2020. وهذا يزيد بنسبة 28 % عن العام السابق.
تظهر أرقام الوكالات العقارية أن أكثر من 30 مشروعا سكنيا جديدا مطروحة للبيع حاليا، وهو ما لاحظته وكالة فرانس برس خلال زيارة نظمتها الحكومة (لا يُسمح للصحافيين الأجانب بالسفر بصورة مستقلة إلى المنطقة).
لكن امتلاك العقارات يتطلب العمل في وظيفة حكومية “إذ لا توجد طرق أخرى كثيرة لكسب الكثير من المال”، على ما يؤكد أندرو فيشر الأستاذ في جامعة إيراسموس في مدينة روتردام الهولندية، ويقول فيشر إن “سوق العقارات لا تُفتح إلا إذا عبرنا هذا الباب”.
سباق على التوظيف
في هذه الظروف، لدى المهاجرين من ريف التيبت ذوي التحصيل العلمي الضعيف فرص ضئيلة للعثور على سكن في الأحياء الجديدة، وفق إميلي يه الأستاذة في جامعة كولورادو في بولدر (الولايات المتحدة)، وكثير من هؤلاء لا يجيدون اللغة الصينية، رغم أن هذا الأمر شرط لازم للعمل في الخدمة العامة، كما يفاقم استمرار معدلات الأمية الانقسام داخل المجتمع، ويلاحظ أندرو فيشر أن “حوالي 10% من السكان (في المنطقة) حاصلون “من ناحية على مؤهل تعليمي عال، ومن ناحية أخرى لا يزال ثلث السكان أميّين”.
ومع ذلك، ثمة جانب آخر لحياة الموظفين الرسميين التيبتيين: إذ إن دخول الخدمة المدنية في الصين يعني غالبا التخلي عن الشعائر الدينية، وهو أمر محزن لكثيرين، ولكن حتى بين الطبقات العليا من السكان، يحتدم السباق على التوظيف ما يحرم الكثير من الخريجين الشباب من الوظائف، وقال تيبتي يعيش في الخارج طالبا عدم ذكر اسمه إن “معظمهم يعملون لصالح الدولة، لكن عددا متزايدا من شباب التيبت المدربين تدريباً جيداً لا يمكنهم العثور على وظائف في الخدمة المدنية”.
لا توجد بيانات متاحة عن التوزع الإتني للموظفين الرسميين في التيبت، لكن أبناء إتنية هان، ولغتهم الأم هي الصينية، يمثلون الآن 12% من سكان المنطقة وفقا للأرقام الرسمية، مما يزيد المنافسة على الوظائف.
المدينة المقدسة
يميل السكان في البلدة القديمة إلى ترك مساكنهم التقليدية لتحل مكانها محلات تجارية أو فنادق للسياح. لذا ينتقلون للعيش في الضواحي، ومع إقرارهم بأن السكان يتمتعون ببنى تحتية جديدة وخدمات إسكان أفضل، يخشى تيبتيون في المنفى من التغييرات الظاهرة حول معبد جوخانغ، القلب الروحي لمدينة لاسا، فالشارع المؤدي إليه يحمل علامات تجارية لشبكات مطاعم الوجبات السريعة الأميركية مثل “كنتاكي” و”بيتزا هت”. كما أن سياحا من أجزاء أخرى من الصين يلتقطون صورهم بالزي التيبتي التقليدي.
وبعد سبعين عاما من غزو الجيش الشيوعي للتيبت، ازدانت المدينة بالأعلام الصينية والفوانيس الحمراء وصور الرئيس شي جينبينغ، وتقول الباحثة في جمعية “تيبت ووتش” تينزين تشويكي إن لاسا، المقر السابق للدالاي لاما، ” ليست مجرد مدينة مقدسة، بل لها أيضا أهمية سياسية مهمة على صعيد هوية التيبت”، وتضيف “لكن عندما ينظر التيبتيون إلى التيبت، يتساءلون عما تبقى من ماضيهم حقًا؟”.