حرية – (20/8/2022)
شذى العاملي
يتميز كل مجتمع بعاداته وتقاليده الخاصة، ويشتهر العراقيون بتقاليد الزواج التي تتشابه في شيء منها مع تقاليد بعض المجتمعات العربية، التي تبدأ بعد أن يجد أهل العريس لابنهم مواصفات العروس المطلوبة، ومن أولى الصفات التي كان الرجل يسعى إليها في اختيار شريكة حياته، هي أن تكون من ذوات الأخلاق الحميدة، وتتحلى بالذوق والاحترام للرجل الذي سيكون لها زوجاً، وأن تحفظه في ماله وعرضه، وتمتلك سعة من الورع والدين لتربي أبناءها على الخلق الحميد، وأن تعرف واجباتها نحو من سيصبح زوجها وبالتالي يمكنها أن تسعده.
ولم يشترط آنذاك على المرأة الحصول على شهادة جامعية أو أن تكون موظفة أو صاحبة عقارات وأملاك، وغيرها من الأمور التي يشترطها الشباب اليوم.
سهلت وسائل “السوشيال ميديا” عملية التعارف بين مستخدميه من الشباب لكلا الجنسين، وكسرت حاجز الخجل أو الخوف الذي قد ينتاب الشاب لدى لقائه فتاة أو العكس، فالحرية الافتراضية في التحدث والظهور وانتقاء عدد الأصدقاء وطرح المعلومات والصور الشخصية، كسرت نمطية الأخذ بتلك الشروط، وهو ما لا تسمح به معظم العائلات لأبنائها حين التعامل مع الواقع الحقيقي.
وقد سهَّل ولوج الشخصية الافتراضية في عالم الإنترنت، من تكوين العلاقات العاطفية والحميمة بين الأفراد المتصلين، التي وصلت إلى حد طلب يد بعضهن للزواج، ويؤشر ذلك إلى بداية تغيير في مراسيم وتقاليد الزواج وغياب المحددات الاجتماعية المتعارف عليها، وقد تضاهي هذه المشاعر الافتراضية في حميميتها ودفئها المشاعر الحقيقية، ولكن مع ذلك أسهمت هذه المشاعر في تغيير طبيعة التفاعل الاجتماعي والعلاقات السائدة بين الأفراد.
زوجة ثالثة لفارس الأحلام
تقول سميرة (36 عاماً)، تزوجت بعد بلوغي سن الـ30 عن طريق “فيسبوك”، “كنا نتحدث لساعات متأخرة من الليل، وكان شغوفاً بي، ويعيش في بلد عربي، كنت آنذاك حبيسة عادات وتقاليد عائلتي التي حرمتني من الخروج والتواصل مع الأصدقاء، وحرمتني من لقاء فارس أحلامي على أرض الواقع، علماً أني أحمل شهادة جامعية، واتفقنا أن نلتقي في بلده وسافرت مع أخي وتمت الزيجة، بالطبع كان ذلك رغماً عن إخوتي ووالدتي، إذ لم يكونوا مقتنعين بالتعارف البسيط عن طريق هذه المنصة، وحدث بعد أقل من شهر أن اكتشفت أني زوجة ثالثة ومسؤولة عن الإنفاق على كلينا، وفوجئت بأخلاقه غير المعهودة من صراخ وتعنيف وصل إلى الضرب، وما كان مني سوى الصبر والتحمل بعد أن تحديت بسببه عائلتي وجميع معارفي، وأنا الآن أم لطفلين”.
وسائل التواصل “فخ”؟
أمير الحسون إعلامي عراقي يعمل في وسيلة إذاعية، ويقول: “عوامل عدة أسهمت في تغيير وجهة نظر الشباب لمعايير اختيار شريكة الحياة، أولها الحروب المتتالية ثم مرحلة الحصار التي أنهكت المواطنين وكان لها بالغ التأثير في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، ومن ناحية أخرى، اقتحام التكنولوجيا ووسائل الاتصال التي بسببها وبلا وعي منا، تغيرت لدينا مفاهيم الارتباط والعلاقات بالجنس الآخر”.
كل تلك الضغوط بحسب الشباب العراقي، أسهمت في انسحاب كلا الجنسين من اللجوء إلى مواقع التواصل الاجتماعي كنافذة للتواصل والتعارف والتنفيس عن المكنونات، ويؤكد الحسون أن ذلك أصبح سبباً كبيراً في صعوبة اختيار شريكة الحياة.
ويعتقد أن وسائل التواصل هذه “فخ يقع فيه غالبية المتواصلين، ببساطة لأنه واقع افتراضي يبدو فيه الجميع جذاباً ويعيشون حياة الترف، ويمارسون أجمل الهوايات”. ويختم، “أصبح الجميع يبحث عن كمال الشكل والجسم وعن وفرة المال”.
الموروث الاجتماعي والعرفي والديني
وأوضح فالح الموسوي الأستاذ في أحد المراكز الدراسية، أن عوامل عدة تسهم في تبدل هذه المعايير، ولعل من أبرزها نزوع الشباب إلى التمرد وتحميل الموروث الاجتماعي والعرفي والديني مسؤولية التقهقر الحاصل في أفق تفكيرهم، ويقول إن هذه المعايير تتفاوت شدة وضعفاً بحسب الاعتبارات التي ينمو عليها الشباب، فالشاب المتحرر لا يعبأ بالقيود وإن كانت في صميم صحة الاختيار، فالمهم لديه تحقيق رغبته في الاقتران بمن يريد من دون مراعاة لأي اعتبار ديني أو مجتمعي.
وليست هذه النزعة وليدة من العدم بل هي ناشئة عن التشدد في وضع القيود، وبسبب تراكم للضوابط النابعة من وجهة النظر العرفية، ويؤكد الموسوي أنه كلما كان المجتمع منغلقاً وبعيداً عن التعليم، ازدادت تلك القيود تعقيداً وأصبحت من أهم أسباب التمرد وازدياد رفض العادات والتقاليد المحكومة بالزمن والظروف.
وفي دراسة مسحية أُجريت على مجموعة من الشباب والشابات تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عاماً، بلغ عددهم 45 شخصاً، تنوعوا ما بين طلبة شكَّلوا ما نسبته 8.9 في المئة، وموظفين شكلوا نسبة 51.1 في المئة، و”كَسَبة” شكلوا 40 في المئة، تبين أن معايير الارتباطات تفاوتت بين فئة وأخرى تبعاً للثقافة والتحصيل العلمي والوضع الاقتصادي والاجتماعي.
نفقات العائلة
وتقول، مريم 22 سنة، وهي خريجة كلية العلوم: “يجب أن يكون شريك العمر من خارج العراق أولاً، وجميل المظهر ثانياً، وميسور الحال أخيراً”، ولا بأس إن كنت زوجة ثانية. وأوضحت أسباب ذلك قائلة، “يعاني أهلي من وضع مادي صعب، ولدي ستة من الإخوة والأخوات، وأعول على زوجي المستقبلي تحمل نفقتي ونفقات أهلي للخروج من عسر الحال”.
زوجة محتشمة
أما أثير 30 عاماً، ويعمل أمين مكتبة في إحدى الجامعات، يقول: “من شروطي أن تكون ملتزمة دينياً، وأن تتحلى بالخلق والثقافة والتواضع، ولا تتأثر بالمظاهر، وأن تهتم بالحشمة. الشكل بالنسبة لي في المرتبة الثانية، وحالتها المادية غير مهمة فأنا رجل شرقي وعلي تحمل نفقات أسرتي، أما التحصيل العلمي فليس مهماً بنسبة كبيرة، ولكن يهمني أن تكون شغوفة بالشعر والأدب والإتيكيت”.
المال والسفر والملابس
واشترطت ريم 21 سنة خريجة معهد الفنون الجميلة في شريكها، “أن يكون جميل الوجه والجسد، ويملك رصيداً في البنك”. تقول: “لأني معجبة بالمشاهير على وسائل التواصل ويوتيوب، أرى أن السعادة تتحقق بوجود المال، والسفر، والملابس الجميلة، وأحب أن أحقق طموحاتي وأكون مشهورة”.
جنسية ثانية
بدوره، قال عبد العال 33 سنة وهو موظف مبيعات (يعمل بعقد) في شركة أدوية، “لا بأس أن تكون ربة بيت أو غير حاصلة على شهادة علمية، المهم أن تكون جميلة وتنحدر من أسرة ثرية، ولا تعنيني جذور الأسرة”. ويتابع، “بصراحة أفضل أن أتزوج ممن تملك جنسية ثانية لأني أفضل العيش خارج العراق”. وهو يعتبر أنه من الصعب الحصول على وظيفة في العراق، “أحمل شهادة جامعية لكني لا أجد مكاناً في سلك الوظيفة، لأن الوظائف توزع لذوي العلاقات بأصحاب المناصب الرفيعة، علي أتوظف في بلد آخر ولا يهم نوع الوظيفة، المهم أن أعيش حياتي كما ينبغي لأي شاب”.
وظيفة وراتب محترم
حيدر شاب (24 عاماً) خريج كلية طب الأسنان، يهمه أن تكون شريكة حياته متفهمة أولاً وذات شخصية قوية، ويرضى بها متوسطة الجمال ولا يريدها متحجبة، إلا أن لباسها يجب أن يكون محتشماً، ويرفض أن تتشبه بالفاشينستات وتبتعد عن عمليات التجميل بجميع أشكالها حتى البسيط منها، والأهم أن تنحدر من عائلة محترمة وتحمل شهادة عليا تضمن لها وظيفة محترمة براتب محترم.
العولمة والنظام الرقمي
المتخصص في علم الاجتماع للأسرة والطفل فاروق الدباغ يقول: “هذا التحول نتيجة العولمة والنظام الاجتماعي الرقمي، الذي دخل المجتمعات العربية مع ثقافة موازية لتطور المجتمع والفرد، ولكن في مجتمعاتنا العربية اقتحمت تلك الثقافة بشكل مفاجئ”.
كما أوضح أنه “أصبح لكل فرد مساحة أكبر وحرية أوسع في التقييم واختيار الشريك، ولم تعد الأم والأخت والخاطبة هي دليل تعارف الشريكين، فقد وصل نظام العولمة إلى كل فرد، وأصبح بإمكان الجميع أن يتواصلوا ويتحدثوا بالصورة والصوت في الغروبات الافتراضية”.
ومن أسباب هذا التحول، دخول المرأة سوق العمل وتحررها من قيود الرجل المعيل، بعد أن كانت سابقاً تحت ضغط وتسلط الرجل وظلمه لها، فقط لأن خياراتها تكاد تكون معدومة، كما تجاوز حدود الأمن العاطفي للفرد حدود العائلة، والقصد من ذلك الأبوين والإخوة، فأصبح العالم الافتراضي يوفر الأمن العاطفي للفرد.
مفهوم الزواج أيضاً اختلف بين الأجيال، ولم يعد الزواج من أجل الإنجاب وتلبية الرغبات، ويضيف الدباغ، “هناك من يسمي الزواج المشروع أو المؤسسة، والعلاقة في المشروع نسب وأهداف مشتركة، وبتغير الأهداف تنتهي العلاقة بأقل ضرر مقارنة بما كانت عليه في الأجيال السابقة”.
ويتباع قائلاً: “اليوم هناك طرق لا حصر لها لخلق أمان عاطفي بين الزوجين، في حين استغرق بناء الأمان العاطفي في الأجيال السابقة وقتاً طويلاً، فتربية الأطفال والنجاحات المتواصلة بين الشريكين من أجل الوصول إلى علاقة مبنية على الثقة المتبادلة والاحترام والدعم غير المشروط، كانت جميعها على حساب المرأة، ينصحونها: كوني صبورة، تحملي عصبية الرجل، ليس للمرأة سوى زوجها، وهي نصائح تساعد الرجل على التأسْد الأُسري وممارسة سياسة (سي السيّد)، وأن تقبل المرأة بأن تحل في المرتبة الثانية، وتكون مطيعة وتتعود على القبول بالدونية، كل ذلك تلاشى اليوم تقريباً، وأصبحت العلاقة الزوجية ترسم خريطتها بشكل مسبق وتحدد الأهداف”.