حرية – (13/8/2022)
من ساحة تايمز سكوير في نيويورك إلى برج إيفل الحديدي في باريس، وساعة بيغ بين في لندن، تعتبر العمارة الهندسية لهذه المعالم مصدر جذب سياحي للأجانب ومصدر فخر لمواطني تلك الدول، ولكنْ هناك نوع آخر من العمارة الهندسية يتسلل بصمت وينتشر في المدن الأمريكية والأوروبية على حد سواء يسمى “الهندسة المعمارية العدائية”.
فبينما يفكر العديد من مخططي المدن وواضعي السياسات في التدابير التي تجعل المدن أكثر راحة وجاذبية، فإن “الهندسة المعمارية العدائية” على العكس من ذلك تستهدف المتسكعين بشكل عام وفئة المشردين بشكل خاص، ومنعهم من النوم في الأماكن العامة على مقاعد الحدائق العامة أو أسفل الجسور أو على الأرصفة أو حتى الجلوس في الأماكن العامة في بعض الأحيان.
التصميم الأكثر شهرة يعود إلى عام 2012 مع “مقاعد كامدن” التي أنتجتها شركة “Factory Furniture” في المملكة المتحدة. صنعت هذه المقاعد الخرسانية بطريقة تجعل النوم عليها مستحيلاً. حصل التصميم على العديد من الجوائز، بما في ذلك جائزة “أفضل ممارسة أوروبية للتصميم الشامل”.
ليست “مقاعد كامدن” هي الوحيدة في أوروبا، فهناك تصميمات لا حصر لها للمقاعد “المضادة للتشرد” في المدن الأوروبية، بما في ذلك مقاعد برشلونة ذات المقعد الفردي أو دعامات الظهر للوقوف بدل الجلوس في روتردام.
والتصميم الأكثر شيوعاً من المقاعد في أماكن عامة في المدن الأوروبية تكون مقسمة بقطع معدنية غالباً ما يسيء الناس تفسيرها على أنها دعامات للذراع، بينما هدفها الحقيقي هو تقسيم المقعد الطويل إلى أجزاء تمنع استلقاء أحد عليها أو استخدامها من قِبَل المشردين للنوم عليها يمكن العثور عليها في مدن مثل فيرونا وتورينو وروما.
في عام 2015، احتل أصحاب المحلات في المملكة المتحدة عناوين الصحف لتركيب المسامير المعدنية حول مداخلهم، مع انتشار “مقاعد المتنزهات العدائية” والصخور المزروعة في أماكن تجمع المشردين سابقاً، ومرشات المياه المصممة في الأماكن العامة لغرض مفترض هو رش أماكن نوم المشردين، وليس المساحات الخضراء.
كل هذه التصاميم ربما تعتبر الأقل عدائية وإيذاء للمشردين مقارنة بباقي التدابير التي تتخذها المدن الكبرى في أوروبا والولايات المتحدة، مثل وضع البراغي الكبيرة والأحجار الحادة والحافات المدببة على الأرصفة وحتى “أسنان معدنية حادة” فوق أنظمة إطفاء الحرائق لمنع الجلوس عليها.
يقول الفنان البريطاني ستيوارت سيمبل: “يمكن أن تكون التصاميم غير مرئية تماماً… ولهذا السبب فهي خطيرة للغاية”.
وشهدت العديد من البلدان الأوروبية ارتفاع عدد المشردين منذ الأزمة المالية لعام 2007 نتيجة لتدابير التقشف وارتفاع أسعار المساكن، مع وجود ما يقدر بنحو 4.1 مليون شخص بلا مأوى في الاتحاد الأوروبي، فرضت السلطات في الدنمارك واليونان ورومانيا حظراً على التسول في الشوارع، وغيرت المجر دستورها في عام 2012 لتجريم التشرد.
في الولايات المتحدة لا يختلف الأمر كثيراً
في أوائل عام 2018 في مدينة بورتلاند أكبر مدن ولاية أوريغون الأمريكية، أزالت الشرطة مخيماً للمشردين مليئاً بالرجال والنساء والأطفال ليحل محله مجموعة من 18 رفاً للدراجات الهوائية في منطقة لا يركب فيها الناس الدراجات بشكل كبير، ويرى كثيرون أن تلك الرفوف وُضعت لمنع عودة المشردين للمكان.
وفي مدينة نيويورك التي تعتبر موطناً لحوالي 80 ألف شخص بلا مأوى، قامت “مكتبة ستراند” الشهيرة بتركيب أنظمة رش المياه أسفل مظلة كبيرة موجودة خارج المكتبة لتنطلق المرشات في أوقات غريبة لمنع المشردين من النوم أسفل المظلة، وقامت بعض المحلات بتركيب أجهزة إنذار تطلق أصواتاً عالية لمنع نوم المشردين ليلاً على عتبة المحلات والأبنية.
بطيبعة الحال اجتذب “تصميم الهندسة العدائية” المثير للجدل كلاً من النقاد والمؤيدين من جميع أنحاء العالم.
يقول مؤيدو “العمارة العدائية” إن “السلامة العامة” تأتي أولاً، وإنهم يفضلون تسميتها “العمارة الدفاعية” بدلاً من العدائية.
يقول دين هارفي المؤسس المشارك لشركة تنتج “مقاعد عدائية” تستخدم في الأماكن العامة: “إن الهندسة المعمارية الدفاعية توفر حلاً ضد أماكن بيع المخدرات، من خلال تقليل الوقت الذي يقضيه الناس في منطقة ما. وعندما نصمم قطعة أثاث، فإننا لا نفكر في كونها معادية للمجتمع، نحن نفكر في استخدام تلك القطعة كقطعة أثاث في المجال العام، بدلاً من استخدامها منطقة تزلج، أو مكان للاستراحة”.
التدابير يشعرون بالغضب لتهميش الفئات الأقل حظاً في المجتمع. يقول مات داوني، مدير “إدارة الأزمات البريطانية”: “هذه لائحة اتهام حزينة لكيفية تعاملنا مع أكثر الفئات ضعفاً”.
تقول كارا تشيلو، باحثة في مشروع الضواحي العالمي في “جامعة يورك” في تورنتو: “إن العناصر التي تجعل المساحات معادية للسكان المستهدفين تجعلها أيضاً معادية لعامة الناس، تعاني الفئات الضعيفة بشكل غير متناسب عندما يكون هناك نقص في المقاعد، ودورات المياه العامة، ومأوى من العوامل الجوية”.
وفقاً لسيان بيري رئيس لجنة “الإسكان التابعة لجمعية لندن”، فإن الرأي العام “يعارض بشدة هذه الأشياء” والناس “متعاطفون حقاً”.
في بريطانيا، غطى بعض الناس المسامير المضادة للمشردين بالوسائد والمراتب، بعد الغضب على وسائل التواصل الاجتماعي.
ويرى البعض أن اطلاق تسمية “الدفاعية” بدلاً من “العدائية” يشير إلى أن الناس بحاجة إلى الدفاع عن فئة ما وهم المشردون، ويعني أن الفضاء العام يحتاج إلى الدفاع عنه من وجود أفراد آخرين من الجمهور الذي قد لا يكون نوعية “الجمهور” الذي تريده سلطات المدينة أن يظهر للعيان.
ومن خلال هذه العقلية، لا يتم التعامل مع المشردين باعتبارهم بشراً، ولكن باعتبارهم إزعاجاً عاماً تجب إزالته من الأماكن العامة، ويجادل المعارضون بأن الهندسة “المعمارية العدائية” لا تقدم حلاً.. وبدلاً من حل الجذور الاجتماعية والاقتصادية للمشكلة، فإنها تُبعد الأشخاص المشردين عن الأنظار فقط.
ومن وجهة نظر أخلاقية، يبدو من الخطأ أن تركز الحكومات بشكل أكبر على مضايقة ومعاقبة أولئك الذين يحتاجون إلى المساعدة، بدلاً من إنشاء البرامج الداعمة اللازمة لحل المشكلة.. كما أنها يمكن أن تؤثر على الجميع، وخاصة أولئك الراغبين بالتمتع بيوم إجازة في شوارع المدينة وتجعل الجميع يشعر بأنهم غير مرحب بهم هناك.