حرية – (25/9/2021)
من “البيك” و”الباشا” و”الأفندي” إلى “الشيخ” و”الحجي” و”سيدنا” و”مولانا”، هكذا يبدو المشهد في عراق اليوم حيث لا تكاد تمر فترة زمنية في عهد العراق إلا وصاحبتها الألقاب التي تسير مع تلك الفترة، ثم يأتي عهد جديد ويخفيها، وتظهر ألقاب من جديد تتماشى مع العهد الجديد، إلا أنها شكلت وعلى مر العقود الطويلة مصنعاً للطبقية والعنصرية والمذهبية تجاه الآخرين من نفس القبيلة أو المذهب والديانة، وتكريساً لهويتهم أمام أقرانهم.
وتحمل هوية الأحوال المدنية والجواز على حقل اللقب، الذي يمكن من خلاله بكل بساطة معرفة مذهب الشخص ونوع ديانته، لكن الأمر تجاوز ذلك، وأصبح إطلاق الألقاب عند عامة الناس متداولاً بشكل كبير جداً.
ونهاية العام الماضي، وجه وزير الداخلية عثمان الغانمي، بعدم تداول ألقاب “حجي” و”باشا”، بين منتسبي وزارة الداخلية من الضباط والموظفين المدنيين والمراتب. مهدداً باتخاذ كافة الإجراءات القانونية بحق المقصرين من المخالفين.
بروفايل تعريفي
يقول الباحث السياسي والاقتصادي نبيل جبار العلي، “عادة ما تستخدم الألقاب التي تذيل اسم الفرد كدلالة وبروفايل تعريفي للشخص، وتوضح بالغالب هويته العشائرية، أو جذوره المناطقية، كذلك يمكن أن تلمح عن مذهبيته في كثير من الأحيان”.
ويشير إلى أنه “يأتي السياسيون في العراق على رأس من يستخدمون هذه الأداة التعريفية لأغراض تتعلق بالتلميح للانتماء المذهبي والمناطقي، كذلك للاستفادة منها في مواسم الانتخابات، ويستخدمها أبناء العشائر والقبائل كدلالات للتمييز والتنافس، في حين يتخلى عن استخدامها بعض المدنيين وأبناء الحضر في محاولة منهم لإيصال رسالة بأننا جميعاً متساوون بلا تمييز ولا محسوبيات، ويعتبرها البعض منهم جزءاً من الممارسات الطبقية أو الطائفية”.
ويضيف العلي، “تاريخياً، نجد أن استخدام الألقاب مر بتقلبات عدة، فخلال فترة الحكم الملكي كانت ذات أهمية كبيرة بالنسبة للفرد العراقي، خصوصاً ممن يسكن الأرياف، لكونه يعزز الانتماء العشائري المرتبط بالإقطاع، وعلى الرغم من كون الإقطاع كان يمثل نوعاً من أنواع التنظيم الإداري والاقتصادي فإنه كان يتميز بكونه تنظيماً عشائرياً بالدرجة الأولى، ثم جاءت فترة الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم التي شهدت ضعفاً في هذا التوجه، خصوصاً بعد تحرر الفلاح من الإقطاع وانتشار الحركات اليسارية التي تدعو إلى المساواة”.
ويتابع، “خلال السبعينيات، أقدم البعثيون على رفع استخدام الألقاب من أسمائهم وكناهم في محاولة منهم لوضع نوع من الإصلاح الاجتماعي والتنظيمي وإبعاد المحسوبيات داخل الحزب حتى تأثر المجتمع بهذا السلوك، وابتعد بدوره عن هذه الممارسة حتى سقوط النظام في 2003”.
ويستكمل العلي “خلال فترة الحرب الأهلية والصراعات المذهبية في العراق بعد 2003، كان اللقب في البطاقة التعريفية الرسمية يؤدي بالشخص إما إلى الهلاك أو النجاة، إذا ما تعرض خلال مسيره في الطرقات إلى إحدى العصابات الإجرامية التي تمارس الإرهاب والإجرام والقتل على الهوية، لكون اللقب قد يسهم بشكل كبير في معرفة هوية الفرد المذهبية أو المناطقية”.
ويلفت إلى أنه “عادت الأمور بعد زوال خطر الحرب الأهلية إلى نفس الممارسات التعريفية باستخدام الألقاب بدرجة عالية نسبياً”، معللاً ذلك بالقول “الألقاب العشائرية تحديداً تمثل درعاً معنوية لحاملها يستخدم ويوظف في الحماية الشخصية في ظل غياب أو ضعف القانون في حماية الفرد العراقي في ظل الفوضى الأمنية، في حين يتحفظ البعض من الناس أو من المنتمين إلى إحدى الطوائف الاجتماعية التي تجد نفسها مستضعفة في السلطة، عن الكشف عن اللقب لأسباب تتعلق بمخاوفهم من الكشف عن هويتهم الطائفية وممارسة الضغوط عليهم”.
حالة اجتماعية قديمة
وفي السياق يقول الصحافي أمجد طليع، “مسألة الألقاب في العراق حالة اجتماعية قديمة، وليست طارئة أو مفتعلة، خصوصاً عند العراقيين العرب، لأن هذا الأمر موروث، ولطالما تفاخر العرب بانتماءاتهم العشائرية، وهذه الحالة تبلغ ذروتها في مناطق الريف والبداوة جنوب وغرب العراق”.
ويضيف، “أما في المدينة سواء أكانت في بغداد أو غيرها من المحافظات أوجد الكثير لهم ألقاباً مناطقية، مثل فلان الأعظمي نسبة للأعظمية أو الحلي نسبة إلى الحلة أو يلقب نفسه بمهنته، مثل الشكرجي والدهان وهكذا، وفي كردستان الوضع مشابه، ولا يختلف عن باقي مناطق العراق”.
وزاد طليع، “لا ننسى أن اللقب أحد ثوابت هوية الأحوال المدنية في العراق بمعنى أن الأنظمة تشجع على الانتماءات القبلية، وهذا يعني أنها تحفز على الهويات والانتماءات الأخرى مثل الطائفية أو الدينية، وهذه الحالة العتيقة هي من ساعدت الطائفيين في تحقيق أهدافهم والتفرقة بين أبناء المجتمع، بمعنى أن الألقاب لم يخلقها الطائفيون، وطلبوا من الناس تثبيت ألقابهم في أوراقهم الثبوتية، إنما وجدوا الأرضية مهيأة لأن يمارسوا طائفيتهم وعنصريتهم بين أبناء المجتمع ومعاملتهم طائفياً بالاعتماد على اللقب والعنوان، إذ إن هناك ألقاباً شيعية لا تقبل القسمة على اثنين، وكذلك سنية، أما التي تقبل القسمة على اثنين والمنتمين لها قد يكونون سنة أو شيعة فممكن تحديد الهوية الطائفية لحاملها من خلال عنوان السكن”.
وتابع، “الأنظمة القمعية التي كانت تمارس الطائفية بشكل غير معلن، كانت تستخدم اللقب ومسقط الرأس، لذلك لم تتهم بالطائفية باعتبار أنها لم تكن تدعي ذلك سواء بسلوكها الظاهر أو خطابها المعلن”، مشيراً إلى أن “الذي يجري أن الضحية تستخدم أسلوب الجلاد في تمرير أمراضها الطائفية والقومية في التفرقة بين أبناء البلد الواحد”.
ويردف، “أما الألقاب الطارئة على المجتمع فهي تلك التي جاءت بها الأحزاب الدينية، وهذه الألقاب استخدامها يأتي في عملية البحث عن المكانة في المجتمع، وهي بطابعها ديني، مثل سيدنا تطلق على من ينتمون إلى سلالة الرسول محمد أو حجي لمن حج البيت الحرام أو مولانا، وتطلق على السيد أو من يرتدي العمامة من طلبة الدراسة الدينية أو الآخر المتجاهر بالتدين ويطلق لحيته، ويرتدي بعض الأشياء المكملة لذلك”.
ويلفت طليع، إلى أن هذه الألقاب “تعكس ضعف شخصية من يطالبون الناس بإطلاقها عليهم وفقدانهم القدرة على القيادة أو التأثير بمحيطهم، وكذلك اللقب العشائري فهو سلوك يعكس حجم تخلف المجتمع، والمصيبة أن هناك أسماء مهمة في عالم الثقافة العراقية يدعون إلى التنوير والمدنية، وعندما تبحث عنه تجد أنه يستخدم اللقب إلى جانب اسمه حتى يرضي أبناء عمومته”.
وختم طليع حديثه ، “اليوم العالم يعتنق المساواة بين الناس، ففي الغرب على سبيل المثال أو شرق آسيا في الدول المتقدمة تجد الدكتور والبروفيسور وأصحاب الدرجات العلمية العليا لا يقبل أن يناديه أحد بغير اسمه فقط لا غير، أما عندنا فما زلنا نستحدث ألقاباً لنتفاخر بها ونزور أوراق قبائلنا حتى نثبت أننا من سلالة محمد، وعلى الآخر أن يناديني سيدنا ومولانا”.
دلالة على طائفة أو قومية
بدوره، قال الكاتب والصحافي مجاشع محمد علي، “التراجع الثقافي والتعليمي سمة من سمات عراق اليوم، وأحد أسباب ضعف الدولة وعجزها، وتسبب أيضاً في عدم تطبيق القانون، الذي جعل الفرد يشعر بالقلق وخيبة الأمل في الحفاظ على حياته وممتلكاته مما حدا به إلى البحث عن خيمة بديلة يستظل بها غير خيمة الدولة”.
وأشار علي إلى أن “المواطنين العراقيين وعلى مختلف مشاربهم استشعروا القلق من خطورة غياب الدولة فبحثوا عن بديل لها، فتوجه البعض للعشيرة والتركيز على إضافة الألقاب لاسمه كي يوفر لنفسه الأمان الذي غاب جراء ضعف الدولة”، مؤكداً أن “الألقاب في العراق معروفة، وهي دلالة على طائفة أو قومية، وبعضها يعزز القوة بحسب انتشار وهيمنة هذه العشيرة ومدى مرجعيتها الطائفية، حيث يفتخر ابن الجنوب بقبيلته في الجنوب التي توفر له القوة والحماية، فيما يعتز ابن الغربية بقبيلته في مناطقه”.
وأضاف، “ليس من الغرابة أن تجد مثقفاً عراقياً ليبرالياً يقرن اسمه باسم عشيرته لكي يضيف لنفسه الشعور بالأمان وضمان عدم التعدي عليه أو على منصبه أو حتى ممتلكاته الخاصة”. مشيراً إلى أن “تنامي ظاهرة الألقاب لم تكن بهذا الحجم، حينما كانت الدولة العراقية قوية وتحتكر العنف لنفسها، لكن اليوم تخلت هذه الدولة عن أبرز سماتها، وهو العنف لصالح القبيلة، الحزب أو الميليشيات وحتى المنطقة”.
بعيداً عن المهنية والحيادية
أما الباحثة والأستاذة الجامعية فينوس سليمان، فأكدت أن “أغلب مؤسسات الدولة ومن ضمنها الجامعات وحتى السفارات في الخارج يستخدمون ألقاباً بعيدة كل البعد عن المهنية والحيادية في العمل”.
وأوضحت، “حتى نحقق بيئة عملية صحيحة لا بد أن نبتعد عن كل ما من شأنه أن يدخلنا بخصوصيات ليس لها مكان ضمن تعاملاتنا العامة، وهذا الشيء يحتاج إلى توعية مجتمعية كبيرة ومن الجذور”.
ونوهت إلى أنه لا بد أن نؤكد أننا “لسنا ضد معاني أو رمزيات الألقاب، لكن ضد استخدامها في غير محلها، بخاصة في أماكن العمل، الذي نحن مسؤولون عن أداء واجبنا تحديداً من خلاله بغض النظر عن خصوصية ألقابنا الدينية أو الاجتماعية التي ممكن استخدامها بحرية خارج نطاق مكان الوظيفة أو التعامل الرسمي العام”.