حرية – (28/6/2022)
بعد أن فرضت الدول الغربية عقوبات على الأصول الروسية في الخارج رداً على الحرب في أوكرانيا، بدأت لعبة القط والفأر فيما يتعلق بتلك الثروة في سويسرا بين الجهات الرقابية والأوليغارشية. فقد جاء الدور على قطاع السلع الفاخرة الآن لكي يُخضع للتدقيق.
صرح محقق يعمل على استرداد الأصول الدولية بشأن المستشارين الماليين السويسريين الذين يعملون مع مَن طالتهم العقوبات من العملاء الروس قائلاً لSWI swissinfo.ch: “لا يمكنك الاتصال بهم عبر الهاتف هذه الأيام”. وأضاف: “إنهم يعملون على مدار الساعة”.
منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير، أيدت سويسرا العقوبات الاقتصادية الأوروبية ضد روسيا والتي تشمل تجميد الأصول المملوكة للدولة الروسيةرابط خارجي والأوليغارشيين الروس المقربين من فلاديمير بوتين، وحظر المعاملات المالية في الأعمال التجارية المرتبطة بقطاع الطاقة الروسي الحيوي، وتجارة السلع الأساسية مع روسيا.
ومن المؤكد أن المحققين السويسريين الذين يبحثون عن الأصول الخاضعة للتجميد ينتظرهم عملاً شاقاً. وكما أظهرت تحقيقات صحفية متعددة في الثروة الخارجية على مر السنين، فإن الأفراد الأثرياء، وليس فقط الأوليغارشيين الروس، استخدموا منذ فترة طويلة هياكل قانونية معقدة لنقل الأصول إلى الشركات التي يشار إلى ملكيتها في كثير من الأحيان باسم الدمى الروسية المتداخلة: أي كيان قانوني مملوك لكيان آخر وهكذا دواليك.
وقال فلوريان ماينفيش المتحدث باسم أمانة الدولة للشؤون الاقتصادية ( SECO )في سويسرا ومدير فرقة العمل المعنية بالأوليغارشية الحكومية: “إن التقارير عن أصول الأشخاص الخاضعين للعقوبات ترد باستمرار إلى أمانة الدولة للشؤون الاقتصادية”. وأضاف: “بما أن هذه العملية لا تزال جارية على قدم وساق، فإن التقارير التي وردت فعلياً لا تمثل سوى حالة انتقالية متغيرة وغير مكتملة”.
وأوضحت الأمانة أنه بإمكان البنوك والسلطات المحلية وسلطات الكانتونات وشركات التأمين والأفراد وجماعات المجتمع المدني أو أي أحد يشتبه في وجود ممتلكات أو أصول مملوكة لأشخاص خاضعين للعقوبات في سويسرا أن يبلغ فرقة العمل عن وجود مثل هذه الروابط. أما المحامون الذين يعملون بأية صفة غير صفة الدفاع عن موكلهم في المحكمة، حتى بوصفهم مؤتمنين، فإنهم “ملزمون” بالإبلاغ عن أي أصول يمكن إخضاعها للعقوبات.
ومن الأمثلة على التحديات التي تواجهها الجهات الرقابية في وضع أيديها على الأصول الروسية في البلاد، تتمثل في الأخوين روتنبرغ. فوفقاً لتقرير نشرته صحيفة “لو ماتان ديمانش” السويسريةرابط خارجي، فإن أركادي روتنبرغ وشقيقه بوريس، اللذين وصفهما رئيس الوزراء البريطاني بأنهما “مقربان” من الرئيس الروسي، استخدما هياكل أنشأها بنك في جنيف لإخفاء هوية المالك الحقيقي للأموال. وكشفت صحيفة فاينانشال تايمزرابط خارجي أن الشقيقين قد أُجبرا على بيع طائراتهما الخاصة بعد أن أنهى بنك كريدي سويس السويسري عقود الإيجار.
إخفاء الثروة بعيدا عن الأنظار
كان حجم الاصول المستهدفة متفاوتا إلى حد كبير، فوفقاً للتقديرات المتحفظة للبنك الوطني السويسري، وتراوحت قيمة الأصول الروسية في سويسرا لعام 2021، بين 25 مليار دولار تقريباًرابط خارجي (24 مليار فرنك سويسري) لودائع العملاء والودائع الاستئمانية، وما يصل إلى 200 مليار فرنك سويسريرابط خارجي (209 مليارات دولار) وفقاً لجمعية المصارف السويسرية. وأعلنت الحكومة الشهر الماضي عن تجميد 6،3 مليار فرنك سويسري من الأموال بدلاً من 7،5 مليار فرنك سويسري، وذلك بعد أن أُفرج عن بعض الأموال بسبب “عدم كفاية المبررات” رابط خارجيلمصادرتها. وبحسب البيانات الرسمية، يقيم حالياً حوالي 16,500 مواطن روسي في سويسرا. وقالت السفارة الروسية في برن إن هذا العدد لا يشمل الأفراد الذين يحملون الجنسيتين السويسرية والروسية، مشيرة إلى أن العدد الحقيقي قد يصل في الواقع إلى ما يقارب ضعف العدد الآنف ذكره.
وبعض الأصول أسهل تتبعاً من غيرها. إذ يوجد حاليا أكثر من 1000 شخص روسي على قائمة العقوبات السويسريةرابط خارجي، من ضمنهم مجموعة من الأشخاص المقيمين في سويسرا رابط خارجييُقال إنهم استفادوا من تصاريح الإقامة المرتبطة بثرواتهم والتي تنطوي على صفقات ضريبية. وأحد هؤلاء الأوليغارشيين هو بيتر آفين، الذي يُقال إنه الصديق الحميم لبوتين، والذي استُولي على منزله المخصص لقضاء العطلات في برن في شهر مارس الماضي.
وبمرور السنوات، أصبحت جنيف موطناً لعدد من الشخصيات العامة المعرضة لأسباب سياسية (PEPs)، الذين اشتروا عقارات بملايين الفرنكات، الأمر الذي لطالما أثار التساؤلات بشأن مصدر تلك الأموال. وبالإضافة إلى آفين، صادرت السلطات ممتلكات أخرى مرتبطة بالروس الذين طالتهم العقوبات في برن وجنيف وكانتونات أخرى، حيث يقوم المسجلون المحليون لحقوق الملكية بتمحيص قائمة العقوبات.
يمكن بذل المزيد من الجهود
منذ فرض العقوبات، يتمثل القلق في أنه، على غرار السيولة النقدية، قد يكون من الصعب تتبع الأصول المادية الأخرى مثل الممتلكات الفنية. وعلى الرغم من اعتماد الشروط المستندة إلى مبدأ “اعرف زبونك” في قطاعات مختلفة، إلا أن تنفيذها كان متفاوتاً.
وبالنسبة لمارك بيث، خبير مكافحة الفساد المقيم في سويسرا، كان سجل سويسرا فيما يتعلق بمصادرة الأصول الروسية متفاوتاً عموماً. فقد قال لSWI swissinfo.ch: “إن سويسرا لم تطبق العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي بعد ضم شبه جزيرة القرم، لذلك اعتبرها العديد من الروس ملاذاً آمناً”.
وقال إن إحدى المشاكل في سويسرا تتمثل في الفشل في إخضاع المستشارين الماليين لقانون مكافحة غسل الأموال. وأضاف أنه يتعين على فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية، وهي منظمة حكومية دولية تقيّم أداء البلدان في مجال مكافحة تبييض الأموال، أن “تناقش هذه المسألة بالتأكيد” خلال تقييمها المقبل لسويسرا.
وقال تجار التجزئة ل SWI swissinfo.ch إن المبلغ الأقصى المأذون به للمواطنين الروس في التحويلات النقدية، البالغ قدره 100,000 يورو (103,000 فرنك سويسري) والمفروض من جانب الاتحاد الأوروبي والمعمول به في سويسرا، لا يزال يسمح بإجراء معاملات تجارية تصل إلى ذلك المبلغ.
ومن المؤكد أن الفن كان أحد القطاعات التي استطاع فيها الأوليغارشيون أن يستفيدوا من الثغرات.
وثمة تخوف لدى الخبراء العالميين من أن يستمر قطاع الفن في الاستفادة من عدم وجود تنظيمرابط خارجي، لا سيما عن طريق استخدام الرموز غير القابلة للاستبدال التي تعرف باسم (NFTs). وقد تبادلت السلطات الأمريكية والبريطانية هذه المخاوف منذ بداية الحرب.
وفي الآونة الأخيرة، ركز موظفو الجمارك السويسريون عمليات التفتيش في الموانئ الحرة السرية في جنيف حيث يمكن الاحتفاظ بالممتلكات الثمينة دون دفع رسوم جمركية. لكن الأنظمة المعمول بها في تلك المرافق تجعل معرفة القطع التي يجب البحث عنها مهمة مستحيلة بالنسبة للمفتشينرابط خارجي.
وعلى الرغم من أن الموانئ الحرة تخضع للقانون السويسري، أي أنه يتوجب عليها الاحتفاظ بقوائم الجرد، إلا أنها لا تطلب أسماء المالكين المستفيدين في نهاية المطاف، فغالباً ما تكون تلك الأسماء مموهة خلف شبكة من المحامين والشركات.
لكن في نهاية المطاف، يُترك القرار بشأن الأصول التي ينبغي تجميدها للسلطات. فقد صرح مايكل فوثريش، وهو أيضاً من أمانة الدولة للشؤون الاقتصادية، قائلاً: “عندما نشك في وجود أصل كان ينبغي أن يُجمد ولم يُجمد، نقوم بالتحقيق في الأمر”.
أعمال تجارية سامّة
في ظل استمرار العقوبات المفروضة على الأوليغارشية، اعترف خبير ائتماني في جنيف بأن أولئك الذين تطالهم العقوبات يشعرون مع ذلك بالخوف وهم يتهافتون من أجل الحصول على المشورة بشأن كيفية إدارة أصولهم العديدة.
وقال إن المستشارين الماليين يشعرون بقلق متزايد إزاء الحفاظ على العلاقات مع العملاء الروس الذين يُنظر إليهم على أن أصولهم “سامّة”.
وقال الخبير الائتماني: “إنهم ليسوا سامّين بالنسبة للبنوك فقط وإنما بالنسبة لأشخاص مثلنا أيضاً”. وأفاد أنه يوجد عميل، مدرج في قائمة العقوبات بشكل رئيسي ومعروف بإقامته في إحدى ضواحي جنيف، قد لجأ إلى العديد من المستشارين لطلب المشورة في مسائل معينة، “مما جعل من المستحيل على أي منهم التوصل إلى رؤية شاملة لوضعه المالي”.
وتواصلت SWI swissinfo.ch مع عدد من الروس الآخرين للتعليق على وضعهم، لكنهم لم يردّوا.
طائرات متوقفة عن العمل
من المؤكد أن العقوبات تترك أثراً ملموساً في مدينة تتركّز فيها الممتلكات الروسية الفاخرة مثل جنيف.
ففي سوق العقارات على سبيل المثال، تضاءل عدد العملاء الروس الأثرياء على نحو متوقع. وقالت وكيلة عقارات مستقلة في جنيف، متخصصة في بيع العقارات الفاخرة، إن عميلاً روسياً قرر تأجيل شراء “عقار كبير” في الوقت الحالي. وقالت إن المشترين كانوا على علم بأن “الصحف تنشر تقارير عند حدوث صفقات بيع مهمة في جنيف، وهم لا يريدون أن يتحدث الناس عنهم”.
ولم تكشف الوكيلة العقارية عن اسم المشتري الروسي.
وفي مطلع شهر أبريل، لم يكن المتحدثون باللغة الروسية يُسمع لهم صوتاً عند الدخول إلى معرض للساعات يقام في جنيف، وهو المعرض الأول الذي يقام بصورة حضورية منذ ثلاث سنوات بسبب الجائحة. وقليلاً ما تحدث منظمو المعرض المسمى “واتشز اند وندرز” (Watches and Wonders) عن تأثير الحرب على صناعة الساعات، التي كان أداؤها ممتازا طوال فترة الجائحة.
وعلى غرار قطاع الفن، أُبلغ عن حدوث “تهافت على شراء” السلع الفاخرة القابلة للتداول مثل الساعات والمجوهرات. ولكن في الأيام الأخيرة، قام الموظفون العاملون في أحد متاجر الساعات، العديدة والفارغة من الزبائن، في وسط جنيف بإخبار SWI swissinfo.ch أن العقوبات “قطعاً” كان لها تأثير سلبي على زبائنهم. ورفضت المراكز الرئيسية للعلامات التجارية، التي جرى الاتصال بها لغرض هذه المقالة، أن تعلّق علناً.
وقال روبرت غروويلر، رئيس الجمعية السويسرية لبائعي الساعات والمجوهرات بالتجزئة، إنه بعد فرض عقوبات خاصة بتجارة الساعات والمجوهرات “لن يرغب أحد في انتهاك تلك القواعد”. وقال إن تجار التجزئة لا يحتفظون ببيانات العملاء في قائمة مبيعاتهم، لكنه أضاف أن المتاجر المتخصصة في المبيعات الرفيعة المستوى هي “شبكة مغلقة للغاية فيما يتعلق بالعملاء”.
ولوحظ أيضاً غياب الأثرياء الروس في أماكن أخرى من سوق السلع الفاخرة السويسرية. إذ قالت غابرييلا بفولج من شركة “جيت أفييشن” (Jet Aviation) التي تُعنى بتوفير خدمات الطائرات: “لقد كان الأمر معقداً”، وذلك في ردها على سؤال حول معنى استبعاد الأعمال الروسية بالنسبة للشركة وأثناء زيارتها لمحطة الطائرات الخاصة في جنيف مؤخراً.
وشهدت جنيف، التي كانت وجهة اعتيادية لحركة الطائرات الخاصة القادمة من روسيا، توقفاً في تلك الرحلات الجوية في الأسابيع الأخيرة. وكما تبين قضية روتنبرغ، كانت مؤسسة مالية سويسرية واحدة على الأقل تقدم حتى وقت قريب قروضاً من أجل الطائرات الخاصة التي يملكها الأوليغارشيون.
ووفقاً لشركة “وينغ اكس” (WingX)، وهي شركة تتعقب حركة طيران رجال الأعمال، بلغت نسبة طائرات رجال الأعمال الروس والأوكرانيين التي حطت في مطار جنيف 5،17٪ في العام الماضي، وكلها اختفت تقريباً منذ بداية الحرب.
وذكر ريتشارد كو، المدير الإداري لشركة “وينغ اكس” (WingX) في سويسرا، قائلاً: “يعاني المشغلون من الطائرات التي جرى تجميدها. فهذه مشكلة”. وقال إنه بالإضافة إلى الطائرات العالقة بسبب العقوبات في أوروبا، وتلك التي لا تزال تحلق داخل روسيا، فإن حوالي 20٪ من طائرات رجال الأعمال المسجلة في روسيا تتنقل بين أماكن تشمل تركيا والإمارات العربية المتحدة وكازاخستان. وأضاف قائلاً: “نحن نراقب الحركة”.
وتفيد التقاريررابط خارجي بأن طائرتين، إحداهما من طراز إيروفلوت، عالقتان في جنيف حالياً، وربما يكون العدد اكثر من ذلك.