حرية – (29/6/2022)
مُشيّدها مجد هتلر وكانت معسكر عطلة للجيش النازي وملاذاً للناجين من الـ”هولوكوست”
على الرغم من أن الغرض من بناء القلعة هو أن تكون ملاذا جبليا فإنها لم تكن كذلك دائما لجميع المرتبطين بها
يُحيط القلعة المغطاة بالثلوج في جبال الألب البافارية في ألمانيا التي تستضيف حالياً قمة “مجموعة السبع”، تاريخ دراماتيكي مثل خلفيتها، فقد تم بناء “شلوس إلماو” في بداية الحرب العالمية الأولى من قِبَل الفيلسوف والعالم يوهانس مولر كملاذ جماعي لأتباعه، وكانت القلعة معسكرَ عطلة عسكرياً نازياً، ومستشفى ميدانياً، وملاذاً للناجين من المحرقة، واليوم هي وجهة لمناقشات قادة “دول السبع”.
الخلفية الدرامية للقلعة ترتبط بشكل وثيق بتاريخ ألمانيا المضطرب في القرن العشرين. وأصبحت اليوم فندقاً فخماً، ولا يزال مملوكاً لعائلة مولر، على الرغم من سقوطه من أيدي العائلة مؤقتاً في أثناء عملية نزع النازية، التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، بسبب تملق الفيلسوف لأدولف هتلر.
وعلى الرغم من أن الغرض من بناء القلعة هو أن تكون ملاذاً جبلياً، فإنها لم تكن كذلك دائماً لجميع المرتبطين بها. ديتمار مولر إلماو، حفيد مولر، ومالك الفندق الحالي، وُلد في الفندق، لكنه قال إنه كان “في حالة حرب معه” منذ عقود.
أضاف مولر إلماو، “أراد جدّي أن يخلق مكاناً للعيش المشترك، حيث يمكنك الهروب من نفسك، مما سمّاه (المصلحة الذاتية)، والتركيز على الذات”. وقال، “كانت الفكرة هي التمكين والتحرر من الذات، وهو ما يتعارض مع ما أريد تمكينه. الحرية لذاتها”.
الفردية والمادية والرأسمالية
قبل أن يبني مولر قصر إلماو بين عامي 1914 و1916، كان يملأ قاعات المحاضرات في جميع أنحاء ألمانيا. لقد اجتذب أتباعاً من الطبقة الأرستقراطية ونخبة رجال الأعمال والجالية اليهودية في ألمانيا.
توافد المعجبون بعمل مولر، الذي انتقد الفردية والمادية والرأسمالية، وكذلك الكنيسة المسيحية، على القلعة، حيث انغمسوا في الرقص والموسيقى، كما استضافت سياسيين بارزين وشخصيات ثقافية في جمهورية فايمار، الحكومة الألمانية بين عامي 1919 و1933.
وعندما بدأ “الرايخ الثالث” (الاسم الرسمي لألمانيا في الفترة من 1871 إلى 1945 باللغة الألمانية)، كان لمولر ما وصفته الحكومة الألمانية في عام 2014 بأنه “موقف متناقض تجاه النظام النازي”.
وبينما أشاد الفيلسوف بهتلر، باعتباره “زعيم ثورة وطنية للصالح العام على المصلحة الذاتية”، فقد اعتقد أن سياسات هتلر المعادية لليهود كانت “وصمة عار لألمانيا”.
“اليهود أفضل من الألمان”
قال مولر إلماو، “لقد تعجَّب من اليهود”، مشيراً إلى شبكة جدّه من الأصدقاء الأكاديميين اليهود… “كان يعتقد أنهم أفضل من الألمان”. وأضاف أنه برّر موقفه المتناقض بالحجة القائلة إن “تولّي هتلر غير المتوقع للسلطة لا يمكن تفسيره إلا على أنه قدر أراده الله، وأنه يمكن للمرء أن يتعرف على القائد المُرسل من الله على وجه التحديد بحقيقة أنه لن يتوافق مع التفكير العقلاني والتمني”.
كان هناك شعار نازي معين قد أصاب وتراً حساساً لدى مولر: “Du bist nichts” (أنت لا شيء، شعبك هو كل شيء)، حيث رسم أوجه تشابه بين الأيديولوجية القومية الجماعية للنازيين وتأكيده على رفض “المصلحة الذاتية”.
معارضته لمعاداة السامية وحظره على التحية النازية في “شلوس إلماو” كان من شأنه أن يوقع معظم الناس في معسكر اعتقال، لكن دعم مولر الثابت لهتلر ترك المسؤولين النازيين في مأزق. وفي النهاية، حمته صلاته وأتباعه.
ومع ذلك، فقد تم استجوابه باستمرار من قبل “الغيستابو” (الشرطة السرية لألمانيا النازية)، وفي النهاية تم حظر أعماله، على الرغم من أن ذلك لم يزعج إيمان مولر بهتلر.
تأجير القلعة للجيش الألماني
عام 1942، وفي محاولة لمنع مصادرة القوات الخاصة للقلعة، المجموعة شبه العسكرية النازية، أجّر مولر القلعة إلى الجيش الألماني النازي (فيرماخت)، كمنتجع لقضاء العطلات للجنود العائدين من الجبهة، ولكن بعد عامين، تم وضع مولر قيد الإقامة الجبرية، وتحول “شلوس إلماو” إلى مستشفى عسكري للجنود الألمان. وفي العام التالي، عندما استسلم النازيون، وسيطر الجيش الأميركي على “إلماو”، أصبحت القلعة لفترة وجيزة معسكراً للجنود الذين كانوا يتلقون العلاج هناك، ثم مدرسة تدريب عسكرية. ربما تكون الحرب قد انتهت، لكن في أعقابها ظل موقف مولر المتناقض تجاه “الرايخ الثالث” مشكلة.
في عام 1946، رفع فيليب أورباخ، مفوض الولاية البافارية للأشخاص المضطهدين والناجين من المحرقة، دعوى قضائية ضد مولر بدعوى “تمجيد” هتلر.
قال مولر إلماو، “اختار جدّي عدم الدفاع عن نفسه. لقد اعترف بخطئه السياسي، لكن ليس بالخطأ اللاهوتي الذي ارتكز عليه”. ونظراً إلى أن مولر لم يكن عضواً في الحزب النازي، ولم يشارك في أعمال الحرب كانت إدانته مثيرة للجدل.
أورباخ المُحبط من أن الاستيلاء القانوني على القلعة استغرق وقتاً طويلاً، استحوذ عليها من دون سند قانوني بين عامي 1947 و1951، عندما كانت القلعة بمثابة مصحة للناجين من الـ”هولوكوست” والمشردين.
كانت سيطرة أورباخ على إلماو قصيرة الأمد، وأثارت ملاحقته الحثيثة للنازيين السابقين غضب أجزاء من المؤسسة السياسية، وتم اعتقاله بتهمة الفساد. وفي عام 1952 دِين بالاحتيال والاختلاس، وبعد أيام من الحكم انتحر.
المؤرخ والمؤلف الألماني، مايكل برين، قال بحسب “واشنطن بوست”، إن سبب إدانته كان معاداة السامية، التي كانت منتشرة في ذلك الوقت. وأضاف أن “ثلاثة قضاة في المحكمة كانوا أعضاء سابقين في الحزب النازي”، لافتاً إلى أنه في عام 1954، وبعد عامين من وفاة أورباخ، خلا تحقيق من اسمه.
التصالح مع الماضي
ويرى برين أنه بينما تعكس “شلوس إلماو” تاريخ ألمانيا المعقد، فإنه يعكس أيضاً جهود البلاد للتصالح معها. في بلد يحب الأسماء المركبة، هناك بالطبع كلمة لتلك العملية “Vergangenheitsbewältigung”، أو التصالح مع الماضي. وقال، “مولر إلماو وعائلته لم يتجنبوا هذا الماضي، لكنهم واجهوه”.
لم تبقَ القلعة بعيدة عن أيدي الأسرة لفترة طويلة، خوفاً من مطالبة عائلة مولر بتعويضات بسبب الاستئناف المتوقع لإدانته، حيث أجرت حكومة ولاية بافاريا القلعة لأطفاله في عام 1951. وبعد عقد من الزمان أصبحوا المالكين القانونيين، وفي العام نفسه الذي ألغي فيه حكم مولر، بعد 12 عاماً من وفاته في 1949.
إعادة التأسيس
أصبح مولر إلماو مالكاً في عام 1997، وشرع في إعادة تأسيس قصر إلماو، باعتباره “ملاذاً ثقافياً”، على الرغم من تجنبه لفلسفة جدّه. قال إن “تقطيع طاولات الطعام المشتركة كان رمزياً بقدر ما كان عملياً لشعار الفندق الجديد (حرية الاختيار). أضاف، “في السابق كان مجتمعاً قسرياً. بالنسبة لي الأمر كله يتعلق بالفردية”.
وجاءت فرصة إجراء أكبر التغييرات في عام 2005، عندما اندلع حريق في المبنى. كان لا بد من هدم معظم الفندق وإعادة بنائه.
قال مولر إلماو، إن “مشاهدة الفندق مشتعلاً شكّلت مصدر ارتياح كبيراً لي”. وأضاف، “كان أفضل شيء يمكن أن يحدث لي، كنت أضع نبيذاً جديداً في زجاجات قديمة. والآن يمكنني صنع زجاجة جديدة لنبيذ جديد. يمكنني تصميم إلماو كمكان للكوزموبوليتانيين وللأفراد”.
220 حفلة موسيقية سنوياً
اليوم تقام نحو 220 حفلة موسيقية في القلعة كل عام، حيث تواصل جذب أكبر الأسماء في الموسيقى الكلاسيكية من جميع أنحاء العالم. لا أحد منهم يتوقع راتباً، فهم يغنون من أجل البقاء.
يجعل الموقع المعزول “إلماو” مكاناً رئيساً لاستضافة قادة العالم في قمة “مجموعة السبع” لهذا الأسبوع. عندما عقد آخر مرة هنا، في عام 2015، كان مسرحاً لصورة مميزة بشكل خاص.
على مقعد خشبي جلس الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما مسترخياً وذراعاه ممدودتان، وكانت أمامه المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، وهي تُلمّح بذراعين مفتوحتين على خلفية الجبال الشامخة.
قال مولر إلماو، “كل سياسي، وكل ضيف يأتي إلى هنا يريد أن تلتقط صورته على ذلك المقعد”.