حرية – (20/8/2022)
عبد الكريم الحمداني – تحقيق صحفي
سلط تحقيق صحفي، المخاطر التي تواجه قضاة العراق، من ترهيب واعتداءات، أفضت إلى مقتل العديد منهم، ما بعد عام 2003، على يد جماعات خارجة عن القانون.
وبحسب التحقيق الذي نشره “موقع العربي الجديد”، فان “الاستهدافات لم تنتهي عند القضاة فقط، بل وصلت إلى أمان عوائلهم، مما شكل تأثيراً مباشراً على عمل القضاة في البلاد وسط اجراءات حكومية عاجزة عن تأمينهم بالشكل الأمثل”.
وتالياً نص التحقيق:
“يحصي مجلس القضاء الأعلى في العراق على موقعه الإلكتروني، مقتل 73 من القضاة وأعضاء الادعاء العام خلال الفترة من 17 يونيو/حزيران 2003 وحتى العاشر من أكتوبر/تشرين الأول 2019، بينما قتل 211 من موظفي وحراس المحاكم.
ومن أحدث ضحايا حملة استهداف القضاة العراقيين، أحمد فيصل الساعدي، القاضي في محافظة ميسان شرق العراق، والذي قتل في الخامس من فبراير/شباط 2022، وفق إفادة القاضي الأول إياد محسن ضمد، والذي يعمل في محكمة تحقيق الرصافة المختصة بقضايا النزاهة وغسيل الأموال والجريمة الاقتصادية.
اغتيال 74 قاضياً منذ 2003 وحتى فبراير الماضي
و”يُستهدف القضاة من قبل جماعات خارجة عن القانون والإرهابيين، ما أدى إلى زعزعة أمن المجتمع واستقراره عبر موجات متوالية من العنف ضد القضاة “، بحسب إفادة كل من القاضي ضمد، ورزكار محمد أمين الجاف، أحد القضاة الذين حاكموا الرئيس العراقي الأسبق، صدام حسين، والذي يتذكر أصدقاءه وزملاءه الذين تم اغتيالهم، ومنهم نائب رئيس محكمة التمييز، القاضي حسن عزيز عبدالرحمن، والذي اغتيل في بغداد، عبر وضع عبوة ناسفة من النوع اللاصق أسفل سيارته بتاريخ 14 يوليو/تموز 2010، وعضو محكمة التمييز القاضي نجم عبدالواحد والذي اغتيل في بغداد بعد أسبوع من ترشحه لمنصب نائب رئيس مجلس القضاء الأعلى في العراق بتاريخ 17 أغسطس 2010.
ولم تتوقف الاغتيالات عند القضاة، بل طاولت أسرهم، ومن بينهم أحمد مدحت المحمود، نجل رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق مدحت المحمود، والذي اغتيل في منطقة الأعظمية في بغداد، مع اثنين من مرافقيه، في عام 2012، كما يقول القاضي أمين الجاف لـ”العربي الجديد”.
أسماء القضاة وأعضاء الادعاء العام الذين قتلوا في العراق (المصدر :موقع مجلس القضاء الأعلى)
الحياة في انتظار الموت
تفاقمت ظاهرة الاعتداءات على القضاة بعد الاحتلال الأميركي للعراق وما صاحب الأمر من حالة انفلات أمني، وبحسب القاضي ضمد والقاضي رحيم العكيلي، رئيس هيئة النزاهة الاتحادية السابق (مستقلة تعمل على مكافحة الفساد) فإن أغلب محافظات العراق باستثناء إقليم كردستان، وقعت فيها حالات اغتيال قضاة، ويتابع العكيلي لـ”العربي الجديد”: “في معظم الحالات لم نتمكن من معرفة أسباب القتل وخلفياته، لأن معظم الحالات لم يعلن عن كشف الجناة فيها، وتقيد ضد مجهولين في الغالب”.
ويتعرض القضاة العراقيون للتهديد للتأثير على قراراتهم في قضايا القتل والخطف والاتجار بالبشر وتجارة المخدرات وحيازة الأسلحة غير المرخصة، وفق ما وثقه معد التحقيق مع ثلاثة قضاة تعرضوا لمحاولات اغتيال، ومنهم القاضي محمد جواد (اسم مستعار حفاظاً على أمنه الشخصي)، والذي واجه الموت عدة مرات من قبل مسلحين في بغداد، بسبب إصداره لأحكام قضائية ضد منتمين لفصائل مسلحة، تورطوا في عمليات إرهابية، وتسببوا في الإخلال بالأمن القومي أو استهداف مؤسسات دبلوماسية وحكومية، حسب قوله لـ”العربي الجديد”، مضيفاً: “آخر محاولة اختطاف كانت عند عودتي إلى المنزل في مطلع سبتمبر/أيلول 2017، إذ اقتربت من سيارتي مركبات بدون لوحات ونوافذها مظللة، لكنهم فروا عندما شاهدوا مرور سيارات عسكرية في تلك اللحظة”.
لاحقاً اضطر جواد إلى نقل عائلته إلى إقليم كردستان، بحثاً عن الأمان، كما يقول، مضيفاً:” لدي يقين أنني سأُقتل في يوم ما برصاص إحدى الفصائل المسلحة، سبق وأن نجوت من محاولات اغتيال بأعجوبة”.
“إنها أسوأ الفترات التي يعيشها القضاة في العراق، نعيش مع هاجس موتنا في كل يوم، لكن لا خيار أمامنا سوى الاستمرار في عملنا” كما يقول القاضي فؤاد محسن علي (اسم مستعار حفاظاً على أمنه الشخصي)، مضيفاً لـ”العربي الجديد”: “الغريب في الأمر أن القضاة يُقتلون على أيدي من يفترض أنهم يحمونهم من رصاص الإرهاب”.
وفي عام 2014 تلقى القاضي علي، تهديدات بالقتل في بغداد من ضابط عراقي، بعدما نظر قضية تجارة المخدرات وتسهيل مرورها إلى محافظات الجنوب، قائلاً: “حاول الضابط إغرائي بالمال من أجل إغلاق ملفه وتبرئته، لكن ضميري المهني وأخلاقي لم يسمحا لي بتقبل هكذا أمر”، ويضيف: “بعد المحاولات الفاشلة لإثنائي عن نظر القضية وصلتني رسالة ذلك الضابط، أنه في حال عدم انسحابي من هذه القضية سيقوم بقتل عائلتي وقتلي بعد ذلك”.
بالفعل انسحب القاضي علي من القضية، وطالب بإيجاد بديل، قائلاً أن :” المتهمين بهذه القضايا يشكلون تهديداً حقيقياً ليس للقضاة فقط، بل للدولة كلها، لأنهم يمتلكون الأموال والسلاح والأفراد، وتعجز الدولة عن الوقوف بوجههم”.
مظلة الدولة مثقوبة
أثرت الهجمات المسلحة التي يتعرض لها القضاة، على العمل سلباً، وحجمت فعالية منظومة العدالة، بحسب القاضي أمين الجاف والذي يقول:” يجب أن يتمتع من يجلس على منصة القضاء بأمان تام ولا يكون تحت أي ضغط نفسي أو مادي ليصدر قراره العادل بأمانة دون خوف”.
ويعيد القاضي العكيلي، الأسباب التي تقف خلف ما تعرض له القضاة من اعتداءات بعد عام 2003 إلى ضعف سيادة القانون وانتشار السلاح والجريمة فضلاً عن غياب المحاسبة وضعف الاهتمام بحمايات القضاة، معتبراً أنها شكلية وغير جادة”.
ضعف الاهتمام بحمايات القضاة سهل من استهدافهم
ولم توفر الحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 2003، الحماية اللازمة للقضاة، بحسب القاضي ضمد، محملاً الأجهزة الأمنية مسؤولية عدم ضمان الحماية والأمن الشخصي للقضاة وعوائلهم، رغم المطالبات والتأكيدات المستمرة على أهمية الأمر.
و”ربما يكون الاتجاه الواضح في العراق لتخويف المسؤولين القضائيين غير مفاجئ في بلد عانى من حالة مستمرة من التمرد والاختراق الإرهابي المكثف لما يقرب من عشرين عاماً، توجد حاجة إلى الحماية لكي يتمكن القضاة من أداء عملهم عند محاولتهم مقاضاة مجرمي المليشيات” بحسب مايكل نايتس، الباحث الزميل في معهد واشنطن والمتخصص في الشؤون العسكرية والأمنية للعراق وإيران ودول الخليج، والذي يقول في تحليل موجز نشره على موقع المعهد في العاشر من يونيو 2021 بعنوان “القضاء العراقي حلقة ضعيفة”، أن “الحلقة الأضعف في قدرة الدولة على حماية الشعب العراقي ومحاسبة الجناة، هي القضاء، فلا يمكن أن تتحقق سيادة القانون، ولا أن تقوم دولة فعلية، إذا كان القضاة غير قادرين على تقييم الأدلة، أو غير راغبين بذلك، ونظراً لأن السلطة التنفيذية والقيادة العسكرية تظهران تحسّناً في قدرتهما على إضعاف هيمنة المليشيات المدعومة من إيران شيئاً فشيئاً، فإن القضاء هو المجال التالي الذي يحتاج إلى إصلاحات عاجلة بمساعدة مركزة من شركاء العراق الأجانب، وخلاف ذلك، قد تتقوض الثقة المحلية والدولية في الدولة فيما يتجاوز نقطة اللاعودة”.
الأخطر على عمل القضاء العراقي
يبلغ عدد القضاة العراقيين 1600، كما يقول القاضي العكيلي، مضيفاً أن ضغوط الجماعات الإرهابية، وممارسات القوى العشائرية، فضلاً عن سعي ذوي النفوذ السياسي والاجتماعي للتأثير على عمل القضاة، كلها عوامل تحد من فعالية القانون، مؤكداً أن سيطرة بعض القوى المشاركة في العملية السياسية على أدوات إنفاذ القانون، جعلت من الصعب ملاحقة ومساءلة كبار الفاسدين، ما أدى إلى تفاقم مستوى نهب أموال الدولة، وبالتالي عندما غابت المساءلة تمكنت تلك القوى من الاحتفاظ بعوائد الفساد لتمويل عملياتها وترسيخ نفوذها وأنشطتها.
ويؤكد القاضي العكيلي، أن نفوذ المتورطين في مخالفة القانون من كبار موظفي الدولة وذوي الياقات البيضاء، والقيادات الأمنية والعسكرية، يشكل التحدي الأهم والأخطر للعدالة في العراق، بسبب توفير الحماية السياسية لهم وقدرتهم على تعطيل المساءلة والإفلات من العقاب.
و”تأثر القضاء بالفساد والضغط السياسي والترهيب العنيف والقوى القبلية والمصالح الدينية”، وفق تقييم منظمة فريدوم هاوس الصادر بعنوان “التطورات السياسية بالعراق في عام 2021″، مشيراً إلى أنه في “الغالب ما تكون الخطوط الفاصلة بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية غير واضحة، والتدخل التنفيذي في السلطة القضائية واسع الانتشار”. و”بسبب عدم الثقة أو عدم الوصول إلى المحاكم، لجأ العديد من العراقيين إلى الهيئات القبلية لتسوية النزاعات، حتى تلك التي تنطوي على جرائم”، وفق المصدر ذاته.
وتحاول جهات مختلفة، بينها سياسية التدخل في عمل القضاة، لتحقيق بعض المصالح الفئوية والسياسية الضيقة، بحسب القاضي ضمد، لكنه يقول إن محاولات التدخل تلك تُواجه بحزم ورفض من قبل القضاة والمؤسسة القضائية، مضيفاً أن التدخلات تعتبر تحدياً للمؤسسة القضائية، التي تحاول وقف الأمر وهو ما يبدو في ما يصدره مجلس القضاء الأعلى من بيانات مستمرة تؤكد على كافة الأحزاب والكيانات السياسية، ضرورة إبعاد القضاء عن ساحة منافساتهم وعدم زجه في ما يدور بينهم من خلافات ومناكفات سياسية”.