نضال منصور
على حافة الهاوية؛ هكذا بدت العلاقات الأردنية الإسرائيلية في الأيام الماضية بعد حملة اتهامات، وتوبيخ، ومكاسرة سياسية بين الجانبين أشعلتها خروقات المستوطنين في القدس، والمسجد الأقصى.
ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة للانتهاكات الإسرائيلية، فبينما كان العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني يجري عملية جراحية في فرانكفورت، كان المستوطنون بحماية قوات إسرائيلية يقتحمون المسجد الأقصى، وهو ما يعتبره الأردن عصفا بوصايته للمقدسات، وخرق واضح لاتفاقية السلام.
جُن جنون القادة الإسرائيليين من التصريحات الحادة، وغير المسبوقة لرئيس الوزراء الأردني بشر الخصاونة الذي “حيّا الذين يقذفون الحجارة على الصهاينة”، وهي لغة ليست معتادة دبلوماسيا، واللافت أنها تصدر من رئيس للحكومة لا يكثر من التصريحات، وغالبا ما يفضل الصمت.
تصاعدت وتيرة المواقف الأردنية المعادية لإسرائيل في شهر رمضان، فالبرلمان وقع على عريضة تطالب بطرد السفير الإسرائيلي من عمّان، وسحب السفير الأردني من إسرائيل، ووقف الاتفاقيات الثنائية، وهو ما اعتبرته إسرائيل ذرا للرماد بالعيون، وليست سوى “مسرحية” تعمدها النظام في الأردن لامتصاص حالة الغضب من أزماته في الداخل.
لا تتعامل إسرائيل بجدية مع تصعيد اللهجة السياسية أردنيا، وتنظر لهذا الوضع على أنه طارئ، وسحابة صيف عابرة، وتقول علنا وليس سرا إن البرلمان الأردني الذي وقع 88 نائبا منه على مذكرة تطالب الحكومة بوقف العلاقات مع إسرائيل لا يملك هذا القرار، والأمر بيد الملك وحده.
في اللحظات الأولى لاقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى بدت الحكومة في عمّان مرتبكة، وتائهة، وتزن الرد المطلوب في ظل غياب الملك، وتقول إسرائيل في صحافتها أن تقاريرَ عن الوضع في المسجد الأقصى تسللت إلى قصر الملك، ونُقلت على عجل إلى المستشفى في فرانكفورت، فاتخذ القرار فورا بالسماح للمتظاهرين في الأردن بإغلاق الشوارع كنوع من التنفيس.
قناعة القيادة الإسرائيلية أن كل ما يحدث في عمان مبرمج، ومناورة سياسية، وهي لا ترى حالة الغضب، والغليان في الشارع، ونظرت لخطاب رئيس الحكومة بشر الخصاونة بأنه “تحريضي”، متجاهلة جذر المشكلة، وماتقوم به من خروقات يومية.
برأي الشارع الأردني أن ما قاله الخصاونة هو أفضل ما فعله منذ تسلمه رئاسة الحكومة، وستبقى تصريحاته بأن “اليهود يدنسون المسجد الأقصى، والأردن يقف على قلب رجل واحد فيما يتعلق بالقدس والمقدسات” حاضرة، وعالقة في الأذهان، وتعطيه قوة للمضي، وزخما شعبيا.
“القدس خط أحمر” هذا ما يردده الأردن منذ سنوات، وتمضي إسرائيل متجاهلة ملاحظات سياسية مفصلية، أهمها: أن مشروعية الحكم الهاشمي ترتبط بشكل وثيق بالمقدسات الإسلامية والمسيحية، والسعي إلى تقزيم هذه القضية الحساسة، أو تجريده منها، لا يمكن القبول به، أو السكوت عنه، وهي وثيقة الصلة بفكرة “الوصاية الهاشمية” التي تعطيه قوة في المحيط العربي، والإسلامي، والدولي، وورقة بيده تُجبر الجميع على العودة له واستشارته، وتمنع القفز عنه؛ حتى يظل حجر الزاوية في أي مفاوضات الآن، أو مستقبلا.
إذن النظرة الإسرائيلية للغضب الأردني أنه مسرحية، ومناورة، تصور ساذج، لا يُعاين احتياجات، ومصالح النظام، وربما يكون الأمر مقصودا في ظل تحولات الموقف الإسرائيلي، التي لم تعد تتبنى نظرية سادت لعقود طويلة، ومفادها؛ أن أمن الأردن ونظامه من أمن إسرائيل.
يستشعر الأردن أن اقتحام المستوطنين للأقصى مقدمة لتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، ولهذا فإن الخصاونة يقول صراحة “لمسنا مدخلا لتقسيم مكاني وزماني للمسجد الأقصى، وهو ما لا نسمح به، ونتصدى له”.
استكمل الأردن على ضوء قناعاته حملة التصعيد، فالملك وكعادته أقام إفطارا رمضانيا للقيادات الدينية في مدينة القدس، وهذا بحد ذاته يحمل رسالة سياسية بامتياز، والحضور مسلمين، ومسيحيين، وعرب الداخل يعطون تفويضا سياسيا له، ووزير الخارجية يستدعي نائب السفير الإسرائيلي في عمّان ويوبخه، والملك والرئيس الأميركي بايدن يتفقان على ضرورة منع تكرار الاعتداءات على مدينة القدس.
إسرائيل لم تصمت، ولم تقف مكتوفة الأيدي في مواجهة التصعيد السياسي الأردني، رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت اعتبر تصريحات الخصاونة “جائزة” للمُحرضين، وإسحق ليفانون، الكاتب في صحيفة معاريف، وصفها بالضارة، والكاذبة، والمُهينة، وأن إسرائيل لن تكون كبش فداء لأزمة النظام الأردني، والملك مطالب بلجم حماسة رئيس وزرائه، مذكراً أن هناك من يعتقد في إسرائيل أن الأردن هي فلسطين، رغم أن هذا ليس الموقف الرسمي لإسرائيل.
المكاسرة الأردنية الإسرائيلية في القدس لم تتوقف، رغم الهدوء النسبي، وعمّان اعتبرت على لسان وزير خارجيتها قرار إسرائيل بوقف زيارات غير المسلمين إلى المسجد الأقصى خطوة في الاتجاه الصحيح، تُحافظ على التهدئة، وتُنهي العنف، ولكن الأردن يُدرك أن ظهره غير مسنود سياسياً، وأنه إلى حد بعيد وحيد مع الفلسطنيين في المواجهة.
عملية السلام ليست أولوية أميركية حتى عند إدارة الرئيس بايدن، والعالم منشغل في الحرب الروسية على أوكرانيا، وإسرائيل تغير الواقع، والحقائق كل يوم على الأرض، وأكثرية أنظمة الحكم العربية لا يتصدر أجندتها التصدي للانتهاكات الإسرائيلية، وتنظر لتطبيع العلاقات مع إسرائيل باعتبارها ضرورة لولوج البيت الأبيض، وضرورة لقبول عالمي لها، حتى تحظى بالدعم، وغض النظر عن “خطاياها” السياسية، والحقوقية.
أمير المؤمنين “أردوغان”، الزعيم التركي أدار ظهره، واستقبل الإسرائيليين في قصره بشكل مهيب، وطهران تقصف إسرائيل كلاميا كل يوم، ولكن كل الجبهات معها هادئة، وحتى أنصارها وميلشياتها التزموا الصمت، ولم يطلقوا صاروخا، أو رصاصة واحدة، على الأقل لمغازلة شارعهم، وتهدئة خواطرهم، وشوارع القدس تشتعل، ولا بواكي لها.
تسير عمّان على حبل مشدود، فاستمرار التصعيد مع إسرائيل إلى ما لانهاية ليس خيار السلطة السياسية، وتعرف أنه مكلف سياسيا، وأمنيا، وفي المقابل السكوت، وإغماض عيونها، و”تطنيش” الخروقات الإسرائيلية يخرجها من اللعبة السياسية، ويحرجها، ويضعفها شعبيا، وقد يكون بيئة خصبة لانفجارات الداخل، والأسلم لها “براجماتية” تُتيح لها هوامش للتصعيد، والتهدئة، فلا تخضع للإرادة الاسرائيلية، ولا “تطيش” على هدير الشارع.