حرية – (10/5/2022)
الفيلسوف الذي تعمق في العلوم الإنسانية وأرسى قواعد الموسيقى ورسم مسار النهضة الفكرية
يُعد الفيلسوف أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان الفارابي (874-950م) أحد أكبر الفلاسفة المسلمين الذين رسموا للنهضة الفكرية العربية مسارها المشرق، وأعدوا للأجيال منارات تستضيء بها للقادم من الأيام. وإن اختُلف في نسب الفارابي إلى بلاد فارس أم إلى تركمانستان، فإن الثابت أنه تلقى علوم العربية، في مدينته فاراب، وما لبث أن انتقل إلى مدينة بغداد في عز نهضتها العلمية، والفكرية والفلسفية، وخالط فيها كبار المترجمين والمناطقة، فأخذ علوم الحكمة والمنطق من الحكيم أبي بشر متى بن يونس، مثلما قرأ على الحكيم النصراني يوحنا بن حيلان من مدينة حران.
الفارابي الفيلسوف الموسوعي (موقع “فلاسفة مسلمون”)
ولم يكتفِ الفارابي من التبحر في علوم الفلسفة، ومواكبة كشوفات المترجمين ومشاركتهم جدالاتهم في شؤون الفكر اللاهوتي (لدى النساطرة واليعاقية، وغيرهم) إبان نقلهم التراث الفلسفي والعلمي اليوناني إلى العربية والسريانية، بل رأيته أيضاً منصرفاً إلى العلوم الإنسانية والفنون مثل الموسيقى، من أجل إدراك أسرار صناعتها؛ فوجدناه يتعمق فيها، وينجز إحدى روائعه “كتاب الموسيقى الكبير” في مصنف ضخم (1200 صفحة) دليلاً على شغفه بالفن الذي كان يهواه في فتوته وشبابه، وعلامة على نبوغه ونفاذ بصيرته، وريادته، وموسوعيته التي ألزم بها من بعده الفلاسفة وكتاب النهضة الأولى، في العصر العباسي، ودعاة النهضة الثانية، أوائل القرن التاسع عشر، وصولاً إلى يومنا. حتى قيل إن الكتاب (الموسيقى) لم يتسنَّ للباحثين، إلى أيامنا هذه، مقاربته بمصطلحات زمننا الدقيقة، وبمعايير علومه المتداخلة في يومنا هذا نصرةً للإنسان المتطلع إلى تفتح مواهبه، ودفعاً له للتخفف من آثار الضغط النفسي عليه، وكان الفارابي أول من ابتدع سبيل المعالجة النفسية بالموسيقى!
المقولات العشر
كتاب “المدينة الفاضلة” (نيل وفرات)
وبالعودة إلى إنجازات الفيلسوف في علم المنطق والفلسفة، يورد الباحثون الكثير، وأهمها، كتاب المقولات العشر، المتضمن: المغالطة، والشعر، والسماع الطبيعي، والسماء والعالم، والآثار العلوية، والمختصر في المنطق، والمدخل إلى المنطق، معظمها تفاسير وتأويلات لما جرى نقله عن اليونانية باعتباره أعمال أرسطو، المعلم الأول، وكتاب الخطابة (20 مجلداً)، حتى صح اعتباره، من قبل مجايليه، المعلم الثاني، بعد أرسطو، معلمه والمترسم سبيله.
وللفارابي أيضاً كتب أخرى في غير المنطق، وعلى نهج موسوعيته التي طبعت معارفه، ومنها: مدخل إلى الهندسة الوهمية، وكلام في الشعر والقوافي، وإحصاء العلوم والتعريف بأغراضها، وكتاب الحروف، الذي يجدر بنا أن نلفت الانتباه إليه، بعد حين.
على أن ثمة عملاً، بل رائعة أخرى من روائع الفارابي، أجمع الدارسون في الغرب على الاحتفاء بها، وترجمتها إلى لغات بلدانهم الكثيرة، هو كتاب “آراء أهل المدينة الفاضلة” الذي شاءه الفارابي مقابسة للفيلسوف الأول أفلاطون، في مدينته الفاضلة. إذاً، ينطوي الكتاب على مقالات متتالية، ومتكاملة في ما بينها، ويواصل الفيلسوف من خلالها بسط رؤيته الفلسفية الأخلاقية المثالية، وفيها ينسب إلى المدينة الفاضلة خير الصفات؛ إذ يجعل أهلها يطلبون السعادة، من خلال فضيلة أثيرة هي الحكمة. ومن ثم يختار للمدينة الفاضلة رئيساً ذا عشر صفات عليا، تخوله أن ينزل فيها بمنزلة القلب، ويحوز مكانة المحرك لعناصرها. وفي مقابل المدينة الفاضلة، أقر الفارابي بوجود أصناف من المدن تنأى عن الفاضلة، بل تضاد وظائفها، مثل المدينة الجاهلة، والمدينة المبدلة، والمدينة الضالة، وهذه جميعها تخالف المدينة الفاضلة بأفعالها ومظانها مخالفات متدرجة ومتباينة.
كتاب آخر (دار ومكتبة الهلال)
ومن المآثر الكثيرة التي خلفها الفارابي، والجديرة بالإضاءة عليها جيلاً بعد جيل، سلوكه بل زهده بمتاع الدنيا ومباهجها، وهو العلامة الأشهر في زمنه، والفيلسوف المالىْ الدنيا بنظراته العميقة. مثلما عُرف عنه ميله إلى الاستكانة، وحب الطبيعة وركونه إليها، حين الكتابة. وإيثاره التقشف والاكتفاء بالقليل، كفافاً للعيش وإتماماً للنشاط الفكري والفلسفي، نظير ما عرف عنه حين قدم إلى إمارة بني حمدان بحضرة سيف الدولة، وكيف أنه ارتضى بأربعة دنانير منه لقاء مأكله وإقامته لديه.
العقل الفعال
أما الناظرون إلى فلسفته، والمتأملون في الفوارق بينه وبين من تأثر بهم، أو نقل عنهم معدلاً في المنقول وفقاً للتراث العربي، وانسجاماً مع الشرع الإسلامي، فإنهم يقرون له بتبيينه الفارق بين النبي والفيلسوف، باعتبار أن كليهما يتلقى الحقائق وينقلها إلى الآخرين؛ وبينما تكون هذه الحقائق القصوى مستمدة من الله تعالى ومُنزلة لدى النبي، يكون مصدرها لدى الفيلسوف العقل الفعال، وبالتالي فإن طبيعتها تكون عقلية.
ومن تصورات الفارابي، ومفاهيمه أيضاً نظريته في الوجود التي يناقشها في كتاب “آراء أهل المدينة الفاضلة” وفي كتاب المقولات العشر، وغيرهما، ولا سيما نظريته في الصدور والفيض المستمدة من فلسفة أفلاطون.
على أن إجحافاً كبيراً يلحق بالفيلسوف الكبير الفارابي إن لم يسعَ الباحثون اللغويون، وعلماء الألسنية، وجمهور القراء العرب ممن يشوقهم التراث العلمي العربي ويهمهم تأصيل علومهم الحاضرة بمأثور الماضي، إلى معاودة النظر في “كتاب الحروف” لما فيه من آراء سديدة، ونظرات علمية صائبة وجديرة بأن تؤسس لفقه اللغة العربية، أو لما سمي لفلسفة اللغة العربية، بالتزامن مع التفكر الفلسفي وصوغه. ولعل مكانته الكبرى في هذا الشأن، تكمن في اكتشافه “ازدواجية المعنى بين النحويين والمناطقة” لدى استخدام الطرفين الكلمات نفسها، واستخلاصه أن ثمة مصطلحات فلسفية لكل منها دلالة مناسبة وفقاً للرؤيا الفلسفية العامة. ولدى تصنيفه معاني الألفاظ في اللغة العربية، وجد أنها تتدرج من المعنى الحسي إلى المعنى العقلي للفظ الواحد، مثاله على ذلك لفظ “الجوهر”. ومن ثم يخلص الفارابي إلى لزوم التفريق بين المصطلحات العلمية، سواء الداخلة منها في علم الفلسفة أو في الصنائع العامية، والشروع لاحقاً في تخصيص كل ميدان بمعجمه المتداول، وإن منبثقاً عن لغة عربية مشتركة. وهذا لعمري مستهل لما يدعى، اليوم، بالإبيستمولوجيا أو درس المصطلحات العلمية، في لغة معينة، ووضع معايير لصوغها وتصنيفها طمعاً بالفعالية والإبداعية في المجال.
ثم إن الفارابي، المؤمن بالله الأحد، والمستنير بالعقل الفعال، واللائذ بالمنطق سبيلاً إلى الأحكام والقياس والاستنباط، في النظر إلى أمور الدنيا وما بعدها، كان قد رأى إلى المرأة على أنها “مساوية للرجل من حيث هيئتها وقدراتها الذهنية” وأنها ليست أضعف منه، ولا أقل شأناً في نوعية وجودها، إلى جواره، وفي عهدة اختباراته وسعادته.