حرية – (10/8/2022)
لقطات غير معدلة ولا مفبركة لكن يتم التلاعب في مدلولها بشكل ينافي الحقيقة ويناقضها
مثلما أنهت الصورة حروباً وأجبرت قادة كباراً على التراجع عن خطط الثأر والانتقام، أشعلت أيضاً خلافات وأججت أزمات وأسهمت في ازدهار تجارة العنف، فالأثر الذي تتركه في النفوس أوقع من الكلمات وأكثر ثباتاً، فهي سلاح كما يقول التعبير التقليدي “ذو حدين”.
أخيراً باتت الصورة متهمة بإشعال المعارك الطبقية، واللافت أنه بعد أن كانت الأداة الأكثر صدقية من الكلمات المكتوبة والمسموعة، باتت متهمة بالتضليل و”الاختزال” المخل، فبقدر قوتها الطاغية في الاختصار وسرعة الوصول كلغة يفهمها الجميع، تمتلك قدرة هائلة كذلك على تزكية خطاب الكراهية، فهل الصورة في حد ذاتها هي المذنبة أم أن هناك من يستغل سماتها ومقوماتها لصنع حال مؤثرة يتضح في ما بعد عدم دقتها؟
زاوية اللقطة
الصورة بلا أدنى شك هي الوسيلة الأكثر رسوخاً في الأذهان، فالطفلة فان ثي كيم فوك التي ظهرت في الثامن من يونيو (حزيران) عام 1972 وهي مصابة بحروق بالغة وتركض عارية هرباً من هجوم بمادة “نابلم”، وتسببت صورتها التي هزت العالم في إيقاف الضربات الأميركية على فيتنام قبل نصف قرن، وقتها كان التعليق متسقاً مع الصورة ولا مجال للمراوغة أو التزييف.
صورة الطفلة فان ثي كيم فوك التي كانت سببا في إنهاء حرب فيتنام
لكن تلك الوسيلة التي لطالما حظيت بتقدير صناع المواد الإعلامية أصبحت بحاجة إلى التحقق أكثر من غيرها، نظراً إلى فداحة الخسائر التي يمكن أن تترتب على أي خطأ فيها، والحديث هنا ليس عن الصور المفبركة وتلك التي يتم تعديلها ببرامج التحرير المختلفة، لكن عن صور حقيقية لا مجال للشك في صحتها، لكنها تتخذ أبعاداً أخرى حينما تلتقط من زوايا ما، وترفق بتعليقات تذهب بها إلى اتجاهات أخرى قد تجافي الحقيقة تماماً.
ومن أبرز تلك الأمثلة مشهد “تزاحم” الناس للتعاقد على منازل خاصة بهم في مشروع جديد بأحد المناطق الشاطئية بمصر، حيث دارت تلك الصور و على حسابات آلاف رواد مواقع التواصل الاجتماعي، الذين اعتبروها علامة على زيادة عدد الأثرياء بمصر، خصوصاً أن ثمن الوحدة هو عشرات ملايين الجنيهات.
ومن ضمن النقاط التي تم الاعتماد عليها لتزكية التعليقات السلبية هو المبالغة في ثمن الوحدة الذي تم تداوله على أنه يعادل “5 ملايين دولار أميركي تقريباً”، فيما تبين بعد أن السعر أقل من ذلك بمقدار النصف، كما أن زاوية التقاط الصورة أظهرت التزاحم الشديد الذي فسره بعضهم بوجود طفرة في أعدد الأثرياء على الرغم من الأزمة الاقتصادية العالمية، بل اتهموا هؤلاء مباشرة بالفساد، وذلك لأن هناك فكرة مسبقة ومترسخة تتعلق بارتباط تلك الطبقة بالفساد دوماً، وهي الفكرة التي أسهمت فيها الدراما بشكل كبير.
لكن إذا تم التقاط الصورة من زاوية أوسع ستظهر حقيقة الأعداد التي بدت عادية للغاية في ظل بلد تعداد سكانه يزيد على الـ 100 مليون نسمة، وعدد من يمتلكون أكثر من مليون دولار فيه لا يتعدى الـ 17 ألفاً، بحسب تقرير مؤسسة “هينلي” المعنية بتتبع الاستثمارات والثروات، بينما عدد من يصنفون على أنهم مليارديرات لا يتجاوز الـ 57 شخصاً، وهي أعداد يجب قياسها مقارنة بالعدد الكلي للسكان للحصول على نسبة معبرة، وبالطبع في الحال المصرية تبدو النسبة عادية للغاية في بلد يصنف عالمياً على أنه نام.
عدسة الكاميرا وعين المتلقي
الصورة تم التندر عليها أيضاً بعد وضعها في مقارنة مع تلك التي التقطت لطوابير من المواطنين الذين اصطفوا أمام ماكينات الصراف الآلي لصرف إعانات العمالة غير المنتظمة، وهي عبارة عن مساعدات حكومية انطلقت مع بداية فترة انتشار فيروس كورونا، واللافت أن تلك الصور إبان انتشارها قبل عامين كانت تستخدم للتدليل على فكرة مضادة تماماً، وهي أن الغالبية من المصريين ذهبوا إلى تلقي تلك الإعانة، وهو وصف غير دقيق لتلك اللقطات التي لم تكن تمثل أكثرية المواطنين بالمرة، فالأعداد لم تكن شيئاً مقارنة بعدد السكان، فلم تتجاوز المليوني مواطن، أي ما نسبته اثنان في المئة، بحسب تصريحات رسمية صادرة عن وزارة المالية وقتها.
والسؤال هنا، هل عدسة الكاميرا تكذب أم “التأويل” هو الذي يفسد الوسيلة التي كانت عنواناً لـ “كبد الحقيقة”؟ ولماذا بعد كل تلك السنوات من التمرس في التعرض لوسائل الإعلام التقليدية وكذلك “النيو ميديا” لم يتم تطوير “وعي نقدي” يمكّن الغالبية من قراءة معطيات الصورة بشكل جيد؟
حفلة عمرو دياب أثارت جدلاً كبيراً (حساب الفنان على إنستغرام)
ما يحدث هو انسياق وراء تعليق أو جملة مؤثرة على خلفية لقطة مقتضبة، وترى الباحثة في الاتصال وعلوم الإعلام لبنى علي أن “الصورة عموماً تتمتع بصدقية كبيرة ولديها قابلية للحصول على ثقة الجماهير، وهو أمر كان واضحاً للغاية إبان فترة كورونا، إذ تم حشد آلاف المعلومات المغلوطة في أذهان الناس مما تسبب في أضرار بالغة، وذلك لمجرد ارتباط بعض التدوينات بصور معينة”.
وأكدت الباحثة في الإعلام أن “الأمر هنا لا يتعلق إطلاقاً بالمستوى التعليمي أو الطبقة الاجتماعية، فالمبالغة في وصف بعض اللقطات وتوجيهها بشكل مغاير تماماً أمر يقع ضحيته الحاصلون على أعلى الدرجات العلمية ببساطة شديدة”، لكن لبنى علي تلوم أيضاً بعض المنصات المعنية بنشر رسالة إعلامية، مشيرة إلى أنها “قد تسهم في شحن الجماهير وتوجيههم ناحية هدف معين من طريق تقديم الصور من زوايا لا تعبر عن حقيقتها”، وقالت إن “الجمهور في النهاية هو مجرد متلق، لكن المسؤولية تقع على عاتق المتخصصين الذين ينخرطون في تلك التضليلات، سواء بشكل متعمد أو عن غير قصد”.
علماء متهمون بالتضليل
الأمر كان قد تكرر مع انتشار صور جمهور حفل لعمرو دياب صيف العام 2022، حيث كان الحضور جميعهم يرتدون اللون الأبيض وفقاً لشروط المنظمين، وظهروا بأعداد غفيرة وفقاً لزوايا التصوير على الرغم من أن سعة الحفل في النهاية كانت محدودة، كما كانت اللقطات تركز على زوايا معينة أدخلت القصة برمتها في سجال ديني، بسبب تشابه الألوان الغالبة مع نظيرتها في صور الحجيج، وهو أمر سبب إزعاجاً وارتباكاً بين المعلقين الذين استهجنوا الصور بشدة ووبخوا القائمين على الحدث.
أيضاً دخل الفنان محمد رمضان في دوامة من الانتقادات بعد تكرار ظهوره في صور عدة بصحبة أشخاص يحملون الجنسية الإسرائيلية، وعلى الرغم من حرصه على نفي تعمده ذلك وتوضيح ظروف التقاط الصور، لكن ظل الغضب يلاحقه من قبل متابعيه.
دخل محمد رمضان في دوامة الانتقادات بعد صورة التقطها مع إسرائيلي
الأمر كان واضحاً للغاية أيضاً في صورة نشرها عالم فرنسي يدعي إيتيان كلاين ظهرت كدائرة حمراء قاتمة يحيط بها لون أسود، مدعياً أنها لأحد النجوم والتقطها تليسكوب “جيمس ويب” الفضائي، إذ أرفقها بتعليق “صورة ’بروكسيما سنتوري‘ أقرب نجم للشمس ويقع على بعد 4.2 سنة ضوئية”.
وبعد أن انتشرت الصورة وحصد تعليقات تتغنى بالعلم والعلماء وبالصورة المذهلة، تبين في ما بعد أنها مجرد قطعة دائرية من اللحم تم التركيز عليها بطريقة معينة لتظهر بهذا الشكل الذي لم يتشكك فيه أحد بالطبع، لأن مصدر الصورة هنا عالم يتمتع بثقة الجمهور.
وعلى الرغم من اعتذاره عن اللغط الذي أوقع فيه المتابعين، وتأكيده أن هدفه كان حث الناس على عدم تصديق أي شخص بشكل تلقائي من دون تحقق، لكنه ظل يتلقى توبيخاً، وهنا تعلق لبنى علي الباحثة الإعلامية على فكرة “الثقة” التي تجعل بعضهم يصدق جهة ما أو شخصاً نظراً إلى تاريخه وسمعته، وبالتالي تقع أزمات كثيرة جراء تلك الصفة التي يتمتع بها بعضهم ممن يأخذون الناس وراءهم مستغلين سمعتهم.
وقالت، “الصور والفيديوهات هي الأكثر رسوخاً في أذهان الناس، إذ يميلون إلى قراءة وصف وتعليق مختصر مع صورة أو فيديو معبر، حتى لو كانت تلك اللقطة لا تلامس أرض الواقع من قريب أو بعيد”.
وأشارت إلى أن “الإنسان يميل عادة إلى تصديق ما يوائم أفكاره ويبحث عن أدوات تدعم قناعاته، وبالتالي تستهويه الصور التي تشبه ما هو مترسخ في ذهنه هو، إذ نجد بعضهم يلعب على تلك النقطة، فمثلاً هناك إشاعات تتعلق برجال الأعمال أو الفنانين أو رجال الدين، وحينما تأتي صورة مع تعليق معين لتأكيد تلك الفكرة يكون من السهل إقناع الآخرين بها، نظراً إلى أن الآخرين يبحثون عن رسائل معينة تعزز نظرتهم إلى تلك الفئات، سواء أكانت صحيحة أم لا”.
والمؤكد أن الصورة هي دليل واضح ومباشر يختصر الفكرة، لكن مع مليارات من مستخدمي التكنولوجيا الذين يتبادلون الصور بشكل لحظي لم يعد الأمر بتلك البساطة، فالصورة تخسر أهم سماتها الأساس ولم تعد “مصدّقة” بلا لبس، كما كان يحدث في الماضي.