حرية – (7/9/2021)
منذ سقوط العاصمة الأفغانية كابول في قبضة حركة “طالبان” في 15 أغسطس (آب) الحالي، ساق الرئيس الأميركي جو بايدن وكبار مستشاريه أربعة ادعاءات رئيسة بغية تبرير قرارهم سحب القوات العسكرية لبلادهم من أفغانستان، ودرء الانتقادات عن النتيجة الكارثية التي آلت إليها الأمور. إذ ذكروا أنه لم يكن في المقدور أن تستمر المهمة من دون زيادة دراماتيكية في القوات الأميركية، إضافة إلى التزامهم احترام اتفاق أبرمته الإدارة السابقة برئاسة دونالد ترمب مع “طالبان” ويقضي بسحب الولايات المتحدة قواتها العسكرية من أفغانستان. كذلك أعربوا عن أسفهم تجاه عدم رغبة الجيش الأفغاني في محاربة “طالبان”. أخيراً، زعموا أن الإدارة “وضعت خططاً للاحتمالات كافة” بيد أن الفوضى كانت محتومة.
وفي المقابل، فإن أياً من تلك المزاعم ليس صحيحاً، ويدرك بايدن ذلك. أما دفاعه التهكمي عن سياسة فاشلة جاء تنفيذها دون المستوى، فلا يزيد طين هذه الكارثة إلا بلة.
دفاع أجوف
في ادعائها أن الولايات المتحدة لم تكن لتبقى في أفغانستان، تستند الإدارة الأميركية إلى افتراضين اثنين. الأول مفاده أن “طالبان” حققت انتصارات بلا هوادة، ولم يكن ممكناً ردعها من دون إمداد القوات العسكرية الأميركية بتعزيزات كبيرة. ويذهب الافتراض الثاني إلى أن الخطوة الوحيدة التي حالت دون سقوط خسائر في أرواح الأميركيين في أفغانستان، يتمثل في الاتفاق الذي وقعته إدارة ترمب مع “طالبان”.
بالنسبة إلى انتصار “طالبان” المحتم، لعله يتعين على المرء أن يثق في رأي الحركة في ما يتصل بفرص النجاح التي كُتبت لها. إذ جاء على لسان زعيمها الملا عبد الغني برادر بعد سقوط كابول “لقد ظفرنا بنصر لم يكن متوقعاً”. في الحقيقة، حتى وقت قريب نسبياً، حافظت قوات الأمن الأفغانية على صمودها في وجه هجمات “طالبان”، حتى مع تراجع الولايات المتحدة الأميركية والقوات المتحالفة معها عن المشاركة المباشرة في القتال. بالعودة إلى سنة 2018، استحوذت “طالبان” على مجرد أربعة في المئة من مساحة أفغانستان، إذ لم تتخطَ رقعة سيطرتها 14 إقليماً تعتبر في معظمها ريفية من بين 419 إقليماً في البلاد. وفي الوقت نفسه، انتفى وجود الحركة تماماً في 122 منطقة. وفق وزارة الدفاع الأميركية، حتى منتصف 2020 على أقل تقدير، اكتسبت قوات الأمن الوطني الأفغانية قوة متزايدة، وكذلك ارتفعت قدرتها على الدخول في القتال الذي أرادته الولايات المتحدة التي لم تكن راغبة في خوض غمراته بنفسها.
إذاً ما الذي تسبب في انقلاب الأحوال، فأعطى “طالبان” زخماً متزايداً، في مقابل وهن أصاب الجيش الأفغاني؟ أولاً، أفضى الفساد الذي ينخر في الدولة الأفغانية إلى انعدام ثقة الشعب في حكومة بلاده، وأعطى “طالبان” دعماً أكبر، بل زاد تمويل تلك الحركة المتمردة. وعلى غرار ما خلص إليه “مكتب المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان” (سيغار) في تقريره سنة 2016، “فقد ضحى المسؤولون الفاسدون على جميع مستويات الحكومة، بالشعب الأفغاني واستبعدوه. وكذلك وجدت أموال أميركية كبيرة طريقها إلى جيوب الجماعات المتمردة”. والأنكى من ذلك، أن واشنطن تواطأت تماماً في ما يتصل بتدهور الحكومة الأفغانية. فوفق الخبيرة في الشأن الأفغاني سارة تشايس التي عكفت على تقديم المشورة للجيش الأميركي طوال سنوات عدة، انتهجت إدارة باراك أوباما سياسة مقصودة بغية السماح للفساد بالتفشي، لأنه استشرى بين القادة السياسيين الأفغان الذين اعتمدت عليهم استراتيجية واشنطن.
عسكرياً، لم يتوقف الفساد عند كونه مجرد مشكلة فريدة من نوعها أو خاصة فحسب، بل انتشر في صفوف الشرطة الأفغانية بصورة أكثر تعقيداً بأشواط عدة. وعمدت الحكومة الأفغانية إلى تضخيم ميزانيتها العسكرية عبر إضافة “جنود أشباح” إلى جدول رواتبها، بمعنى وضع أسماء وهمية يتلقى أصحابها الأموال من دون أي وجود لهم على الأرض، ما سمح للمسؤولين الفاسدين باختلاس 300 مليون دولار. منذ 2009، لاحظ الخبير في الشؤون الأفغانية كارتر مالكاسيان، الذي عمل مستشاراً سابقاً للقادة العسكريين الأميركيين في أفغانستان، أنه نتيجة ذلك الفساد لم يحصل عديد من الجنود في القوات الأفغانية على رواتبهم، ما أدى إلى عواقب وخيمة متوقعة ضربت معنوياتهم ونالت منها. ومع ذلك، لم يَحُل الفساد دون إحراز تقدم، بل نجحت الولايات المتحدة في الحد من الضرر الناجم عن الكسب غير المشروع عبر إيداع الأموال مباشرة في الحسابات المصرفية للجنود الأفغان.
وفي المقابل، فإن الصفقة التي عقدتها إدارة ترمب مع “طالبان” من جهة، وقرار فريق بايدن الالتزام بها من جهة أخرى، أوديا بذلك التقدم أدراج الرياح. وتجرعت الحكومة الأفغانية الذل والمهانة، إذ استُبعدت من المفاوضات، فيما طُلب إليها إطلاق سراح نحو خمسة آلاف مقاتل من مقاتلي “طالبان” المسجونين كجزء من الاتفاق المبرم. كذلك ضرب ذلك الاتفاق معنويات الجيش الأفغاني وأوساط الشرطة في الصميم. إذ حصلت واشنطن على وعد من “طالبان” بالكف عن استهداف الجنود الأميركيين غير أنها لم تفز في المقابل بأي تنازل مماثل بالنسبة إلى القوات الأفغانية. صحيح أنه ليس بمستغرب أن تتفاوض واشنطن مع خصومها من دون مشاركة حلفائها الذين سيتأثرون بالنتيجة، إلا أن اتفاقها مع “طالبان” سمح للخصوم بمهاجمة حلفاء الولايات المتحدة من دون أن يواجهوا أدنى قصاص، ضمن تنازل لم يسبق له مثيل في تاريخ الولايات المتحدة.
في سياق مماثل، أكدت إدارة بايدن أن التنصل من الاتفاق الذي ورثته من ترمب من شأنه أن يؤدي إلى انفجار العنف في أفغانستان، ما يستلزم تصعيداً للتدخل العسكري الأميركي. وحتى لو صح ذلك، فستتحمل أكتاف الحكومة الأفغانية والجنود الأفغان، وليس القوات الأميركية، [ستتحمل] العبء الأكبر، وقد امتلكوا [الأفغان] الرغبة في ذلك. بالنسبة إليهم، فإن المضي في قتال مع دعم محدود من الولايات المتحدة يشكل خياراً أفضل، مقارنةً مع الوضع الحالي. وإذا اقترن ذلك مع جهود مُضاعفة تبذل في سبيل الحد من الفساد، فسيكون من شأن استمرار المهمة العسكرية الأميركية أن يعزز الموقف العام للحكومة الأفغانية. وفي ذلك الصدد، أشار بايدن إلى أنه لم يملك خياراً سوى المضي قدماً في تنفيذ اتفاق إدارة ترمب مع “طالبان”. لكن لا يبدو أن هذا الحذر منعه من التراجع عن قرار ترمب انسحاب الولايات المتحدة من “اتفاق باريس للمناخ”، أو السعي إلى الدخول مجدداً في الاتفاق النووي الإيراني، الذي انسحب منه الرئيس السابق.
الخسائر في صفوف الجنود الأميركيين في أفغانستان تقلصت نتيجة دفاع الجيش الأفغاني وليس تراجع “طالبان”
في زاوية مقابلة، لقد نُسف تماماً ادعاء بايدن بأن إدارته “وضعت خططاً مسبقة عن الاحتمالات كلها”، مع تسريبات كشفت النقاب عن اتهامات واجهها داخل إدارته. وفي وسع أي شخص يشاهد الهجرة الجماعية الفاشلة من كابول أن يدرك أن الإدارة الأميركية لم تكن جاهزة لمواجهة تلك النتيجة، على الرغم من أن وكالات الاستخبارات والدبلوماسيين حذروا قبل أشهر من احتمال حدوث انهيار سريع للدولة. واستطراداً، صحيح أن مشهد احتشاد منظمات المجتمع المدني الأميركية للمساعدة في إجلاء الأميركيين والأفغان الذين عملوا مع القوات الأميركية، شكل أمراً مشجعاً، إلا أنه لم يكن ضرورياً أصلاً. كذلك يزعم بايدن أن الرئيس الأفغاني أشرف غني ناشده عدم التبكير في إجلاء الأميركيين والأفغان الذين تعاونوا معهم. ولكن، إذا كانت الفوضى محتمة، وفق زعم بايدن أيضاً، وتحدد سلفاً الجدول الزمني للانسحاب الأميركي الكامل من أفغانستان وأخذ مجراه، فإذاً لم يكن لدى الرئيس الأميركي سبب وجيه في الاستجابة إلى طلب غني. وعلى نحو مماثل، انكبت منظمات أميركية لقدامى المحاربين على ممارسة ضغوطها قبل أشهر بهدف نقل أعداد إضافية من الناس إلى خارج أفغانستان. وفي منتصف يوليو (تموز)، دعت السفارة الأميركية في كابول أيضاً إلى تسريع عملية الإجلاء.
أخيراً، يتجاهل استخفاف بايدن المخزي بقوات الأمن الأفغانية، الحقيقة المتمثلة بهوية الطرف الذي خاض معظم المعارك في هذه الحرب وناله النصيب الأكبر من الموت. وكذلك يشير إليوت أكرمان الكاتب والجندي السابق في الحرب الأفغانية، بلهجة لاذعة، إلى أنه “مهما سمعنا عن تخلي الأفغان عن القتال، علينا ألا ننسى من أول من غادر ساحة المعركة، لقد كنا نحن الفاعلين”. وعلى الرغم من أن كل ضحية تثير الشعور بالحزن، إلا أن قوات الأمن الأفغانية تحملت الجزء الأكبر من الضحايا منذ 2007 على أقل تقدير. ولا يُعزا انخفاض الخسائر البشرية بين الأميركيين إلى مفاوضات إدارتي ترمب وبايدن مع “طالبان”. في الحقيقة، تكبدت الولايات المتحدة عدداً قليلاً نسبياً من الضحايا منذ 2014، حينما تولت القوات الأفغانية المسؤولية الأساسية عن العمليات القتالية المباشرة ضد الحركة المتمردة. من ثَم، لم يكن تراجع “طالبان” السبب وراء انخفاض نسبة الضحايا في صفوف الجنود الأميركيين، بل يعزا ذلك إلى صمود الجيش الأفغاني.
فجوة المصداقية
لا يمكن التهوين بالضرر الذي أصاب مصداقية الولايات المتحدة نتيجة هذا الفشل الذريع. في تبريراته الذاتية التهكمية، لم يقر بايدن بالتزام 36 دولة أخرى نشر قواتها في أفغانستان، ولا كيف أدى تخلي واشنطن المتسارع عن أفغانستان إلى جعل انسحاب تلك الدول الانسحاب بأمان أمراً عسيراً، وكذلك تبرير المهمة أمام شعوبها. لقد أمضت تلك الدول 20 عاماً في أفغانستان، ولم يكن السبب الرئيس في ذلك أنها رأت في ذلك البلد عنصراً أساسياً في استتباب أمنها، بل حدث ذلك لأنها تعتبر أن أمنها [الدول] رهن بالولايات المتحدة. هكذا، مع الانسحاب الكارثي من أفغانستان لن يكون سهلاً على واشنطن أن تشكل ائتلافات من ذلك النوع في المستقبل. وبعد استسلام الولايات المتحدة أمام “طالبان”، سيتعذر على أي شخص أن يأخذ على محمل الجد مواقف إدارة بايدن بشأن تعزيز حقوق الإنسان والدفاع عن الديمقراطية، التي يفترض أنها سمات محورية في السياسة الخارجية لجو بايدن.
وفي سياق مماثل، لا يخفى على أحد أن انتصار “طالبان” في أفغانستان سيشحذ عزيمة المقاتلين المتطرفين في كل مكان حول العالم. وفي المقابل، فإن معرفة مدى امتلاك “طالبان” الجرأة الكافية كي تقدم دعماً مباشراً للمقاتلين المتطرفين، تتوقف على تصورها بالنسبة إلى مدى استعداد واشنطن للانخراط مجدداً في شؤون أفغانستان. إذ سيصمد نظام تقوده “طالبان” أمام هجمة من الضربات الجوية الأميركية، ولقد ذاقت الحركة ما هو أشد سوءاً حينما دفعت الولايات المتحدة بقواتها إلى تلك البلاد. وكذلك في وسع “طالبان” أن تعول بثقة على رفض محتمل من جانب بايدن لاتخاذ أي خطوات إضافية.
لا يمكن التهوين من الضرر الذي أصاب مصداقية الولايات المتحدة نتيجة الفشل الذريع في أفغانستان
على الأرجح، لن تردع المقاتلين المتطرفين مزاعم إدارة بايدن بأن الولايات المتحدة ستحتفظ بالقدرة على تنفيذ عمليات في مكافحة الإرهاب داخل أفغانستان، نظراً إلى القيود التي ستفرض بشكل محتم على الاستخبارات الأميركية نتيجة إنهاء الوجود العسكري الأميركي هناك.
في ملمح مُشابه، صحيح أن أهمية أفغانستان بالنسبة إلى الولايات المتحدة تبقى هامشية. لم تكن الحرب الأفغانية جبهة مركزية في صراع بين قوتين عظيمتين، بالمقارنة مع ما شكلته ألمانيا خلال حقبة “الحرب الباردة”. إن أفغانستان أشبه بكوريا سنة 1950، أو فيتنام في ستينيات القرن العشرين. وصحيح أيضاً أن الولايات المتحدة بالغت في رد فعلها المهول بشأن مكافحة الإرهاب بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، محولة مسار البلاد ومبددة القوة الصلبة والناعمة كلتيهما عِبْر خياراتها السياسية. واستطراداً، كان من المستطاع خدمة المصالح الأميركية ودعم القوة الأميركية على نحو أفضل، عبر وضع حد للأهداف المتوجب تحقيقها في أفغانستان، وعدم غزو العراق.
في المقابل، لا تخفف تلك المعطيات كلها وطأة الضرر غير المبرر الذي ألحقه بايدن بالأفغان وحلفاء الولايات المتحدة، وكذلك أجندته الأوسع نطاقاً في السياسة الخارجية، والقوة الأميركية أيضاً. إذ اتخذ فريق بايدن خيارات باهظة الثمن، وبات يعول على لا مبالاة الشعب بغية الحيلولة دون إبداء أي رد فعل سياسي داخل الأمة، حتى أنه يحسب أن الرئيس في نهاية المطاف سيستفيد سياسياً من المشاهد المروعة التي يحاول فيها الأفغان يائسين الفرار من البلاد. ومن جهة أخرى، تكتسي السمعة أهمية في السياسة الدولية، وقد تلطخت سمعة إدارة بايدن.