حرية – (25/8/2022)
تشيع لدى سكان الأوراس شرق الجزائر أغنية أمازيغية شاوية قديمة، أعادتها الفنانة المعروفة “مركوندا”، بصوت ملائكي، نقلاً عن الجدات، مقدمة إياها في مرثية حزينة خلدت الألم، ألم أن تموت في حرب لا تعنيك.
تقول أغنية “الألمان”:
في زمن الروس
عشرة في البرنوس
شبان في عمر الزهور
ألّبتهم فرنسا على الآخرين
ثم ألقت بهم لقما
لحمم طائرات الألمان
تؤرخ هذه الأغنية الحزينة لمأساة إنسانية مروّعة، عندما قررت فرنسا تجنيد الآلاف من الجزائريين لمحاربة النازية والفاشية، في إبان الحرب العالمية الثانية. كما تنعى مصائر شبان في عمر الزهور، جنّد أغلبهم عنوة وتطوَّع آخرون ظناً منهم أن المساواة في الموت ستجلب لهم مساواة في الحياة، لكن ذلك لن يحدث، فالآلاف سيموتون هدراً، مثلما هلك ملايين “الروس” رغم أن الواحد منهم يضاهي عشرة أبدان متلفعين في البرنس الواحد. لم تشفع لهم بسطاتهم المتينة تلك من أن يكونوا حطب الحرب ورمادها المستعر، ما بالك بأبناء المستعمرات ذوي القامات المتوسطة؟
1- فرنسا الحرة تستنجد بأبناء المستعمرات لاسترجاع مجد نابليون المتهالك
عندما انتصرت ألمانيا على فرنسا، وتجوَّل هتلر في باريس وقُسمت البلاد إلى قسم تابع لألمانيا، وآخر موالٍ لها في منطقة فيشي، الذي حكمته حكومة بهذا الاسم، ارتأت قيادة فرنسا الحرة أن تنشئ جيشاً جديداً يشارك في تحرير فرنسا بالتعاون مع الحلفاء.
ذهب القائد العام الجنرال هنري غيرو للقاء الزعيمين البريطاني والأمريكي، ونستون تشرشل وفرانكلين روزفلت في أنفا بكازابلانكا المغربية، متوسلاً مده باللباس والسلاح: “نريد سلاحاً وفقط”، حتى إن الرئيس الأمريكي قال كلاماً مهيناً في حق ممثل فرنسا الحرة: “لم يكن شيئاً يذكر لمّا كان إدارياً، ولن يكون شيئاً ساعة يصير زعيماً”.
لم يكن البريطانيون والأمريكيون ينظرون بعين الثقة لفرنسا المتهاوية، إثر تلك الإهانة الألمانية التي سحقت الجيش الفرنسي، في رمش العين، وبددت تلك الصورة المبهرة التي جسدها الإمبراطور الغازي نابوليون بونابرت على مدار عصور.
لم يكن أمام الجنرال غيرو سوى أن يشرع في خطة جديدة لإعادة بعث الجيش الفرنسي، في مظهر جديد؛ لذا فإنه سيطلب لباساً جديداً وسلاحاً جديداً وذخائر جديدة عدا أنه سيحتفظ بـ “خوذة أدريان” الفرنسية، كآخر رمز فرنسي.
وأما الجنود الذين سيرتدون اللباس الجديد فليس ثمة مشكلة، ففرنسا التي لا تزال عبر سلطة المنفى تبسط سيطرتها على مستعمرات كثيرة، ستلجأ مرة أخرى كما فعلت في الحرب العالمية الأولى، لأبناء الجزائر وتونس والمغرب والسنغال، أي أولئك “البشر” الذين ترزح بلدانهم تحت قهر الاحتلال الفرنسي، والذين تصنفهم الأدبيات الرسمية ذات الطابع العنصري بكلمة “الأنديجان” أي “الأهليين”، وهم في مرتبة واقعة بين درجة ما فوق العبد، وما تحت المواطن، والدليل أنها أنشأت مدارس خاصة بالأوروبيين ومدارس خاصة بالأهليين. لكن غير المتساوين في الحياة سيتساوون في الموت، فعبيد الحرب هم الأبطال وهم المحررون.
تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن فرنسا جنَّدت، ما بين أعوام 1939 إلى 1947، 325.000 جندي، بينهم 134.000 جزائري، و73.000 مغربي، و26.000 تونسي، و92.000 من إفريقيا السوداء، وأرقام مهولة كهذه تدل على أنهم كانوا يشكلون أكثر من ثلاثة أرباع القوى المسخرة للدفاع عن حياة فرنسا والموت في سبيلها.
2- جحيم عسكري وإنساني في جنان نابولي مونتي كاسينو
سيحمل هذا الجيش اسماً هو الجيش الإفريقي ويخضع لقيادة الجنرال ألفونس جوان المدعو الإفريقي لميلاده في مدينة عنابة الجزائرية، وكانت مهمته الأولى “تحرير فرنسا”، أما جبهة العمل فكانت في العام 1944 تدور رحاها في الأراضي الإيطالية، وتحديداً بصقلية وجنوبي نابولي، بهدف التوغل نحو الأراضي الفرنسية، عبر غزو روما براً.
لكنَّ جنرالاً ألمانياً يدعى ألبرت كيسرلينغ وكنيته “العم ألبرت” و” ألبرت الباسم”، كان بالمرصاد، لما أنشأ قبل ذلك خطاً دفاعياً حمل مسمى “غوستاف” كان الأشهر قوة ومناعة، غير بعيد عن دير مونتي كاسينو، أو “قلعة الإله”، تلك الكنيسة التي شيدها القديس بينديكت في العام 529 ميلادية.
وتلك الجبهة ستكون بدءاً من شهري يناير حتى مايو 1944، على ميعاد مع واحدة من أشرس معارك الحرب الكونية الثانية، فعلى الجانب الفرنسي والحلفاء يتخندق قرابة 400.000 جندي من أمريكا وبريطانيا وفرنسا ومستعمراتهما. وبين مقاتلي الحملة الفرنسية الذين بلغوا 112.000 مقاتل، كان هناك 67.000 جندي من الجزائر والمغرب وتونس والسنغال، صُفِّفوا في كتائب تدربت على معارك الجبال، لمقارعة جيش كيسرلنغ الألماني الذي ناهز 100.000 عسكري، بينهم عتاة الصاعقة والمغاوير.
تبدت المواجهة قاسية الملامح، فالألمان الذين احتلوا أعالي المناطق الجبلية والدير، وجل القمم المحيطة، يتموقعون في الواقع، خلف جدار حديدي شيده النازيون بسخرة 20.000 قروي إيطالي، وهو مرتكز على تحصينات طبيعية، واصطناعية، معززاً بأسلاك شاسعة، وحقول ألغام.
كان خط غوستاف أو “خط الشتاء” يظهر كما لو أنه سور صين طبيعي من الصعب اختراقه، أو حتى الاقتراب منه، دون دفع فاتورة بشرية تشيب من هولها الولدان.
طوال شهور، سيعيش الجنود أياماً مهولة، إذ كانوا يتساقطون فيها مثل الأرانب والذباب، وأما العربات فكانت تحرق في تلك الأراضي الموحلة المليئة بالمستنقعات. أيضاً سيعانون الجوع لتأخر الإمداد كلما تساقطت الأمطار والثلوج، ولأن بعضهم كانوا لا يجدون ما يستدفئون به، سيتبولون، إذن، في أيديهم أملاً في حرارة تساعدهم في تحريك أصابعهم والإمساك ببنادقهم والدفاع عن أنفسهم. وأما المغامرة بتنفيذ مهمات اختراق فكانت تعني الموت حتى إن جنوداً أمريكيين كانوا يلجأون للعب “البوكر” لتحديد الخاسر الذي سيتولى تنفيذ مهمة جلب الماء أو تنفيذ عملية استطلاع أو جس نقاط أعداء ألمان كانت تطلق عليهم كنية “الشياطين الخضر”.
3- يوم تفوقت بغال شمال إفريقيا على دبابات الجنرال الأمريكي (كلارك)
أما الكتائب المغاربية العديدة المجندة، فكانت تضم عدة فرق، بينها الفرقة التونسية الرابعة للمشاة، وفرق القوم والطابور المغربي، والكتيبة الثالثة للمشاة الجزائريين، المسماة “الأهلة الثلاث”، وضمت الفرقة الجزائرية الثالثة للمشاة أفواجاً حملت شعارات كتب عليها باللغة العربية “النصر أو الموت”، وقد تجشمت كلها مهمات صعبة وحققت انتصارات عسكرية واضحة المعالم كما دفعت كلفة باهضه الثمن، ثم ارتكب بعض عناصرها جرائم شرف في إقليم تشوشيريا المنكوب.
قامت الفرقة التونسية الرابعة للمشاة بتحقيق نصر ملهم في اختراق جبلي لاحتلال موقع جبل البلفودير، وهو أول اختراق أعقب فشل الجيشين الأمريكي بقيادة الجنرال كلارك في هجومات مباشرة لكسر طوق غوستاف العتيد، بيد أن ذلك الهجوم المفاجئ لم يكن دون مأساة، إذ تقدم جندي تونسي يسمى عبد الهادي محفزاً أفراد الفرقة المحاصرة، التي يقودها عقيد فرنسي مردداً الشهادتين “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، فتحفزت الأنفس لقتال الألمان، ودارت معركة شرسة انتهت بالسيطرة على المكان، بجردة حساب ثقيلة، فقد أبيدت الكتيبة التونسية شبه إبادة كاملة وفقدت 60 في المئة من عناصرها، بـ207 قتلى، و1090 جريحاً و75 مفقوداً، حتى إن ديغول قال: “أنجزت الفرقة التونسية عملاً عسكرياً لامعاً بثمن باهظ في الأرواح”.
وأما الكتيبة الجزائرية الثالثة التي قادها الجنرال جوزيف مونتسابارت فحققت عدة انتصارات لخصها الكاتب العسكري إيف مونتاني بقوله: “هؤلاء هم أبناء نوميديا القديمة والورثة الشرعيون للجيش الروماني الأوغسطيني الثالث. لقد انتزعوا مواقع مونا كازال والأكوا فونداتا وصمدوا في موقعة البلفودير الرهيبة قبل أن يخترقوا خط غوستاف ويسيروا براً نحو روما”، ولم تشذ الفرق المغربية المشاركة في تلك المعارك الضارية عن الفوز بتنويهات خاصة تلك الكتيبة الثانية التي ضمت أرتالا من البغال، حتى إن الجنرال الألماني كيسرلنغ قال: “قاتل المغربيون بشراسة، واستغلوا كل موقع نجاح بتحشيد كبير للقوى قبل صبها على المناطق الضعيفة”.
لم تعدم معركة مونتي كاسينو من نوادر تاريخية بالغة الأثر والعبر. لقد ظل الأمريكيون والبريطانيون يسخرون، على مدار شهور، من الفرق العسكرية الشمال إفريقية، التي كان تستعمل “البغال” في نقل السلاح والجنود، تماشياً مع تضاريس أرض المعركة، ففيما فشلت المحاولات الأمريكية التي شنها الجنرال كلارك بهجومات مباشرة على الخط بالدبابات، مستعيناً بالطيران البريطاني “روايال إير فورص”، حقق الفرنسيون اختراقات مهمة بواسطة هذه الدواب عبر الجبال والوديان، وقد دفعت تلك النجاحات الأمريكيين والبريطانيين للاعتراف قائلين: حقق جيش “بغل إير فورص” ما لم يحققه طيران “روايال إير فورص” وما عجزت عنه دبابات الجنرال مارك كلارك.
4- عشرون ألف جزائري وتونسي ومغربي بين قتيل وجريح ومفقود
سار الجيش الإفريقي الذي ساهم بشكل كبير في كسر درع غوستاف، نحو روما نهايات ربيع 1944، مخلفاً وراءه مقبرة إسلامية في مدينة فينفارو، لا تزال قائمة حتى يوم الناس هذا.
تضم الجبانة الواقعة بين كاسينو ونابولي أجساد ما يناهز 5000 من أبناء الجزائر وتونس والمغرب، ويمكن أن تقرأ في أحد مداخلها جدارية رخامية ضرب عليها بالخط الأسود “في أثناء الحرب الإيطالية بين شتاء 1362 وصيف 1362 هجرية، فقدت الجيوش الإسلامية التابعة لإفريقيا الشمالية، من المملكة التونسية والجزائر والمغرب الأقصى 4800 جندي” متبوعة بعبارة ضربت في شاخص مسطح لمقبرة أقيم لآلاف المفقودين: “هنا دُفن جندي مسلم مجهول مات في سبيل فرنسا”.
وفي واقع الحال التهمت هذه الحرب الإيطالية 20.000 جندي مغاربي بين قتيل وجريح ومفقود، ولن تتوقف الحصيلة هنا، سيرتفع العدد مع المعارك التي انتدبوا لها بعد إيطاليا إلى 60.000 قتيل، في حين تؤكد أرقام فرنسية أن تعداد مسلمي شمال إفريقيا وإفريقيا السوداء الذين قضوا في معارك خاضتها فرنسا على مدار قرن كامل بما فيها الحرب العالمية الأولى، ارتقى إلى 100.000 قتيل.
أما آلاف المفقودين، الذين يرجح أنهم تفحموا حرقاً بالغازات وقاذفات اللهب، أو أُسروا في معتقلات نازية، فلم يعثر لهم على أثر، كما لو لم يوجدوا قط أو لم يكونوا شيئاً في تلك الحرب، أو كأنما هي لعنة سالوست الروماني حلت من جديد عبر مقولته الشهير عن: “أولئك الذين يولدون ليموتوا من أجل الآخرين”.
5- الرئيسان بن بلة وبوضياف والجنرال أوفقير مروا من هنا
في مارس/آذار 1994، كانت شخصية جزائرية معروفة تغادر مقر جمعية سانت إيجيديو، إثر انتهاء لقاء تاريخي جمعت أقطاب المعارضة لتدبير أزمة 1992، ثم تسلك طريق روما الجنوبي لتحط الرحال، بمقبرة فينافرو.
كان ذلك الشخص هو أحمد بن بلة، أول رئيس جزائري بعد الاستقلال؛ إذ إنه شارك في تلك المعارك الضارية بجبل كاسينو، وتلقى 4 تنويهات عسكرية، بينها ميدالية استحقاق سلمها له الجنرال شارل ديغول شخصياً، فيما كان جندي جزائري آخر هو محمد بوضياف يخوض تلك المعارك دون أن يعلم إن كانت ستكتب له حياة، ثم إنه صار مثل زميله الذين لم يكن يعرفه ساعتها، رئيساً للبلاد، ويموت مغتالاً في العام 1992.
لم يكن الرئيسان الجزائريان استثناء، بين شخصيات مغاربية مرت بمدرسة كاسينو كما سماها، فالجنرال المغربي المعروف، محمد أوفقير ذو الأصول الجزائرية “البلعباسية”، الذي ذاع صيته عالمياً، بمحاولة الانقلاب الفاشلة على الملك الحسن الثاني العام 1972، بعد أن تولى مناصب رفيعة في المملكة المغربية كوزير للدفاع والداخلية، كان شارك في هذه الحرب ونال أوسمة استحقاق عدة شأنه شأن مواطنه الجنرال إدريس العلمي الذي شغل منصب وزير بالحكومة المغربية.
ولم يخطئ بن بلة لما وصف مونتي كاسينو بالمدرسة، فقد كان أولئك الشبان والجنود الجزائريون يتعلمون، في ذلك الـ “ستالينغراد الإيطالي”، فنون الحرب ونصب الكمائن والخنادق واستعمال السلاح، لتوجيهها ضد أعدائهم الحقيقيين عندما ستهب رياح الثورة الجزائرية في أعوام، يوم قرروا في الفاتح من نوفمبر/تشرين الثاني 1954 أن يموتوا في سبيل قضيتهم شهداء لا لحم مدافع في حروب الآخرين، كما لو أن الفرنسيين أرادوا شيئاً فأرادت السماء شيئاً آخر.
باستثناء فيلم سينمائي وحيد أخرجه الجزائري رشيد بوشارب، في العام 2006، بعنوان “أنديجان”، حصل به على ترشيح لافت للأوسكار ونال جائزتي سيزار، لم يحظَ هؤلاء المنسيون بكبير اهتمام، لا بل إن إسهامهم في محاربة النازية وتحرير أوروبا وفرنسا، تتعرض لتعتيم شرس، ثم للتجاهل المبرمج، فيما يسطو لصوص المجد من فرنسيين وبريطانيين وأمريكيين، على سبق الانتصار، فلا يذكر الإنجليز جنود مستعمراتهم الذين حققوا احتراقات مهمة في معركة مونتي كاسينو، كما لا يذكر الفرنسيون الكتائب الجزائرية والمغربية والتونسية التي حررت أوروبا، إلا نادراً، ولا غرو في ذلك ولا عجب، فقد لخص مؤرخون فرنسيون “نزهاء” مشهد الظلم التاريخي الذي حاق بأبناء المستعمرات بما يلي:
“كانوا في الصفوف الأولى في المعارك، وفي الصف الثاني بعد انتهاء الحرب”.