حرية – (17/7/2022)
المرونة والتفاصيل المصممة مسبقاً عاملان أساسيان في زيادة الإنتاجية والرفاه
ربما يحمل هذا العنوان شيئاً من التناقض في زمن العمل المكثف والسعي وراء تأمين حياة جيدة أو حتى زيادة ثرواتنا، ولكن الحقيقة أن الراحة أصبحت مطلباً شديد الإلحاح، وربما أصبحت الهاجس الأول الذي تسعى إليه الغالبية العظمى في بيئات العمل أو في تجارب السفر والتنقل وممارسة الأنشطة وحتى أثناء ممارسة الهوايات.
فالمعادلة اليوم تقول: مزيداً من العمل لتأمين الاحتياجات المستجدة منها والأساسية، ترافقه زيادة في القيمة والتكاليف وكمية الملحقات الضرورية للحياة والتنقل والعمل. ما يعني مجهوداً وتعباً أكبر، وبالتالي طلب فترات راحة تقابل أوقات العمل.
من الاستنزاف البطيء إلى الاحتراق
وعلى الرغم من أن الحياة السريعة توحي بضرورة التأقلم مع أي وضع أو بيئة عمل والإنجاز تحت مختلف الظروف العملية والجسدية، فإن ذلك إذ ما صار نمط عمل دائم يفتح الباب للاستنزاف التدريجي الذي يطلق عليه في عالم الإدارة مصطلح “الاحتراق الوظيفي”، الذي يمكن إسقاطه هنا على مختلف نواحي الحياة ليصبح الاحتراق عاطفياً واجتماعياً ونفسياً، وربما سيؤول إلى نوع من أنواع الاحتراق الجسدي.
فالجهد اليوم لم يعد مقتصراً على أداء المطلوب من الأعمال، بل امتد السعي العملي، مع الثورة التكنولوجية التي تجتاح جميع مسارات الحياة، ليشمل العمل الجاد على تطوير المهارات المختلفة المساعدة والداعمة للعمل، والتي لا مفر من مواكبتها، إلى جانب الالتزام بأداء المهمات.
إذاً، لا بد من الوعي بثقافة تطوير القدرات في زمن الاجتياح التكنولوجي والتغيرات المتسارعة وتنامي شعور الإنسان بالخطر الوجودي في ظل تنامي التوجه نحو “التفرد التكنولوجي” Singularity. فالتنافسية لم تعد محصورة بين البشر، بل امتدت لتشمل الذكاء الاصطناعي.
ويخلص واحد من أحدث أبحاث شبكة التواصل المهني “لينكد إن” إلى أن ما يسمى بالتعلم المستمر أو التعلم مدى الحياة Life-long learning هو واحد من أهم المهارات التي تسهم في تعزيز المسيرة المهنية للأفراد وتساعد على البقاء حاضراً ومواكباً لعالم الأعمال سريع التغير والمحاط بدفق غزير من الاختراعات والتحديثات والترقيات المتتالية.
بين الراحة والعمل
ويتطلب عدد كبير من الأعمال المستجدة درجة عالية من الابتكار والإبداع والتفكير لإيجاد الحلول والأفكار والصيغ الجديدة في الطرح والتطبيق على حد سواء. ووضع كهذا يفرض ضرورة التخطيط الجيد من الأفراد والجماعات، وإيلاء موضوع الراحة الاهتمام ذاته، إضافة إلى تحقيق أعلى درجة من السلاسة أثناء الانتقال بين فترات الراحة والعمل. ويحتاج ذلك أيضاً إلى مجموعة من الترتيبات المسبقة المتعلقة بتنظيم الوقت والأولويات وخصوصاً الأهداف بدقة عالية، والوعي بجودة المكان من حولنا في كل لحظة، وإلا ستكون الحياة سلسلة من العمل المضني بعيداً من الالتفات إلى الذات والصحة الجسدية والنفسية، وبالتالي سيقابل هذا الصعود الذي كرسه الوقت والعمل المجهد، هبوط سريع كنتيجة حتمية.
وفي هذا السياق، يعتقد كارل يانغ، مؤسس عالم النفس التحليلي، أن الأحمق هو من يستمر في العمل على الرغم من حاجته إلى الراحة. ففي عالم تتوسع فيه المهارات على إيقاع التغيرات المتلاحقة في سوق العمل، أصبح الوقوع في فخ الاستنزاف البطيء والاحتراق الوظيفي أمراً شائعاً، يتطلب من محبي الأعمال ومتقنيها وعياً مختلفاً بالذات والجسد واحتياج كل منهما.
من هنا، بدأ المسؤولون وأصحاب العمل ومديرو الشركات الكبرى التنبه المبكر لهذا المطلب.
تجربة السفر
فنجد شركات الطيران، مثلاً، تخطط لرفع مستوى الراحة في ما يمكن تسميته تجربة العميل. فقد أعلنت شركة طيران نيوزيلندا، التي اشتهرت سابقاً بالأرائك القابلة للفرد couch، عن خطة جديدة لتطوير هذه الفكرة عبر تركيب أسرة حقيقية لمسافري الدرجة الاقتصادية في رحلات المسافات الطويلة، وصرحت الشركة بأنها ستطلق في عام 2024 (787-9 Dreamliner) المحدثة التي ستتضمن ست حجرات للنوم مع أسرة بطابقين، يمكن للركاب الدفع مقابل حجزها لمدة أربع ساعات.
فكرة كهذه جاءت استجابة لاحتياجات المسافرين وتطلعاتهم للحصول على تجربة سفر أكثر راحة. وفي لحظة تطبيق هذه الخطة، سننتقل إلى مرحلة جديدة تفتح الباب لأفكار أخرى، ضمن دائرة التنافس في هذا المجال. الأمر الذي سينعكس إيجاباً على تطوير تجربة العملاء باتجاه الراحة المنشودة.
أما في المكاتب، فإن الموضوع أكثر وضوحاً، بخاصة بعد التحولات التي مر بها نمط العمل، إذ إن مختلف الشركات اليوم تبحث عن توفير أثاث عمل يوفر أقصى درجة ممكنة من الراحة، حتى إن التوجهات العامة في تصميم المكاتب أصبحت تنحو باتجاه توفير قطع مكتبية بمواصفات خاصة، بعد فترة انقطاع عن العمل طويلة نسبياً قضاها الموظفون وأصحاب الأعمال المكتبية بعيداً من أماكن عملهم، بشكل كلي أو جزئي، مستمتعين بأجواء الراحة أثناء العمل من منازلهم. فتوفير بيئة عمل مريحة، مستوحاة من المنازل، أصبحت أمراً مفروغاً منه في عصر التعمق في تجربة العمل من المنزل ضمن شروط غاية في الراحة.
فرض هذا الواقع شروطاً جديدة على متطلبات العمل المكتبي وتفاصيله، وأجبر المديرين ومسؤولي العمل على التفكير الجدي في توفير مساحات عمل أكثر راحة للموظفين، إذ بينت استطلاعات الرأي أن نسبة كبيرة من الموظفين يعطون أهمية كبيرة لقيمة العمل الهجين المرن مع توفير درجة جيدة من الراحة ضمن مكان العمل. ومن المتوقع أن تشهد سوق تصميم الأثاث المكتبي تحولاً كبيراً دعماً لهذا التوجه.
استثمار المساحات
من جهة أخرى، تسهم بيئات العمل المريحة في زيادة التعاون والإنتاجية ومزيد من رضا الموظفين عن واقع عملهم، بدءاً من أوقات العمل ومكانه إلى وسائل الراحة اللوجيستية والتكنولوجية وتبسيط المهمات اليومية، وصولاً إلى المتطلبات البيئية من درجات الحرارة والرطوبة ومنع الضوضاء.
فالهدف استثمار المساحات المكتبية لتحقيق تواصل أكثر فعالية وإنتاج نوع أعمال أعلى جودة للوصول إلى النتائج المرجوة. وليس التقيد في نمط أعمال تقليدية غير مجدية لمجرد الالتزام بشكل العمل الخارجي.
والغاية في نهاية الأمر هي حياة مفعمة بالعافية والمرونة والانضباط الذاتي بعيداً من القلق والضغط العملي، حياة يصبح العمل ضمن روتين مرن وتفاصيل عمل مصممة مسبقاً، عاملين أساسيين في زيادة الإنتاجية والرفاه على حد سواء.