حرية – (8/5/2022)
غفران يونس
سجل مهم لمدن ضاربة في القدم تشكو الإهمال ويغيب عنها السياح
آثار بابل تعرضت للتخريب بعد عام 2003 بعدما اتخذها الجيش الأميركي ثكنة عسكرية له
قد تقترن آثار العراق بشريعة حمورابي أو القبور الملكية في أور أو آثار نمرود أو آثار بابل، ولعل هناك مدناً تحت الأرض تخبئ خفايا لم نعرف تفاصيلها، فما إن نتابع خريطة العراق للمواقع الآثرية نجد أنها تضم 18 ألف موقعاً أثرياً، بينما ما كُشف عنه الغطاء حتى الآن، هو أقل من 500 موقع.
ويتفق علماء الآثار على أن حضارة العراق، ذات طابع استثنائي، ولعل أهم ما أنتجته هو اختراع الكتابة من قبل السومريين في النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد، الذي هيأ وسيلة لتسجيل المعرفة ونقلها، كما أنها شكلت وسيلة لازدهار العلم والأدب. وباختصار، إن اختراع الكتابة أسهم في خلق الحضارة.
وشاءت الصدف ألا يجد كتبَة العراق القديم، أيسر وأسهل من الطين يدونون فيه الكلمة، فالطين بخلاف سائر مواد الكتابة التي استعملتها الحضارات الأخرى لا يفنى، فحفظ لنا طين العراق تدوين أولى التجارب الرائدة في تاريخ البشرية، فمنه عرفنا ما أنتجته حضارات العراق من مخترعات وتعاليم وقوانين نظمت الحياة في تلك العصور.
الإهمال يطارد الآثار
يطال آثار العراق وهي الكنوز التاريخية الشاخصة حالياً، كثير من الإهمال، إذ تشهد المواقع الأثرية أعمال صيانة لفترات قليلة لتعود وتُهمَل مجدداً، ما يعني خسارة موارد مهمة للبلد بعد أن تتحول من مناطق لجذب للسياح من داخل العراق وخارجه، إلى مناطق متروكة ومهملة.
ليس الإهمال وقلة التنقيب للكشف عن مزيد منها، هو ما تعاني منه آثار العراق فحسب، بل إن هناك عوامل بيئية أخرى تطال هذه الآثار، إذ قد تتعرض هذه المباني بسبب ارتفاع تركيز الأملاح في التربة والعواصف الرملية المتكررة إلى التآكل، فتغيب عنا أسرار هذه المدن بالسلالات التاريخية التي مرت عليها وملوكها وما أنتجته هذه المدن من عمران وصناعات.
القصر الرئاسي في بابل الذي يطل على نهر الفرات من جهة وآثار بابل من الجهة الأخرى
آثار على لائحة التراث الثقافي العالمي
وقال أستاذ علم الآثار في كلية الآثار جامعة القادسية، جعفر الجوذري، إن “العراق يضم 6 مواقع أثرية معلَنة على لائحة التراث الثقافي العالمي وهي قلعة أربيل والحضر وبوابة أشور وملوية سامراء وآثار بابل. ويمكن تقسيم هذه المواقع الستة إلى 3 أصناف، الصنف الأول الذي يمتلك بنيةً تحتية مناسبة لاستقطاب السياح كما هي الحال بالنسبة لآثار قلعة أربيل، أما الصنف الثاني فهو من دون بنية تحتية ملائمة لجذب السياح، وهذا الصنف يضم آثار الحضر وبوابة آشور. أما الصنف الأخير، فهي مواقع أثرية تضم طرقاً معبدة، وأماكن استراحة، ومن الممكن تأهيلها بصورة أفضل وهي آثار بابل وسامراء. ورأى الجوذري أنه “بالإمكان إعداد خطط لـتأهيل المواقع الأثرية في المحافظات. و لو سعت كل محافظة عراقية لتأهيل موقع واحد كل سنة، فسنحصل بعد 10 سنوات على عدد كبير من المواقع الأثرية المؤهلة بشوارع مبلطة وأسلاك طاقة كهربائية وشبكة مياة صالحة للشرب وأماكن استراحة وباصات نقل. بالتالي تتحول هذه المناطق إلى مصدر جذب للسياح من مختلف دول العالم، وتكون مصدراً مهماً من مصادر الدخل للبلاد”.
كنوز أثرية
وتركت الحضارات العراقية كنوزاً أثرية لا حصر لها، إذ إن حضارة الوركا، وهي من المدن العراقية الضاربة في القدم، يرجع زمن تأسيسها إلى الألف الخامس قبل الميلاد، تركت “مسلة الإله لاما” وهي نصب من رخام أبيض فيه صورة منحونة لـ”الإلهة لاما” منقوش عليها بكتابات مسمارية.
أما مدينة النمرود التي تقع إلى الجنوب الشرقي من محافظة الموصل، فتُعد من المراكز الحضارية المهمة للإمبراطوية الآشورية واتخذها الآشوريون مركزاً لحكمهم منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وتركت هذه الحضارة معالم أثرية مهمة مثل معبد عشتار وزقورة نمرود ومعبد نابو. كذلك مدينة أور وهي الحاضرة السومرية التي ذاع صيتها في مختلف المراحل التاريخية في الجنوب الغربي لمدينة الناصرية، فأبرز معالمها هي زقورتها. وقد بلغ الفن العراقي ذروته في هذه المرحلة في النحت وصناعة الذهب وصناعة الأختام والقصور والمعابد وتقدم فن التعدين وسبك وصب المعادن والصياغة.
أما مدينة نفر (نيبور) في محافظة الديوانية فيعود تاريخها إلى أكثر من 7000 سنة ق.م، فكانت العاصمة الدينية للسومريين والبابليين، وخلفت لنا تراثاً مهماً في مجال الزراعة، إذ احتوت على أقدم المعلومات حول الزراعة والري، وقد دوِّنت المعلومات على رقيم طيني، وتُعد أقدم تقويم معروف في تاريخ الحضارة عن الأساليب الفنية للسقي والزراعة المتبعة في تلك الأزمنة القديمة.
السياسة مجدداً
وأكد أستاذ علم الآثار في جامعة القادسية، جعفر الجوذري، على “ضرورة إدخال إصلاحات وتعديلات على قانون الآثار العراقي رقم 55 لعام 2002 بهدف تسهيل وتشجيع عملية استثمار المواقع الأثرية محلياً ودولياً من أجل تأهيلها وجعلها مناطق لجذب السياح”.
في سياق آخر، أوضح علي كاظم، وهو صاحب شركة سياحية، أن “هناك إهمالاً حكومياً لهذه المناطق المهمة”. وأضاف أن “قطاع السياحة يتأثر كثيراً بغياب الأمن والظروف السياسية المتأزمة”. وعليه يرى كاظم أن “استقرار الوضع الأمني وأبعاد قطاع السياحة عن تأثير الأحزاب سيُسهم في جلب المستثمرين إلى المناطق الأثرية، فأغلب هذه المناطق بحاجة إلى فنادق وطرق معبدة لكي تكون مكاناً حقيقياً لجذب السياح”.
تأهيل الآثار والتنقيب عن الجديد منها
في السياق، قال رئيس الهيئة العامة للآثار والتراث، ليث مجيد حسين العبودي، إنه “من المؤمل أن تبدأ علميات التنقيب في المدن الأثرية، فهناك 18 بعثة، ما بين عراقية وأجنبية من جامعات عالمية رصينة ومؤسسات مهمة، بدأت التنقيب فعلاً في جنوب العراق وجنوب بغداد، أسفرت عن الكشف عن الكنوز الأثرية”. وأشار العبودي إلى أن “أعمال الصيانة مستمرة في مدينة بابل ومدينة أور والوركاء فضلاً عن القصر العباسي والمدرسة المستنصرية والقشلة، ومن المنتظر وصول بعثة إيطالية للتنقيب عن الآثار في مدينة المدائن ببغداد التي تضم طاق كسرى، أما آثار نفر (نيبور) فستقوم بعثة أميركية بالتنقيب هناك”.
ويرى العبودي أن “أعمال الصيانة الحالية ترافقها عملية تسييج المواقع الآثرية لغرض حمايتها والقضاء على عملية التجاوز على المناطق الأثرية بالتعاون مع شرطة الآثار ومحاسبة المقصرين للحد من هذه التجاوزات”.
موقع زقورة أور الذي يتألف من عدة طبقات يعلوها معبد صغير يسمى بالمعبد العلوي
العراق بحاجة إلى متاحف
لا يمكن للآثار المكتشَفة أن يطلع عليها السياح أو يستفيد منها الدراسون في مجال الآثار، من دون وجود متاحف متخصصة بمواصفات عالمية تحافظ على القطع الأثرية المعروضة. ويعاني العراق من قلة المتاحف مقارنةً مع حجم الكنوز التي أنتجتها حضارة وادي الرافدين، فعلى سبيل المثال تضم مدينة بابل الأثرية متحفَين للآثار، هما متحف نبوخذ نصر ومتحف حمورابي. وأعيد افتتاح متحف نبوخذ نصر في عام 2017 بجهود ذاتية من الموظفين القائمين عليه بالتعاون مع الهيئة العامة للآثار. وقال ميثم شبر، معاون متحف بابل، إن “المتحف لا يتسع لكثير من القطع الأثرية”، مشيراً إلى أن “أقدم قطعة أثرية فيه هي واجهة الأسد التي كانت تزين بوابة عشتار وتعود إلى عصر نبوخذ نصر الثاني”. وتطلع شبر إلى أن يرى مقترح إعادة تأهيل القصر الرئاسي (يقع قرب مدينة بابل الأثرية ويطل على نهر الفرات) النور قريباً، بعد رصد التخصيصات المالية له، والاعتماد على الشركات العالية المتخصصة في إنشاء المتاحف، خاتماً بأن الـ”يونسكو” “اشترطت تحول القصر الرئاسي إلى متحف لآثار بابل، وسيتسع لكل آثار المدينة، إذ سيتم عرض كل القطع الخاصة بآثار بابل الموجودة حالياً في المتحف الوطني العراقي”.
وفي هذا السياق، أفاد رئيس الهيئة العامة للآثار والتراث بأن “هناك إعادة تأهيل لقاعات المتحف العراقي، وسيتم افتتاح قاعات جديدة مثل قاعة الصراف للمسكوكات بعد إعادة تأهيلها. ومن الخطط المستقبلية التي نأمل أن يتم تحقيقها بشكل سريع، فكرة إنشاء متحف العراق الكبير على غرار المتاحف العالمية”.