حرية – (4/8/2022)
وقفت فرجينيا هال أمام مفترق طرق، وكان عليها أن تتخذ قراراً صعباً، أمامها ممرٌ مغطى بالثلوج عبر سلسلة جبال البرانس التي تفصل بين فرنسا وإسبانيا، أما خلفها فتوجد فرنسا المحتلة من النازيين، الذين يعتبرونها واحدة من أكثر الجواسيس خطراً عليهم، فوزعوا الملصقات في سائر البلاد أملاً في القبض عليها أو قتلها.
إذا عادت فرجينيا إلى فرنسا فسيكون التعذيب والموت المحتم بانتظارها، فقد كان النازيون يشنقون الجواسيس عن طريق تعليقهم في خطاطيف الجزارة، أما إذا اختارت المضي قدماً فيتوجب عليها أن تقطع حوالي 80 كيلومتراً سيراً على الأقدام، في رحلة غير مأمونة عبر الثلوج باتجاه إسبانيا.
حسمت فرجينيا أمرها، فالمصير المجهول أفضل بالنسبة لها من الوقوع في أيدي النازيين. وهكذا حملت “السيدة العرجاء” حقيبة ظهرها، ومضت في رحلة طويلة، لم يرافقها فيها سوى “كوثبرت” (وهو الاسم الذي اختارته فرجينيا لساقها الخشبية).
فرجينيا هال والساق الخشبية
صحيحٌ أن الجهود التي بذلتها فرجينيا لم تعرف إلا بعد عقود من نهاية الحرب العالمية الثانية، ولكن كان واضحاً منذ طفولتها أنها ستحظى بحياة استثنائية.
وُلدت فرجينيا في 6 أبريل/نيسان عام 1906، في مدينة بالتيمور، بولاية ماريلاند الأمريكية، لوالديها إدوين هال وباربرا هال، وتمتعت فرجينيا بتنشئة مريحة، وكان من الممكن لها بكل سهولة أن تحيا حياة مستقرة خالية من الترحال.
لكن تلك لم تكن طبيعة فرجينيا. قضت الطفلة معظم أوقات الصيف في مزرعة الأسرة، وأجادت الصيد والرماية، وتعلمت مهارات الاكتفاء الذاتي التي صارت مفيدة لها لاحقاً. وفي المدرسة، اختارت تعلّم لغات عديدة، وأبدت عدم اهتمام بالتماشي مع التوقعات المجتمعية لزمنها. وقبلت بكل سعادة الاضطلاع بأدوار مسرحية كانت مُعدة للصبية، وتمتعت بكونها مثيرة للاستفزاز على نحو ما، فقد صدمت زملاءها ذات مرة بالظهور في المدرسة بـ”أسورة” حول يدها، مصنوعة من ثعابين حقيقية حية، وفقاً لما ورد في موقع All That Interesting.
بعد الالتحاق بالكلية في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، سعت فرجينيا وراء الحصول على وظيفة في وزارة الخارجية الأمريكية، أملاً في الالتحاق بمشروعات خارج البلاد، بعد أن تصير دبلوماسية. ولكن كان من النادر في ذلك الوقت أن تُمنح النساء ذلك الدور، وبدلاً من ذلك انتهى بها المطاف في وظيفة كتابية بالقنصلية الأمريكية في تركيا.
وفي تلك الأثناء وقعت حادثة مصيرية لفرجينيا. خلال رحلة لصيد الطيور في عام 1933، أطلقت الرصاص على قدمها بينما كانت تتسلق من فوق حاجز. الانفجار الناتج عن الرصاصة من بندقية عيار 12 تسبب في إصابات شديدة، وأجبرت الغرغرينا الناتجة عنها الأطباء على بتر نصف ساقها اليسرى أسفل الركبة. حصلت فرجينيا على ساق صناعية تزن حوالي ثلاثة كيلوغرامات، أطلقت عليها اسماً ساخراً، هو كوثبرت، لتصير بعد ذلك أكثر عزماً من ذي قبل على متابعة حياة مليئة بالمغامرة.
كيف أصبحت الجاسوسة فرجينيا هال “السيدة العرجاء”؟
حاولت فرجينيا أكثر من مرة دخول السلك الدبلوماسي الأمريكي، ولكن بعد ثالث طلبٍ تقدمت به أُبلغت بأن السلك الدبلوماسي لا يقبل إلا طلبات “الأصحاء جسدياً”، ولما شعرت بالجزع بسبب رفضها في وطنها الأم سافرت إلى فرنسا؛ بحثاً عن فرصٍ في عام 1939.
قادها هذا إلى وظيفة سائقة سيارة إسعاف متطوعة، حيث أجرت حواراً مع جهة اتصال داخل منظمة تنفيذ العمليات الخاصة البريطانية (SOE). وهناك كتبت امرأة تدعى فيرا أتكينز -التي كانت مساعدة لرئيس القسم الفرنسي، العقيد موريس بكماستر- ملاحظة حول فرجينيا تقول إنها قادرة على التحدث بلغات عديدة بجانب رباطة جأشها تحت ضغط قيادة سيارة إسعاف.
ولعل فيرا اعتقدت أن فرجينيا قد تصير عميلة جيدة، دربت منظمة تنفيذ العمليات الخاصة البريطانية فرجينيا على أعمال الجاسوسية، وأرسلتها إلى فرنسا في أغسطس/آب 1941.
كان أول تخفٍّ لها في صورة مراسلة تعمل في صحيفة The New York Post، وتدعى بريجيت لوكونتر، لكن أعظم تنكر لها حققته عن طريق استغلال الشوفينية، اعتقد قليل من الرجال أن النساء يمكن أن يصرن جاسوسات فاعلات، ولا سيما إذا كانت امرأة بساقٍ خشبية.
لكنها سرعان ما أثبتت أنهم مخطئون، تواصلت فرجينيا مع ماخور في مدينة ليون الفرنسية، حيث استطاعت جمع معلومات استخباراتية من فتيات البغاء اللواتي قابلن أفراد القوات الألمانية. ونظمت كذلك مساعدات لمقاتلي المقاومة الفرنسية، وعرضت عليهم ملجأً، وتوسعت إسهاماتها للغاية، لدرجة أن شرطة الغيستابو الألمانية بدأت في البحث عن “la dame qui boite”، أو “السيدة العرجاء”.
الاعتقال مصير فرجينيا في إسبانيا
بحلول عام 1942، صار من الصعب على فرجينيا أن تتخفى، سيطر الألمان على فرنسا، وحُددت مواقع أعضاء شبكة الجاسوسية والمقاومة الخاصة بها، وقُتلوا. وحينها قررت فرجينيا أن عليها قطع الرحلة لمسافة 80 كيلومتراً عبر جبال البرانس للعبور إلى إسبانيا، فكانت تبعد الثلوج من طريقها بساقها السليمة وتجر كوثبرت خلفها.
وعند أحد المواقع على الطريق نجحت فرجينيا في العثور على كهفٍ لتأوي إليه، ثم أرسلت رسالة لاسلكية إلى لندن تشكو فيها من أن “كوثبرت مُتعِبةٌ، لكنها تستطيع التأقلم”. لم يفهم رؤساؤها أن كوثبرت كانت ساقها الصناعية، فقالوا لها: “إذا كانت كوثبرت مُتعِبةٌ تخلصي منها”.
عندما وصلت فرجينيا إلى إسبانيا اعتُقلت على الفور لعدم حيازة جواز سفر، لكن اعتقالها كان أفضل من مواجهة حشد من النازيين الغاضبين.
سُجنت فرجينيا لستة أسابيع، ولم يُطلق سراحها إلا بعد أن سلمت سجينة أخرى خرجت من السجن، رسالةً كتبتها فرجينيا إلى القنصل الأمريكي في برشلونة. أوكلت إليها منظمة تنفيذ العمليات الخاصة البريطانية عملاً في العاصمة الإسبانية مدريد، لكن القلق استحوذ عليها، وكان العمل مملاً.
كتبت فرجينيا: “اعتقدت أنني قادرة على المساعدة في إسبانيا، لكنني لا أؤدي أية وظيفة، إنني أحيا بسرور وأضيع الوقت. إنه ليس مجدياً، وعلى كل حال رقبتي هي ملك لي. وإذا كنت عازمة على التسبب في ألم لها فأعتقد أن ذلك حق لي”، في إشارة إلى احتمالية إعدامها عن طريق النازيين.
وجهاً لوجه مع النازيين
كانت فرجينيا تتوق إلى العودة إلى فرنسا، لكن رؤساءها البريطانيين ارتأوا أن ذلك خطير للغاية، فعادت إلى الولايات المتحدة واتصلت بمكتب الخدمات الاستراتيجية (OSS)، وهي الوكالة السابقة لوكالة الاستخبارات المركزية (CIA). برغم شهرتها في فرنسا التي احتلها النازيون آنذاك، أصرت على العودة، فأضافت مسحة رمادية إلى شعرها، ورسمت التجاعيد على وجهها، بل إنها بردت جزءاً من أسنانها كي تغير شكلها، وذلك وفقاً للكاتبة سونيا بورنيل، التي كتبت كتاباً عن فرجينيا بعنوان A Woman of No Importance (امرأة بلا أهمية).
في مارس/آذار عام 1944، عادت فرجينيا إلى فرنسا، حيث تنكّرت في شخصية عاملة حلب ألبان في قرية جنوب باريس، وكانت تبتسم وهي تبيع الجبن إلى القوات الألمانية، وفقاً لما ورد في موقع Mental Floss الأمريكي.
شعر الألمان غير المرتابين بأنهم ليسوا في حاجة إلى الحذر من شخص لا يعدونه مصدر تهديد. أرسلت فرجينيا بدورها رسائل حول تحركاتهم إلى رؤسائها، باستخدام جهاز مصنوع من مولد سيارة وأجزاء من دراجة، ووجهت كذلك مقاتلي المقاومة الفرنسية إلى أهداف مختارة، من خلال استخدام تكتيكات على شاكلة تفجير الجسور وقيادة القطارات، استطاعوا الاستيلاء على قرى من دول المحور وإضعاف القوات الألمانية، وفي المجمل دمر فريق فرجينيا أربعة جسور وقتل 150 ألمانياً.
ومن خلال التحرك المستمر، وتغيير أسمائها ووظائفها ووجهها، استطاعت فرجينيا تجنب الأسر. وظلت في فرنسا حتى نهاية الحرب، وعادت في صحبة كل من كوثبرت ورفيق آخر يدعى بول غويلوت، الذي كان مقاتل في المقاومة الفرنسية، وصار لاحقاً زوجها.
العودة إلى الوطن
مثل عديد من قدامى المحاربين واجهت فرجينيا أوقاتاً صعبة لمناقشة تجاربها أو قبول الاعتراف بها. عندما طلب الرئيس الأمريكي آنذاك هاري ترومان أن تحضر حفلاً عاماً لتُمنح وسام صليب الخدمة المتميزة -وتعد المرأة الوحيدة من غير صفوف أفراد الجيش التي تحصل على الوسام للمشاركة في الحرب العالمية الثانية- رفضت، وطلبت بدلاً من ذلك أن تكون مراسم خاصة، وفي الحفل كانت أم فرجينيا، باربرا، المدنية الوحيدة التي تحضر، إضافة إلى ابنتها.
تقدمت فرجينيا مرة ثانية للعمل في السلك الدبلوماسي الأمريكي، ولاقت رفضاً مرة أخرى، لكن السبب هذه المرة كان تخفيضات مزعومة في الميزانية. لكنها حصلت على عرضٍ لوظيفةٍ في وكالة الاستخبارات المركزية التي أُسست حديثاً آنذاك، حيث عملت لـ15 سنة إلى أن تقاعدت في الستين من عمرها عام 1966.
توفيت فرجينيا هال في 8 يوليو/تموز عام 1982، بدون التحدث حتى عن الخدمات التي قدمتها. لكن البلاد التي دعمتها تحدثت دائماً عنها. ولاحقاً أطلقت وكالة الاستخبارات المركزية اسمها على منشأة تدريب تسمى مركز فرجينيا هال الاستكشافي (The Virginia Hall Expeditionary Center)، ومنحها الفرنسيون وسام صليب الحرب الفرنسي، ومنحها الملك جورج، ملك بريطانيا، رتبة الإمبراطورية البريطانية. كانت فرجينيا مراوغة للغاية لدرجة أنها في عام 1943، عندما أصدر الملك قرار منحها الوسام، لم يعثر أحد في بريطانيا عليها.
بفضل السرية المتوقعة لمجال الاستخبارات ظلت جهود فرجينيا هال، التي قدمتها إلى قوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، غير معلنةٍ على مدى عقود من الزمان. وعندما بدأ المؤرخون في البحث في ماضيها، جعلت براعتها وشجاعتها وجلدها أمام الإعاقة الجسدية منها أسطورة ثقافية، رغم أنها لم تحتفِ بنفسها أبداً.
وإحدى المقولات الباقية على لسان فرجينيا، في أعقاب حصولها على وسام صليب الخدمة المتميزة: “ليس سيئاً بالنسبة لفتاة تنحدر من بالتيمور”.