حرية – (10/1/2022)
لم تخترع وسائل التواصل الإجتماعي اختصاراتها وأحرفها وحسب، بل ومعاني الكلمات في لغتها الجديدة أيضاً
تمكّن الشباب حول العالم منذ نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي من اختراع لغة خاصة بهم تتماشى مع وسائل التواصل الاجتماعي والسرعة المطلوبة في الرد والنقاش والتعبير عن الرأي، لذا يمكن القول إنها لغة اختصارية، حيث تقوم مجموعة من الأحرف باختصار كلمات وجمل كاملة، مثلاً بالإنجليزية لم تعد تكتب (you) بل (u) و(are) باتت (r). فالاختصار لا بد منه في الرسائل النصية أو في كتابة نص أو تعليق عبر شبكات التواصل، لكن الشباب الذين لا يتكلمون الإنجليزية ولا يكتبونها، أضافوا أحرفاً جديدة على اللغة اللاتينية كي يتمكنوا من قراءتها، وذلك في بدايات ظهور غرف “التشات” حين كانت الإنجليزية اللغة الوحيدة للتواصل، وكان الشباب العرب على رأس هؤلاء المغيّرين في اللغة، فاستخدموا الأرقام كأحرف، مثل الرقم 3 الذي أصبح حرف العين، وغيره من الأرقام التي باتت ترمز لأحرف ويستخدمها الجميع.
مصطلحات الأجيال المختلفة
لكن وسائل التواصل الاجتماعي لم تخترع اختصاراتها وأحرفها وحسب، بل ومعاني الكلمات في لغتها الجديدة أيضاً، وهذا ليس صنيعها وحدها، والأمر ليس سابقةً، فكل جيل جديد من الشباب وتحديداً في المراحل التغييرية الكبرى يجد “لغته” ويُصار إلى تعميمها تلقائياً على سائر المجتمع على الرغم من ممانعة كثير من المتزمتين الرافضين لكل تجديد تحت حجة الحفاظ على التراث الثقافي مثلاً. فالاعتراض على الجديد في كل الحقول هو أمر طبيعي ويملك حججه الكثيرة، وعلى رأسها الحفاظ على الخصوصيات المجتمعية التقاليد والعادات للشعوب. فعلى صعيد اللغة مثلاً، حددت الأمم المتحدة أياماً احتفالية كثيرة خلال العام من أجل الحفاظ على اللغات الأصلية، أو لغات القبائل والمجتمعات المنغلقة، حمايةً للتنوع الثقافي.
أيام كثيرة ومؤسسات وجمعيات ومنظمات وحكومات، كلها تعمل من أجل الحفاظ على الثقافات المحلية ومنعها من الاندثار، كونها إرث للثقافة البشرية العامة، كما الأشياء المادية التي تركتها الشعوب القديمة مثل الأهرامات أو اللوحات الفنية أو منحوتات العصر الحجري. فالذاكرة أساسية في انتقال الثقافة بين الشعوب. لكن هذه الدعوات والأعمال لا تمنع اللغات الجديدة التي تختص بجيل بعينه من الشباب، من الدخول تلقائياً في مصطلحات وكلام الجميع، ومن ثم تنتقل إلى القواميس اللغوية أو إلى الكتب المدرسية، كما حدث في معظم بلاد العالم. لكن هذه اللغات تختلف من جيل إلى آخر، كل بحسب أهوائه وظروفه وانتماءاته الأيديولوجية والتقنيات المتوفرة له. لو أخذنا جيل الستينيات والسبعينيات كمثال قريب زمنياً، والذي جرى في مرحلة إنقلابية ثقافياً واجتماعياً ودولياً، أي بعد الحرب العالمية الثانية التي نتج عنها كثير، أولاً منظمة الأمم المتحدة وقبلها إعادة رسم الخرائط والبلدان، هذا على الصعيد السياسي، ولكنها أنتجت أيضاً مدارس فنية مثل السوريالية التي اعتبرت أن جنون الحروب يمكن مجاراته بالفنون أيضاً والانتصار عليه بمزيد من الجنون. والحرب الثانية أنتجت أيضاً الحرب الباردة، ومنها حرب فيتنام، التي أنتجت الجيل الرافض للحرب الذي يطالب بالسلام في أنحاء العالم، ورفْض تحقيق مصالح الدول والحكومات والشركات الكبرى على حساب الشعوب التي تطلب العيش بأمان، وترافق هذا الرفض مع اختراع أنواع مختلفة من المخدرات المهلوسة وعلى رأسها “أل أس دي” الذي انتشر بين الشباب الثوريين سلمياً ورافضي العنف في الولايات المتحدة وفي أوروبا وأنحاء العالم، وظهرت أنواع جديدة من الموسيقى، وانتشرت انتشاراً سريعاً في أرجاء المعمورة، وصار مغنو الفرق الموسيقية من أشهر المشاهير في حينها، وليست فرقة البيتلز إلا مثالاً على ذلك، وحتى منظّرو وفلاسفة هذا العهد باتوا من المشاهير أيضاً، وفلاسفة “مدرسة فرانكفورت” كإريك فروم وهربرت ماركيوز وفيلهلم رايش وحنة أرندت لا يزالون حتى اليوم من بين المشاهير بعد استخدامهم لعبارات لم تكن موجودة قبلهم من قبيل “تشييء الإنسان” وتحويله إلى آلة. ولكن مما أنتجته الحرب الباردة أيضاً، فكان لغة جديدة في حينه. وهذه اللغة مستعارة من مصطلحات الحرب الباردة نفسها، فهي إما قريبة من الأيديولوجيا السوفياتية أو من الأيديولوجيا الرأسمالية التي شهدت أعلى مراحل ليبراليتها مع الرئيس الأميركي رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر. فظهرت عبارات مثل “العدالة الإجتماعية” و”الاشتراكية الدولية” و”الدوغمائية” و”الاستغلال الطبقي” إلخ، وفي مقابلها تكرست عبارات مثل “الحرية الفردية” و”الرأسمالية الموجهة” و”العالم الحر” وغيرها من العبارات. وما كان يُظهِر هذه العبارات وكأنها لغة جديدة هو عدم فهمها من أهل هؤلاء الشباب ومعظم الناس الآخرين. فمن أجل نشر مثل هذه العبارات كان لا بد من شرحها للآخرين سواء عبر وسائل الإعلام أو في الكتب والمناقشات الحامية، أو عبر انتقال الأيديولوجيات إلى الأحزاب السياسية في بلدان العالم الثالث التي انحازت لهذا الطرف أو ذاك بين عملاقي الحرب البادرة في حينه.
لغة جيل الألفية الثانية
جيل الألفية الجديدة يملك لغته أيضاً. في بحثه الذي حمل عنوان “لغة الشباب والمراهقين المعولمة”، كتب الدكتور نادر سراج، أستاذ الألسونية في الجامعة اللبنانية في عام 2002، أي في بدايات ظهور اللغة الجديدة أن “لغة الشباب تتميز عن اللغة المتداولة بين البالغين بأنها أكثر واقعية، وأكثر غنى من اللغة الأساسية، التي تميل أكثر إلى التجريد والوصف الموجّه، ثم إنها أشد اقتصادية وتبعث شعوراً بالارتياح، أكثر من اللغة المعقّدة المتداولة بين البالغين.
وتعبر هذه اللغة عن المشاعر الشخصية بطريقة أفضل من اللغة الواقعية العادية، كما أنها تُسهم في تبسيط أجواء الحوارات، وذلك مرده إلى عدم وجود قواعد صارمة أو معقدة. لذا تُعد لغة مطواعة ومناسبة لسياقات النقاش والحوار”. وبالطبع منذ نشر ذلك البحث، ظهرت لغات جديدة كثيرة في وسائل التواصل الإجتماعي، وبرزت مصطلحات خاصة بروادها، وباتت معتمَدة في معظم دول العالم، ولكن يبقى تعريف الدكتور سراج صالحاً لتعريف لغات ومصطلحات اليوم.
والاهتمام بنزوع الشباب إلى ابتكار لغة خاصة، ليس جديداً ويعود إلى نهايات القرن العشرين. إذ شهد عام 1984 صدور أول كتاب وضعته بالفرنسية مجموعة مؤلفين شبان مغمورين بعنوان “حركات الموضة مشروحة للأهل” من أجل ردم الهوة بين الأبناء وأهلهم الذين شعروا بغرابة الكلمات الجديدة ذات الدلالات المستجدة.
أما الألمان فأصدروا معجماً للغة الشباب الألمان VollKonkret الذي أعده هرمن إهمن في عام 2001، وكان الكتاب الثالث الذي يصدره المؤلف في إطار معالجته لموضوع تطور لغة الشباب في البيئة الثقافية الألمانية. وعنوان الكتاب يعني لغوياً في اللغة الصحيحة “منتهى الواقعية”، لكن الشباب الألمان كما الفرنسيين والعرب استخدموه بما يعنيnormal أو “عادي”.
هناك لغات ومصطلحات كثيرة ظهرت وستظهر بشكل دائم طالما أن المجتمعات والثقافات في حال من التطور التقني والتواصلي، خصوصاً بسبب اندماج الثقافات والحضارات في ما يُسمى “العولمة”، التي أسهمت وستسهم في اندماج وتخالط الكلمات والتعابير. فهذا النوع من اللغات “لا يتقيد بالمعايير والقواعد اللغوية المألوفة أو المتعارَف عليها، بل إن ما يميزها هو الطابع العولمي الذي يتمثل بالاستخدام المطرد لخليط من الكلمات والتعابير الوافدة، من غير لغة عالمية وحية، في التخاطب اليومي والحر”، برأي الدكتور سراج المبكر في حينه.
ويرى اختصاصيو اللغة والتعبير في العالم أسباباً موجبة لظهور ونشوء اللغات والمصطلحات الجديدة. وهي تتركز في نواح عدة على رأسها المنحى الاحتجاجي، لأن اللغة المكتوبة أو المتكلَمة هي الوسيلة الأولى التي تسمح للشباب بإبداء الاحتجاج على اللغة “المستهلَكة” التي يستعملها البالغون. و”هي تشيع في صفوفهم أيضاً باعتبارها مناقضة للقواعد والتقاليد اللغوية والاجتماعية”.
وهناك حاجة الشباب إلى تمييز أنفسهم عن سائر الفئات العمرية الاجتماعية بطبائعم الغريزية، ولو لم يكن الأمر مجرد احتجاج. فالشباب عموماً يكونون بيولوجياً في مرحلة متوسطة ما بين الطفولة والمراهقة ومن ثم النضج، وهذه المرحلة الانقلابية تدفعهم إلى تمييز أنفسهم عن غيرهم في كل شيء، بدءاً من الملابس وتسريحة الشعر إلى اللغة والمصطلحات.
ثم هناك المنحى العملي، أي إن سرعة التواصل بين شخصين مثلاً، الذي بات يحدث في اللحظة نفسها، على عكس الرسائل الورقية التي كانت تحتاج إلى أشهر للوصول إلى المرسلة إليه، أو حتى الرسائل البريدية الإلكترونية التي كان بالإمكان الرد عليها في أوقات متباعدة من وصولها. أما اليوم فالردود على الرسائل مهما كان نوعها بات يحدث في اللحظة نفسها وعبر محادثات مكتوبة، وهذا ما يدفع الشباب إلى تعجيل الكتابة بأكثر قدر من الاختصار، من جهة، وبمصطلحات جديدة باتت تشير وتعبر وتفسر وتسمي أشياء لم تكن موجودة في الزمن السابق على وصول الهاتف المحمول الموصول في لحظة بالإنترنت والمليء وبالتطبيقات التواصلية من جهة أخرى.