حرية – (27/4/2022)
عندما تعثر على قطعة مميزة … أو بالأحرى عندما تعثر هي عليك- يخالجك شعور لا يقدر بثمن” (غيتي)
تتنقل هيني الشابة البالغة من العمر 25 عاماً بين صفوف لا تنتهي من علاقات [مشاجب] الثياب بيضاء اللون، الممتدة إلى أبعد ما يمكن للعين أن تراه، وتقوم بتفحص المعروضات من ملابس مستعملة من ماركة “فيرساتشي”، وقمصان “NRA” الأميركية، وبنطلونات قصيرة، وسترات متعددة الألوان لا تحصى ولا تعد.
وفيما كانت تهمس قائلة: “إنني أشتري في بعض الأحيان قميص أطفال صغيراً وألبسه كقميص قصير”، قاطعتها إحدى المركبات الصغيرة ذات العجلات الثلاث “توك توك”، وهي تشق طريقها بين المتسوقين، مطلقة بوقها لتنبيههم بوجوب إفساح المجال.
عربات الـ”توك توك” هذه، هي المركبات الآلية الوحيدة التي يمكنها التنقل داخل هذا الشارع الأسمنتي، الذي كان في السابق طريقاً باتجاهين، وهو القطاع الرئيس لما تسمى “الوكالة” (تعرف أيضاً بـ”وكالة البلح”) وهي منطقة تسوق شعبية لمختلف السلع المستعملة قليلة السعر في القاهرة. وتقع في بولاق، أحد أقدم أحياء الطبقة العاملة في المدينة، وهو مكان ظهر في سبعينيات القرن الماضي نتيجة تأثير الثقافة السياسية والتغيير الاجتماعي.
تقول الشابة زينة سليمان وهي فنانة ومبدعة تبلغ من العمر 19 عاماً: “تعد ’الوكالة بالنسبة إليّ مكاناً رائعاً، إنها الوجهة الرائدة للألبسة والإكسسوارات”. وتضيف: “لقد توقفت قبل نحو عامين عن الاهتمام بالموضة السريعة، وبت أجد صعوبة في العثور على ما يتلاءم وذوقي في اختيار الملابس من مراكز التسوق ذات العلامات التجارية المعروفة. لكن في ’الوكالة’ إذا ما بحثت جيداً، فإنني على يقين من أنني سأجد قطعة مناسبة، حتى لو لم تكن مثالية، إذ أعلم أن في استطاعتي تعديلها وابتكار منتج رائع”.
وتضيف الشابة ضاحكة: “لا يمكن طبعاً إغفال البائعين الذين تتعرف عليهم مع مرور الوقت. ويبدو أن مجموعة منهم باتت تتابع صفحتي على ’إنستغرام’، المليئة بصور ملابس أشتريها من ’الوكالة’”.
أحد هؤلاء الباعة هو زياد النحاس الشاب الذي يبلغ من العمر 24 عاماً، وهو موسيقي مصري ترعرع في هذا الحي. ويقول وهو يشير إلى مبان سكنية قديمة مؤلفة من ثلاثة طوابق ذات لون فيروزي لامع: “ولدت في بولاق، هناك بالتحديد، وترعرعت في حي فقير ومعدم. انظر إلى هذه المنازل، كم هي جميلة. أقوم بتصوير جميع مقاطع الفيديو الموسيقية الخاصة بي هنا، لأنه لا يوجد مكان مثله. الموقع نفسه يلهمني ويعطيني أفكاراً جديدة”.
لم تتغير معالم “الوكالة” منذ أن أبصر كل من زياد وهيني النور. لكن المنطقة كانت في صلب عجلة التجارة والصناعة في مصر لقرون عدة. وشكل حي بولاق الذي تقع فيه، مركزاً لأسواق بيع الأخشاب والتوابل والتمور.
ويوضح عاطف عوض الجالس في عمق أحد متجريه في الشارع الرئيس- بعيداً من صخب الضوضاء في الخارج – أن “بولاق هو المكان الذي أنشأ فيه الفرنسيون في أواخر القرن الثامن عشر، أول دار طباعة في مصر. إنه موطن أول محطة للسكك الحديدية، ومحطة كهرباء، ومحطة مياه، وصحيفة ومجلات في البلاد.
الحي كان في وقت سابق منطقة صناعية معروفة بالأخشاب والحديد. وكان بولاق الميناء الرئيس للعاصمة المصرية القاهرة، ما جعله بطبيعة الحال مركزاً للتجارة. وفي ستينيات القرن الماضي، بعد وقت وجيز من إطاحة النظام الملكي في مصر، أمر (الرئيس المصري الراحل) جمال عبد الناصر صاحب الشخصية الكاريزمية والصارمة معاً، بتشييد مبنى تلفزيون “ماسبيرو” – الذي ما زال يضم أقدم هيئة إذاعية تديرها الدولة في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا- وأبراجاً فوق حي بولاق.
بعد الهزيمة المرة التي تلقتها مصر في حرب عام 1967 بين العرب وإسرائيل، توقف مشروع الاشتراكية العربية. ووقع خليفة عبد الناصر الرئيس أنور السادات معاهدة سلام مع إسرائيل، فاتحاً البلاد أمام الاستثمارات الأجنبية.
ويقول عوض في وصف تلك الفترة: “بدأت جميع ورش العمل تغلق أبوابها هنا، وتحول الحي إلى سوق للخردة المعدنية، وخردة الآلات الحربية، وأي نوع من أنواع الخردة الأخرى. أما سوق الملابس المستعملة فنشأت في أواخر سبعينيات القرن الماضي، تحديداً في عهد السادات. في البداية، كانت الملابس المستعملة تستخدم لحشو الأثاث والفرش- ولم تكن تستخدم كلباس. لكن عندما أخذت معدلات الفقر ترتفع في البلاد في عهد (خليفة أنور السادات الرئيس حسني) مبارك، أصبحت منطقة ’الوكالة’ وجهةً ومقصداً للفقراء”.
ويتابع قائلاً، إن “التجارة هي بالطبع أسهل بكثير من التصنيع. وكي يتم اليوم تصنيع أي منتج بجودة مناسبة، ستكون الكلفة كبيرة. لكن هذا النوع من التجارة تأتي بضائعه من أوروبا مجاناً إلى حد ما. أما الكلفة الكاملة لفرزها وتوضيبها وشحنها فهي رخيصة. إن هذه التجارة هي في الأساس أشبه بإعادة تدوير. لكننا لا نعيد تدوير الملابس المستعملة، بل نبيعها كما هي. وقد دفعت الموضة بعدد من شباب الجيل الجديد إلى الإقدام على طلبها”.
أمنية جاد امرأة عمرها 54 عاماً، تتولى إدارة مستودع ملابس من إنتاج مصممين مصريين ودور أزياء رائدة في القاهرة. اشترت أول جينز لها من منطقة “الوكالة” في التسعينيات، وهي تواظب على التسوق فيها مرات عدة في الأسبوع. وتقول، إنه “في الماضي، كان الباعة يلقون بأي نوع من الملابس أمام متاجرهم، من دون التفكير في طريقة لعرضها بمظهر جمالي. لكنهم باتوا الآن يدركون ما هو مطلوب، إذ يقومون بعرض الملابس القديمة- كالقطع الراقية القديمة والمميزة من أوروبا- في واجهة المتجر”.
أما أحمد سرور الشريك التجاري لأمنية وهو مصمم أزياء شهير، فيقول: “عندما أسير في الشارع، يقوم الباعة بالتمعن في مظهري الخارجي لمعرفة قياسي، فيعدلون اقتراحاتهم لي بناء على ذلك- وإذا كنت أرتدي ملابس فضفاضة فيعرضون أمامي ما يشبهها”.
على الجانب الآخر من نهر النيل في مواجهة حي بولاق، تقع جزيرة الزمالك الفاخرة، التي تؤوي عدداً من المبدعين الشباب الذين يتسوقون من “الوكالة”.
ويشهد تسوق الملابس العتيقة إقبالاً ويحظى بشعبية في القاهرة، كما هي الحال في أي مكان آخر. أما بالنسبة إلى الذين لا يجرؤون على المغامرة بالدخول إلى هذه السوق المكتظة- حيث يمكن التعرض لخطر الاصطدام بعربة “توك توك”، أو لتنمر البائعين والمتسوقين- فتوجد صفحات على “إنستغرام” لبيع قطع ملابس عثر عليها في “الوكالة”، لكن بسعر مضاعف، أو بثلاثة أضعاف الثمن التي بيعت به في الأساس.
وعلى الرغم من ذلك، تبدو الشابة هيني عاقدة العزم وغير عابئة بكل تلك التفاصيل. وترى أن “الملابس هنا هي بمثابة تعبير سياسي. فقد شكلت ’الوكالة’ صدمة للتسلسل الهرمي الطبقي في صناعة الأزياء. ومن الرائع حقيقة أنني أستطيع العثور على سترة ’جيفنشي’ بسعر 70 جنيهاً مصرياً (أقل من 4 دولارات أميركية). لكن ذلك يتسبب بمعضلة بالنسبة إلي، فالتسوق في مكان يهدف إلى خدمة الفقراء بشكل أساسي يمثل مشكلة، علماً مرة أخرى، أن ذلك يظل أفضل من شراء ملابس من علامات تجارية مثل ’زارا’ Zara و’أتش أند أم’ H&M، التي تسيء معاملة موظفيها الذين يعملون في ظروف أشبه بالعبودية في جنوب آسيا”.
على الرغم من أننا أصبحنا في منتصف شهر رمضان، فإن منطقة “الوكالة” تظل خلية نحل كما هي حالها دائماً. لكن مع اقتراب فترة بعد الظهر وانخفاض الحرارة، يبدأ أصحاب المتاجر الصائمون في الاستعداد لتناول وجبة إفطارهم وتهدئة مزاجهم.
منير نصر شاب في الثالثة والعشرين من العمر، عثر للتو أثناء تنقله بين صفوف علاقات الثياب، على قميص زهري ذات أزرار، يحتوي على تفاصيل شفافة في ياقته. ويقول مطلقاً نكاتاً وهو يلتقط الصور مع البائعين: “عندما تعثر على قطعة مميزة في ’الوكالة’- أو بالأحرى عندما تعثر هي عليك- يخالجك شعور لا يقدر بثمن”.