حرية – (18/5/2022)
بقيت رائحة الصابون على مدار سنوات عجاف تقاوم طيفاً واسعاً من روائح البارود والحرب في سوريا، ذلك العطر المُنسلّ من جوف خانات وحوانيت عتيقة بمدينة حلب، شمال البلاد، ثابرت خلاله أيدٍ ماهرة بالحفاظ على إرث أجدادهم كحكاية حرفة لم تنتهِ فصولها، تتناقلها الأجيال بتراث مغرق القدم يمتد لآلاف السنين، لكنهم سطروا إنجازاً تلو الآخر بإنتاج قطعة واحدة هي الأضخم في العالم.
الأولى من نوعها
“تُعد حلب من المدن الفريدة في صناعة الصابون التراثية، خصوصاً أن فصولها الأربعة تتناسب مع عملية (التصبُّن)، ولن تكون للقطع المنتجة في أنحاء العالم ما يشبه جودة الصابون الحلبي مهما كانت”. بهذه العبارات يروي المتخصص بصناعة الصابون، غيث عرب، حكاية إنتاج حرفيي مدينته لأكبر قطعة صابون في العالم، يبلغ وزنها 1500 كيلو غرام، حيث باشرت الأيدي الماهرة بصناعتها بعد الحرب.
وقال عرب، إن الظروف الاستثنائية، التي تمر بها المدينة، أدت إلى عدم وصول خبراء موسوعة غينيس إلى “قطعة الصابون تلك، التي تُعد الأولى من نوعها، وهي مرشحة للدخول من دون منازع، لتحطم الرقم القياسي للمرة الثانية”.
لقد تمكّن الحرفيون في حلب من تحطيم الرقم القياسي في عام 2006 بأكبر قطعة صابون وزنها 950 طناً، وهو الأمر الذي شجع إلى العودة ومحاولة الكرة مجدداً.
وأضاف المتخصص والممثل عن المجموعة الحرفية “دقّة قديمة”: “بحسب المعلومات الموثوقة لدينا، حاولت الصين دخول الموسوعة العالمية بـ15 طناً، لكن غينيس رفضت ذلك، لأنها لم تصنع قطعة الصابون بالمواصفات المطلوبة الشبيهة بصابون حلب، الذي يدخل به زيت المطراف، وهو الزيت المصنوع بطريقة الصابون الحلبي، وليس بالزيوت المهدرجة”.
ما علاقة أجواء المدينة؟
يتموضع “خان صابون الدقة القديمة” في مكان قريب من قلعة حلب (أكبر قلاع العالم، حسب منظمة اليونيسكو للثقافة والتراث)، وأعاد تجار ترميمه وتأهيله بعد أن لحقه من دمار، وافتتح قبل عام، لقد وضع الحرفيون قطعة “الطن ونصف الطن” في صدر المكان كتذكار على مكانة حرفتهم.
وعن حكاية الصابون صاحبة آلاف السنين، قال عرب إن هناك عوامل عدة أكسبت حرفة صناعة الصابون المتوارثة شهرتها وأدخلتها للتراث العالمي، بل وارتبط اسم الصابون بـ”حلب”، كل ذلك مرده إلى الطقس الذي تتفرد به المدينة.
وأضاف، “يمكن صناعة الصابون في كثير من المدن، لكن ليست كل المدن كطبيعة وطقس حلب الممتاز بفصوله الأربعة، على سبيل المثال لا يمكن صناعته في اللاذقية (غرب البلاد) لأن الرطوبة عالية، وفي حمص (وسط سوريا) نسبة البرودة عالية، وهذا غير مناسب، يمكن صناعة الصابون، ولكن ليس بالجودة ذاتها”.
وعن المدن العالمية، التي تشبه أجواء مدينة حلب، قال عرب، “هناك مدن حاولت أن تستفيد من طقس يشبه حلب، منها مدن تركية قريبة منها، لكن نسبة نجاحها لم يتجاوز 70 في المئة، ولم تصل إلى الجودة المطلوبة”.
رائحة النظافة تعبق بالمكان
في هذا المكان العابق بالروائح العطرة والزكية يتوافد طالبو قطع صابون (الغار)، كما يطلق العامة على الصابون الحلبي، وتلتف أكوام منها على شكل أهرامات لأشهر الصناعيين والحرفيين كتبت أسماؤهم عليها “برسم الأمانة” إلى حين عودتهم للعمل بعد توقف بعض المصابن عن العمل.
الحاج جودت الصافي، أحد الصناعيين، قال، “توجد في حلب مصبنتان صغيرتان، والباقي خارج المدينة، لقد أثرت الحرب على الصناعيين، لكنهم يعودون إلى العمل بتواتر”.
وأضاف الصافي، “تدخل شجرة الزيتون المباركة بصناعة الصابون، فبعد عصر الثمار المقطوف بغية استخراج الزيت للطعام، هناك ما نسميه في عالمنا عالم (المصابن) بالعصرة الثانية أي يستخرج منه زيت يطلق عليه (المطراف)، وبعد عمليات الغلي والتقطيع والتجفيف، التي تستمر لأيام متواصلة يجمع العمال القطع على شكل خلايا نحل لسهولة التجفيف، وحتى يتخلله الهواء ليكون جاهزاً للاستعمال والتسويق، وحتى التصدير خارج البلاد”.
المهنة المتوارثة واليد المنتجة
بين الركام، عاد الحرفيون للعمل، وعلى الرغم من المتاعب، ومشقة تأمين مستلزماتهم، فإنهم نهضوا كطائر فينيق يمارسون صناعتهم بحب وشغف بأعقاب عام 2017، حينما وضعت الحرب أوزارها عن كامل أجزاء المدينة المتصارعة بشقيها الغربي والشرقي، إثر تسوية روسية أفضت إلى خروج قوات المعارضة إلى خارج حدود المدينة، حيث نقلوا بحافلات إلى مدينة إدلب، شمال غربي البلاد.
ليس بمقدور الزائر لخانات مدينة “الشهباء” القديمة إلا أن يصاب بإعجاب يلازمه مدى الحياة دونما أن تغيب عن مخيلته حارات وشوارع المدينة وأزقتها مع الذوق المعماري الرفيع في البيوت والساحات العامة، على الرغم من حسرة بقية تختلج بالنفس لدمار تسببه الحرب الأخيرة على حلب بأسرها، قد لحق بأسواقها كل هذا الخراب، وهي المسجلة على لائحة التراث العالمي كأطول الأسواق المسقوفة، وبين كل ذلك ما زالت رائحة صابون الغار نافذةً إلى صدور كل زائر يعشق حكايات المدن العتيقة.