حرية – (22/6/2022)
كان ستيف جوبز مؤسس شركة “أبل” كشف عن أول نموذج لجهاز “آيبود” عام 2001
حين حدثت شركة “أبل” الشهيرة جهازها الأيقوني “آيبود” عام 2019، ظنت أجيال بأكملها أنها في مأمن من التحديث، وبعيدة كل البعد من التطوير، الذي يأتي على أخضر الذكريات ويابسها.
لكن قبل أيام قليلة، وقع نبأ توقف “أبل” عن إنتاج الجهاز كالصاعقة على كل من ودع مرحلة الشباب، إذ كان يمثل ماضيهم الجميل وذكرياتهم مع الموسيقى وكان في حينها ثورة من ثورات الاستماع والاستمتاع.
أسوأ ما في الأمر أن ما بدا بالأمس القريب، تحديداً عام 2001 ثورة في عالم الموسيقى، وطفرة في التكنولوجيا، وخطوة غير مسبوقة على صعيد تخزين الأغنيات والاحتفاظ بها، أصبح رسمياً اليوم ابتكاراً أكلت عليه “أبل ميوزيك” وشربت عليه تقنيات الاستمتاع وتطبيقات الاستماع.
الاستماع إلى مجريات احتفالية “ألف ليلة في جيبك” اليوم يبدو وكأن ما قيل وجرى وتم الإعلان عنه في تلك الليلة جرى قبل قرنين ونيف وليس عقدين وعام.
هذه الأيام وتلك
البعض يقول إن هذه الليلة بدت وكأنها الأمس القريب، والبعض الآخر يؤكد أنه لم يسمع عنها من قبل. مساء يوم 23 أكتوبر (تشرين الأول) عام 2001، وقف مؤسس شركة “أبل” ستيف جوبز أمام جمع من الحاضرين، وذلك بعد أشهر من التكهن حول الجهاز الجديد، الذي تلمح إليه “أبل”، الذي يحتوي على موسيقى بشكل أو بآخر، وأعلن قرب طرح مشغل موسيقي ثوري أصغر من كف اليد اسمه “آيبود”.
وقف جوبز بملابسه “الكاجوال” وهو يحمل هذا المشغل الصغير جداً أمام جمهور مأخوذ بهذه الروعة، وذلك الحجم الذي كان متناهي الصغر في تلك الأيام، حتى وإن بدا متناهي الكبر هذه الأيام. ترقب وضجة وبهجة وعيون متسعة لفرط الإبهار، هذا الجهاز الصغير في كف يد جوبز سيحمل “ألف أغنية”. ضرب من الخيال، لكنه أصبح حقيقة.
الموسيقى ستظل موجودة إلى الأبد
كان ستيف جوبز، مؤسس شركة “أبل”، كشف عن أول نموذج لجهاز “آيبود” عام 2001، وصاحب ذلك كثير من الضجة والترقب. وكان “آيبود كلاسيك” أو “آيبود” اختصاراً، الذي لم يكُن أول مشغل موسيقى، لكنه أولها من حيث الثورية والإبهار والقدرة والإمكانات، والأهم من كل ذلك سهولة الاستخدام ويسر التشغيل.
“ألف أغنية أو مقطع موسيقي في جيبك” جملة دغدغت مشاعر الملايين في أنحاء المعمورة. ولأن الموسيقى جزء لا يتجزأ من حياة الجميع، إلا في ما ندر، فقد جاءت كلمات جوبز في تلك الليلة ثاقبة وعميقة، على الرغم من بساطتها الشديدة.
تحدث جوبز لمدة ساعة كاملة عن المشغل الموسيقي الثوري الجديد، لكن الكلمات التي يحفظها كثيرون عن ظهر قلب هي التي قال فيها: “الموسيقى جزء من حياة الجميع. الموسيقى ستظل موجودة إلى الأبد”.
إصدارات “آيبود”
من سعة استيعابية لم تتعدَّ الخمسة غيغابايت وقت تم طرح الـ”آيبود كلاسيك” عام 2001، إلى إصدار ثانٍ في العام التالي، وهو يشبه الأول مع إضافة خاصية التوافق مع نظام “ويندوز” بدلاً من نظام “ماك” فقط، ثم جاء الإصدار الثالث عام 2003 أكثر رشاقة وأقل سماكة وبحوافٍ أكثر انحناء، وصدر الجيل الرابع عام 2004 باسم “آيبود فوتو” بواجهة أكثر جاذبية وسعة 20 غيغابايت مع إمكانية تصفح الصور ولحق به إصدار خاص في العام ذاته وكان مزوداً كذلك بإمكانية التوصيل بشاشة التلفزيون أو شاشات العرض مع زيادة سعة الشحن ليعمل 15 ساعة متواصلة. كما صدر “آيبود ميني” الصغير جداً، وكذلك “آيبود فور جي”.
لكن عام 2005، كان الموعد مع إصدار ثوري جديد لـ”آيبود”، الذي أتاح إمكانية تشغيل مقاطع فيديو قصيرة، وبعدها بقليل صدرت نسخة أخرى محدثة، فأصبحت الشاشة أنسب لعرض الفيديو ومدة التشغيل أطول، إلى جانب إمكانية البحث عن المقاطع الموسيقية.
كما ظهر “آيبود نانو” الذي يخزن المحتوى على “ذاكرة متنقلة” (فلاش ميموري). وتوالت الإصدارات تحوي تحديثاً لإمكانات الشاشة أو جودة الصوت والصورة وغيرها من التقنيات، التي شملت تحريك الشاشة باللمس (تاتش) عام 2015 وصولاً إلى إصدار “آيبود تاتش سفن جي” عام 2019، ثم بدأت قصة نجاح “آيبود” المذهلة بالخفوت والاندثار.
ابن العم مسؤول
خبراء أسواق التقنيات الرقمية يحمّلون ابن العم “آيفون” في عائلة “أبل” مسؤولية وضع كلمة النهاية أمام الـ”آيبود”، الذي ظلت مبيعاته تشكل جزءاً معتبراً من أرباح الشركة طيلة سنوات حياتها وازدهارها حتى عام 2006، لكن منذ أطل هاتف “آيفون” برأسه في الأسواق، بدأ “آيبود” بالتقهقر وتجرّع مرارة الشيخوخة، هذا التجرع لم يستغرق وقتاً قصيراً، بل ظهرت ملامحه عام 2010.
ويبدو أن مبيعات “آيبود” وصلت إلى مستويات محرجة، وفقدت القاعدة الجماهيرية شغفها بها مفضلة “آيفون”، وهو ما دعا “أبل” إلى التوقف عن تفنيد مبيعات “آيبود” في بند منفصل، وذلك عام 2014 وكان آخر تحديث للجهاز عام 2019.
عام 2014، اعترفت “أبل” بتراجع مبيعات “آيبود” بنسبة 52 في المئة، مقارنة بعام 2013. وتنبأت الشركة بمزيد من التراجع “المتوقع والمنطقي”. فالأشخاص الذين اشتروا “آيبود” على مدار أعوام توجهوا إلى شراء “آيفون” أو “آيباد” (اللوح الرقمي المسطح). والمقصود بـ”آي” هو “إنترنت” وليس “أنا” كما يعتقد البعض.
ذكاء وواقعية
يبدو أن قادة المبتكرات الرقمية لا يتميزون فقط بالذكاء والموهبة، لكنهم يتمتعون كذلك بالواقعية المفرطة البعيدة من الرومانسية الآتية من العصر الورقي. عام 2007، وبينما جوبز يطلق الهاتف المحمول الثوري الجديد “آيفون”، قال: “إنه أفضل آيبود صنعناه على الإطلاق”. حملت كلمات جوبز لمحة من المستقبل القريب، فـ”آيفون” يغني عن “آيبود”، وامتلاك كليهما لا معنى له.
نوستالجيا الموسيقى
لكن المعنى المثار حالياً رومانسي من الطراز الأول، ويتعلق بنوستالجيا الماضي بشبابه وعنفوانه وأحداثه وموسيقاه وسرعته وحداثة الحاضر، إذ إن الشباب أصبحوا كهولاً وشيوخاً والعنفوان تحوّل إلى بطء والأحداث باتت ذكريات والموسيقى أصبحت تذاع في محطات “زمان” والسرعة تحولت إلى بطء وحكمة.
حكمة اتخاذ قرار وقف تصنيع وبيع “آيبود” والاكتفاء بما هو معروض حالياً “حتى نفاد الكمية” لا يعني أبداً أن باب “آيبود” وذكرياته أغلق تماماً، فما لا يقل عن 450 مليون “آيبود” بيعت في جميع أنحاء العالم، بحسب أرقام شركة “أبل”، تعني وجود بضعة ملايين من البشر ما زالوا يملكون هذا الجهاز الأيقوني في مكان ما.
ربما يكون ملقى في ركن “الكراكيب” تحت الفراش أو فوق خزانة الملابس. وقد يكون المتبقي منه أطلال لم يصُنها الأبناء وأتى على ما بقي منها الأحفاد. وقد يكون مجرد ذكرى لماضٍ ولى ودبر بحلوه ومرّه، لكن إشهار قرار الإيقاف حرك أحزان الملايين من كهول وشيوخ هذا العصر المتراوحة أعمارهم بين الـ30 وما فوق ممن ارتبطت ذكرياتهم في مرحلة ما بـ”المرحوم”.
“أرقد في سلام” و”نأمل في أن تجد الراحة بعد أن أسعدتنا لأعوام طويلة” و”لن ننساك” وغيرها من عبارات التأبين، أمطر بها مقتنو “آيبود” أثير منصات عدة، وذلك في وداع المشغل الموسيقي الأيقوني. حتى مسؤولو “أبل” ودعوا “آيباد” وداعاً لم يخلُ من رومانسية وداع الحبيب.
نائب الرئيس الأول للتسويق العالمي في “أبل” غريغ جوسوياك قال إن الجهاز “أعاد تعريف كيفية اكتشاف الموسيقى والاستماع إليها ومشاركتها”.
البحث عن الفقيد
ومن جميع أنحاء العالم، هرع رجال ونساء للبحث عن هذا الـ”آيبود” الملقى هنا أو هناك. منهم من صوّره ونشر الصورة على “تويتر” أو “فيسبوك” أو “إنستغرام” أو غيرها، مع تمنيات بأن يرقد في سلام، أو مصحوبة بوعد أن يبقى هذا العزيز مصدراً للموسيقى والبهجة لآخر لحظة.
وفي حال لم يتبقَّ من المشغل الأيقوني سوى أطلال أو الجسم الخارجي أو صورة من الأرشيف، توالت عبارات التأبين “ألف أغنية ومليون ذكرى”، “نهاية حقبة”، “الأجهزة ترحل والأسطورة تبقى”. وتبقى مقولة ستيف جوبز وأسطورته مثالاً حياً. رحل “آيبود” ورحل ستيف جوبز وبقيت الموسيقى.