حرية – (15/12/2021)
تزخر العاصمة العراقية بغداد والمحافظات الأخرى بتصاميم معمارية تاريخية ذات جمالية تعود إلى العهدَين العثماني والبريطاني، لكن ما يحدث مختلف تماماً، من بناء بيوت وعمارات تفتقد إلى الطابع العراقي كالشناشيل مثلاً، ولا تمت إلى تاريخ العراق بصلة لا من قريب ولا من بعيد.
وكلما يقترب الزائر من المناطق القديمة للعاصمة بغداد، كالكاظمية والأعظمية وحيدر خانة وباب الشيخ وغيرها، يرى مباني ومعالم يعود تاريخها إلى العهدَين العثماني والبريطاني، إلا أن الإهمال يطال الكثير منها، حتى بات بعض تلك المباني والمنازل والمعالم التاريخية مكاناً ومخزناً للبضائع التجارية، في حين شُيّدت مبانٍ ومعالم ومنازل جديدة من دون النظر وأخذ مكانة وتاريخ وعراقة المدينة في الاعتبار، حيث تشوهت معالم كثيرة في العاصمة العراقية.
العمارة ترجمة للواقع السياسي
ورأت المعمارية والأكاديمية العراقية، فينوس سليمان، أن الحديث حول الموضوع “تمتد أطرافه لتشمل تقريباً أغلب مؤسسات الدولة، ممن لها مسؤولية اتخاذ القرار، والكلام بهذا الموضوع يمكن مناقشته من الجانب الذي يخص المباني التاريخية، التي تُعتبر كنوزاً من الحضارة شكلت هوية البلد من خلال عمارته على مر العصور. نرى في المركز التاريخي في بغداد مثلاً لوحة من كولاج متكامل كل قطعة فيه تحكي جزءاً من تاريخ البلد بكل أبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها. وتشمل هذه اللوحة حتى إرث العمارة الحديثة النادر جداً، وأيضاً تشمل عمارة جيل كامل من المعماريين العراقيين الذين كان لهم أثر كبير في تشكيل هوية العمارة في بغداد”.
وتساءلت فينوس سليمان، “أين نحن من هذا الإرث الغني؟”. وأضافت “من المحزن جداً أن نشهد إهمالاً شديداً لكل ما من شأنه أن ينتمي لهذا الإرث الغني، وأخشى إذا استمر الإهمال بهذا الشكل أن نصل إلى مرحلة يختفي معها جزء كبير من هذا الإرث ماحياً معه تاريخاً بكامله. أين نحن من الحفاظ على نماذج من البيوت ذات البناءات الوسطية والشناشيل؟ أين نحن من الحفاظ على أزقة بكاملها وإعادة إحياء ما كان عامراً فيها؟ أين نحن من الحفاظ على المباني التاريخية في مركز بغداد؟ أين نحن من الحفاظ على مبنى ليه كوربوزيه في بغداد أو مباني رفعت الجادرجي وغيره من المعماريين؟ وعندما أقول حفاظ، لا أقصد المعنى السطحي المتداول وإنما أقصد الحفاظ (preservation) بكل استراتيجياته وآلياته التي تضمن حماية الإرث واستثماره أيضاً على المدى البعيد، من أجل خلق تنمية مستدامة اقتصادية واجتماعية، أساسها هوية المدينة المتأصلة في عمارتها والمؤسسة لمستقبل قوي جذوره عميقة في الأرض”.
وتابعت “عندما أمر في أزقة المركز التاريخي في بغداد، على سبيل المثال في شارع الرشيد باتجاه عمارة ادفيش، مروراً بجامع مرجان التاريخي، وعلى اليسار مبنى مصرف الرافدين، حيث تتسلسل المباني وكل منها يقف شاهداً لتاريخ بكامله ويلخص الحياة في العراق في حقبة زمنية بكل تفاصيلها السياسية والاجتماعية والاقتصادية – تجتاحني حالة شديدة من الأسى، وأرسم صوراً في ذهني من خيال عن ماذا لو كانت هذه المباني محمية ومستثمَرة بطريقة صحيحة، وأتخيل سماع أصوات القبانجي وناظم الغزالي وسليمة باشا تتسلل إلى مسامعي من المقاهي والمحلات القديمة. وأرى عربات الشاي وأماكن الأكل المحلي تفوح من عطر الأصالة. وأتخيل السياحة في قمتها والسياح الأجانب يتنعمون بهذا التاريخ وشبابنا الجميل يستثمر فرص العمل. شباب يعمل وهو فخور بتاريخه ويرى مستقبله بشكل واضح. وتمر علينا نسمة من نهر دجلة الخالد لتحملنا جميعاً في حكاية جديدة من ألف ليلة وليلة. أصحو من حلمي على صوت الحافلات وأتعثر بأكوام النفايات والقاذورات وأرفع رأسي لأرى مباني مهترئة قتلها الإهمال”.
تدمير كامل
وأوضحت سليمان “المصيبة هي أنه حتى ما يتم العمل به على أنه إنقاذ للمكان فهو في حقيقته تدمير بكل ما للكلمة من معنى، لأنه يصمَّم وينفَّذ عشوائياً من قبل غير المختصين من المهندسين في كل المجالات. من الخطير جداً أن يتصور أي معماري أنه قادر على التعامل مع الأبنية التراثية. هذا المجال يتطلب كفاءات متخصصة بمجال الحفاظ التاريخي ومن اختصاصات مختلفة، منها المعماري والمدني والمؤرخون وعلماء الاجتماع وغيرهم”.
وبالحديث عن العمارة المعاصرة، أكدت فينوس سليمان أنه “للأسف، حالها لا يقل أسى عن حال الإرث المعماري الغني. العمارة حالياً تفتقد للأسس الجوهرية التي يمكن من خلالها تأسيس هوية للعمارة المحلية المعاصرة. والأسباب كثيرة وأهمها ما يرتبط بتشريع وتنفيذ القوانين الخاصة بهذا الموضوع”.
وزادت أن “مشكلة الممارسات اللا معمارية المحلية المعاصرة هي أنها فقدت كل ما من شأنه أن يؤسس لهويتها. على سبيل المثال عندما نتكلم عن النسيج المتضام والأزقة البغدادية والبيوت ذات الفناء الوسطي بشناشيلها الرائعة وتفاصيلها التي على الرغم من غناها التنوعي، فإنها كانت استجابة لمعيارين أساسيين. المعيار الأول هو الاستجابة للبيئة المناخية المحلية، والمعيار الثاني هو الاستجابة للمعتقد الاجتماعي والديني ضمن بنية المجتمع. وعلى أساس هذين المعيارين تم تشييد مدن لها من الخصائص والغنى والتنوع ما لم يخرق خصائص بنيته، ما يجعلها على قائمة أفضل الأمثلة لما يمكن أن يُطلق عليه وصف عمارة مستدامة. وعلى أساس هذين المعيارَين تم تأسيس هوية العمارة المحلية ضمن سياق مكاني وزماني محدد، وعلى الرغم من تنوع نتاجاته فإنه يحمل من الأسس المشتركة ما يجعله ذا بنية قوية بكل خصائصها الحية. أما الآن، فما المعيار الذي من الممكن اعتماده لتشييد المباني؟ أين نحن من البيئة المناخية؟ وما المعايير الاجتماعية التي يمكن اتخاذها معيار أساس في تأسيس هوية العمارة المعاصرة؟ أين دور المشرعين؟ وإن وجِدت، ما مدى تنفيذها بأمانة؟”.
وذكرت المعمارية العراقية أن “الشناشيل كعنصر معماري لم يكن جزءاً منفصلاً شكلياً، بل كان جزءاً مكملاً لمنظومة بكاملها ووجوده ضرورة لوظيفته الأساسية ضمن هذه المنظومة، وبالتالي الحل ليس بتكرار عناصر شكلية تم اقتلاعها عشوائياً من بنية العمارة والنسيج الحضري في الماضي وإعادة إقحامها في الوقت المعاصر. إنما الحل يكمن في إعادة النظر في كل ما من شأنه أن يوضح المعايير الأساسية التي يمكن الاستناد إليها في الوقت الحالي لتشكيل هوية العمارة المحلية المعاصرة، والتعلم من آليات عمل التشكيلات المعمارية الناجحة في عمارة الآباء وعمارة الأصول والجذور”.
ويرتبط بهذا كله الجانب السياسي في البلد، وفقاً لفينوس، مبيّنةً “فالعمارة هي في حقيقتها ترجمة للواقع السياسي في أي سياق، متى ما أصبح لنا رؤية واضحة ومدروسة في كل ما سبق نستطيع فقط حينها البدء بخطوة إيجابية باتجاه تأسيس هوية العمارة المحلية المعاصرة في بغداد والعراق، متعلمين وآخذين في الاعتبار غنى تجارب الماضي وعمارة الجذور”.
مشهد شبيه لما تعرضت له بغداد على يد هولاكو وجنوده
ورأى الكاتب أحمد صبري في مقال حول الموضوع، أنه “في الوقت الذي يهتم العالم بتراثه وتاريخه ويحوّل الآثار القديمة إلى متاحف ومعارض فنية، نرى العمارة البغدادية مهدَّدة باندثار هذه الرموز التي تروي قصة مدينة كانت حاضرة العالم، وهي تقاوم للحفاظ على وجهها الذي يشارف على الاندثار من فرط الإهمال الذي طاول مدينة بغداد، لا سيما بعد احتلال العراق في العام 2003”. وأضاف “من هذا الإحساس بوقف التطاول على بغداد وتاريخها، ناقشت نخبة من المهتمين والمتخصصين بالعمارة البغدادية وسبل الحفاظ على موروث وحداثة مدينة بغداد وتراثها العربي والإسلامي أخيراً عبر ندوة مكرسة لإبراز مكانة بغداد وموروثها التراثي والحضاري وسبل تكريسه في عملية الحداثة الموعودة”.
وتابع “عرض الباحثون والمهتمون بالعمارة البغدادية وإعادة وجهها المشرق رؤيتهم حول مكانة بغداد ودورها في الموروث، والحفاظ على سماته وخصوصيات النسيج الحضري التقليدي البغدادي وعمارتها التراثية الإسلامية، وكيفية الحفاظ على أبنية الحداثة في بغداد وضرورة وقف التسارع نحو الزوال. وعلى الرغم من تعرض هذه الرموز للإهمال، فإنها تمثل شاهداً على تاريخ بغداد والإهمال والتغيرات الكثيرة التي شهدتها. وبيوت بغداد القديمة تتشابه في تفاصيل رئيسة بتصاميمها وبجماليتها ودقة تفاصيلها وطرق بنائها”.
وأشار صبري إلى أن “منازل بغداد تعتمد، كما يقول مسؤول الإعلام في أمانة بغداد سليم البكر، على الهواء الذي يدخل الأقبية ليبرد ويصعد نحو (الحوش)، مسبباً عملية تهوية مستمرة، وأن نظام هذه البيوت بيئي ومتكامل، وناجح من خلال عناصر عدة، منها الشناشيل، التي تضفي الجمالية على الواجهة والخصوصية للعوائل، وتمد الأزقة بالظلال في أغلب أوقات النهار”.
ولفت صبري إلى أن “معظم هذه البيوت والمباني تحولت إلى مجرد ديكورات، خصوصاً بعد هجرة أهاليها، إضافة إلى أن استمرار الإهمال من دون عمليات منظمة لإعادة بنائها أو ترميمها يهدد باختفاء آثار هذه البيوت ويجعلها جزءاً من الماضي خلال سنوات معدودة، على الرغم من غياب العدد الكلي للمباني والبيوت القديمة، وتعرض أغلبها للهدم والتخريب والبيع بطرق مشبوهة لاستغلال أراضيها للبناء الحديث”.
ويرى مهتمون بالعمارة البغدادية وسبل الحفاظ على هذه الصروح ضرورة في استصدار قوانين ملزِمة لمنع أصحاب هذه المنازل التاريخية من التصرف فيها كونها وجه بغداد القديم والجميل، في حين يستمر العمل لمعرفة العدد الحقيقي للمنازل التي تحتاج إلى الترميم والتأهيل، وفقاً للكاتب.
وأقر صبري بأن “رموزاً لتاريخ بغداد كانت عرضة للنهب والاستباحة بعد احتلال بغداد من قبل لصوص نهبوا ودمروا وجوهها ورموزها… في مشهد شبيه لما تعرضت له بغداد على يد هولاكو وجنوده… غير أن هذه المدينة قاومت على مرِّ التاريخ غزوات واحتلالات، ودفعت أثماناً باهظة لوقف معاول الهدم والتخريب التي حاولت أن تغيّب تاريخ مدينة كانت عصية على الأعداء بمرور الأزمنة”.
يطال الاهمال مبانٍ تاريخية في بغداد حتى بات بعضها مخزناً للبضائع التجارية (اندبندنت عربية – عبد الهادي مهودر)