حرية – (28/8/2022)
يتحرر الفأر الأشهر في التاريخ من قبضة الحقوق الملكية ويصير مشاعاً إبداعياً للآخرين للبناء عليه شرط عدم الخلط بينه والشخصية الأصلية
الأوضاع الاقتصادية الصعبة دفعت بعض أصحاب المحال إلى بدء موسم “العودة إلى المدارس” مبكراً. اصطحبت الأم صغيرها (11 سنة) لشراء حقيبة المدرسة، وبعد جولة تفقدية للمعروض استقرت الأم على حقيبتين يتوسطهما ميكي ماوس، الأولى وهو يرتدي بنطلونه الأحمر الكلاسيكي القصير والأخيرة وهو يرتدي بنطلوناً أحمر أيضاً ولكن طويل.
نظر الصغير إلى الحقيبتين ووقع في حيرة. هل يتفاعل تفاعل الأطفال فيبكي ويصرخ ويلقي بنفسه على الأرض اعتراضاً؟ أم يمتثل لنداء المراهقة التي هو مقبل عليها وينظر بسخرية إلى الحقيبتين ويتهم والدته بالجنون أو الجنوح أو الانفصال عن الواقع، وقبل أن يحسم أمره سألته والدته سؤالاً ظنت أنه تحصيل حاصل، “تحب ميكي أكيد؟”، لكنه أجاب إجابة صادمة إذ اكتشفت الأم أنه لا يعرف ميكي.
ميكي ومليارات البشر
ميكي الذي أتم عامه الـ95 الذي نشأ على يديه هو وصديقته المقربة “ميمي” أو “ميني” ملايين، وربما مليارات الأطفال على مدار هذه العقود لم يعد ملء سمع الصغار وبصرهم، لكن في سمع الكبار وبصرهم وفي ذاكرتهم وفي نوستالجيا الماضي لدى “جدو” و”تيتة” يتربع أشهر فأر في التاريخ مهيمناً ومسيطراً.
ظل “ميكي ماوس” مسيطراً على قطاع عريض من سكان الكوكب منذ خرج إلى النور على يد والت ديزني عام 1927، لكن خروجه في ذلك العام جاء على هيئة أرنب. “أوزوالد الأرنب المحظوظ”، لكن الأرنب لم يكن محظوظاً في الواقع إذ استولى الموزع على حقوق الشخصية، فما كان من ديزني إلا أن أدخل تعديلات على الأرنب وصار فأراً، ولم يكن مجرد فأر، بل أصبح الفأر الأشهر في التاريخ.
أمضى “ميكي” أعوامه الـ95 مواكباً للموضة تارة بشورت أحمر يتحول إلى بنطلون باللون ذاته، ويرتدي بدلة “توكسيدو” تارة وملابس “كاجوال” تارة، ويعتلي حذاءً أسود أحياناً، لكن الأصفر المائل إلى البرتقالي يظل الأعم والأشهر.
كان ميكي في بدايته جرذاً مؤذياً شريراً قبل أن تدخل عليه بعض التعديلات ليصير الفأر الأكثر وسامة وجاذبية
جرذ قبيح
في سنواته الأولى، رسمه مصمم الرسوم المتحركة أوب إيوركس والأداء الصوتي كان لديزني شخصياً وذلك حتى عام 1947، وما لا يعرفه كثيرون أن هذا الوجه الجميل البريء الشقي الذي يتمتع به ميكي كان في بدايته النقيض تماماً شكلاً وموضوعاً.
كان ميكي في بدايته جرذاً مؤذياً شريراً ذا أنف مدبب وعينين سوداوين وجسم صغير وذيل طويل كتلك الجرذان التي تسبب الهلع في المخازن المهجورة والأقباء القديمة، لكن تعديلات عدة أجريت حتى تحول إلى الفأر الأكثر وسامة وجاذبية.
وعلى الرغم من انضمام عدد من الأصدقاء والصديقات مثل “دونالد داك” (عم بطوط) و”غوفي” (بندق) و”بلوتو”، إضافة إلى معشوقته “ميني” (ميمي)، فإن ميكي احتفظ لنفسه بهالة تختلف عن غيره من أصدقائه وصديقاته.
الجميع يحب الفأر
الأسباب غير محددة، لكنها تحتمل كثيراً من التفسيرات والتحليلات وإن بقيت أسباب شعبيته ومحبته تختلف من شخص لآخر، فعلى الرغم من وجه “ميكي” الذي يؤكد أنه فأر ابن فأر، لا سيما أذنيه اللتين أصبحتا علامة تجارية في حد ذاتهما ويتم تصميم إكسسوارات شعر للأطفال وحقائب وغيرها عبارة عن أذني ميكي فقط، إلا أن صفاته وسماته وتصرفاته بشرية.
البعض يرى في ميكي شخصية سعيدة ولا تخلو من قدر من الشقاوة المحببة إلى النفس إذ إن فريقاً من علماء النفس اعتبروا ميكي نموذجاً لشخصية تعبر عن مشاعرها الحارة وحساسة ودافئة وتمعن في إطلاق الأحكام على من حولها.
ميكي نموذج للشخص أو بالأحرى الفأر الاجتماعي الذي يحب أن تكون له دائرة علاقات اجتماعية ومعارف كبيرة وقريبة من أهل وأصدقاء وجيران. يساعد الناس بفطرته، حتى إن أدت مساعدته إلى إيقاعهم في مشكلات كانوا في غنى عنها، تماماً كما كانت الأم في غنى عن نظرات صغيرها الغاضبة والحانقة إلى حقيبتي ميكي اللتين اختارتهما له بعناية فائقة.
قلوب ملؤها الحنين
فالأم والجدة وسائر أفراد الأسرة ممن تعدت أعمارهم الـ30 أو 35 سنة ينظرون إلى ميكي وأذنيه الشهيرتين بعيون وقلوب ملؤها الـ”نوستالجيا”، فميكي يمثل طفولتهم والماضي القريب أو البعيد وقت كانوا مسؤولين من آخرين وليس عنهم، وقت كان الأطفال يصدقون أن هناك فأراً يتكلم ويمشي على قدمين ويرتدي شورت أحمر وحذاء برتقالياً، وحتى أولئك الذين تشككوا في قدرات الفأر تركوا أنفسهم يستمتعون بمغامراته وقصصه ومقالبه وعواطفه الجياشة تجاه حبيبة القلب “ميني” أو ميمي.
لكن هذه الأيام، قلما يمثل أي مما سبق سبباً لإسعاد أو إبهار أو إمتاع الصغار، ربما الرضع والأطفال في سن تعلم المشي يظهرون انبهاراً أو انشغالاً بميكي، لكنه يبقى موقتاً وانشغالاً لحين إشعار رقمي آخر متمثل في هاتف جدو الذكي يلعبون عليه لعبة رقمية أو “تابلت” تيتة (الجدة) يشاهدون عليه الإصدارات الأحدث لديزني مثل رايا والتنين الأخير وموانا ومولان وحروب النجوم وغيرها، وحبذا لو هناك ألعاب كمبيوتر وليست الأفلام فقط.
لذلك فإن احتمال أن يشهد عام 2024 انتهاء صلاحية حقوق الملكية الفكرية الحصرية لميكي والممنوحة لشرطة ديزني بعد 95 عاماً من الظهور، لم ينزل نزول الصاعقة على الصغار، بل كانت الصاعقة من نصيب الكبار.
وعلى الرغم من أن هذا لا يعني اختفاء الفأر ذي الـ95 ربيعاً من الحياة، لكن في الولايات المتحدة الأميركية تستمر حقوق تأليف ونشر الأعمال الأصلية لسبعة عقود بعد وفاة مؤلفها. أما الأعمال غير معلومة المصدر أو التي ألفها شخص مجهول الهوية أو تنسب إلى موظف أنجزها ضمن مهمات عمله، فإن هذه الحقوق تنتهي بعد 95 عاماً.
فكرية أم تجارية؟
هناك فروق بين حقوق الملكية الفكرية والعلامة التجارية، لكن في أميركا لا يضطر أصحاب الحقوق إلى تسجيل علامة تجارية شرطاً للاعتراف بها وحمايتها، فمثلاً شخصية ميكي ماوس في ثالث أفلامه “المركب البخاري ويلي” إذا اعتبرت علامة تجارية، بات في إمكان شركة ديزني القول إن ميكي علامة تجارية مميزة لها، ويشار إلى أن لشركة ديزني عدداً من الشخصيات الكرتونية التي أصبحت علامات تجارية مميزة لها.
هذه العلامة التجارية المميزة والشخصية الكرتونية شديدة التميز والتفرد ومصدر الإلهام لفناني الرسوم المتحركة على مر عقود وسبب الحنين إلى الماضي لمليارات البشر عايشت وكابدت كثيراً وكثيراً في حياتها. سنوات ميكي الـ95 لم تكن كلها مغامرات لإنقاذ أصدقائه ومحاولة إقناع “ميني” بمشاعره تجاهها وترك لعبه مبعثرة ثم تعلمه الدرس بضرورة التنظيم والتدبير، فقد عاصر ميكي أياماً صعبة وخاض تحديات ووجد نفسه وسط عواصف ورياح.
ميكي وصديقته المقربة “ميمي” أو “ميني” سيتحرران قريبا من قيود الملكية الفكرية ويصيران مشاعا إبداعيا
رياح التشدد التي تختلط أحياناً بالكوميديا لفرط عدم معقوليتها أتت بدعوة اعتبرها البعض فتوى بضرورة قتل ميكي ماوس، لماذا؟ لأنه من جنود الشيطان ولأنه كائن ممقوت.
عام 2008، خرج رجل الدين الفلسطيني السعودي محمد صالح المنجد في لقاء على قناة “المجد” الدينية متحدثاً عن الشخصيات الكرتونية التي تؤثر سلباً في أطفال المسلمين، وجاء على رأس القائمة القط والفأر الشهيرين “توم” و”جيري” و”ميكي ماوس”، وقال المنجد “إن الفأر غير طاهر وإنه من جنود إبليس وإن الفأرة نجسة في الشريعة الإسلامية وشيء ممقوت”. ثم تساءل مستنكراً “الفأرة بفعل توم وجيري وميكي ماوس صارت محببة. هي كائنات ممقوتة، لكن صارت لدى الأطفال عظيمة ومحبوبة. ميكي ماوس بات شخصية عظيمة”، ثم قال كلمته “ميكي ماوس يقتل في الحل والحرم. هي كائنات نجسة”.
ميكي نجس؟
وسواء كان ميكي نجساً أو لا، أكد المنجد بعدها أنه لم يقل بقتل ميكي، على الرغم من وجود الفيديو وتداوله على الإنترنت، بل وتصدره نشرات الأخبار الغربية في تلك الآونة.
في الآونة الحالية، يندر أن تجد طفلاً يطلب مشاهدة فيلم لميكي ماوس، بل هناك من تسأله عن ميكي فيحتار قليلاً، وتضيع حيرته حين يرى صورة الفأر الأشهر بأذنيه المستديرتين الشهيرتين فيعرفه أو تتعمق الحيرة ولا يتعرف إلى هذا الكائن الغريب ذي الأذنين العجيبتين. أما الكبار، فيعرفونه ويتشوقون لأيامه وسنواته والذكريات المرتبطة به من أشخاص رحلوا عن دنيانا وأحداث عرفت طريقها إلى كتب التاريخ.
الخبر المفرح لمعظم الكبار ممن يحبون ميكي والقلة من الصغار الذين يرون فيه فأراً ظريفاً هو أن ميكي لن يختف بحلول عام 2024، لكنه سيتحرر من قبضة الحقوق الملكية الفكرية الحصرية وسيكون متاحاً للآخرين للبناء على شخصيته شرط عدم الخلط بينه وميكي الأصلي.
ميكي يتحرر
الخبثاء يلوحون بأن ميكي سيتحرر عام 2024، لكنه سيصبح مشرداً فلا شركة تأويه أو قناة تقيه شرور السارقين والنصابين والمحتالين وآخرون يتكهنون بخروج فيلم أو مسلسل يتحول فيه ميكي الطيب الاجتماعي المحب للخير إلى الشرير القاتل المجرم، وهو طريق الخطأ والخطيئة الذي سبقه إليه “ويني ذا بووه” الذي تحول من دب لطيف صغير يعشق العسل إلى “ويني ذا بووه: الدم والعسل”، ويتوقع فريق رابع أن تخوض ديزني حرباً قضائية للاستمرار في الاحتفاظ بحقوق ميكي الحصرية. إلا أن البعض يتساءل عن جدوى الحرب، لا سيما أن الفأر المسن لم يعد أشهر من نار على علم أو صانع حكايات أو حتى نجم شباك.
بعد أشهر قليلة يقف ميكي ماوس ليردد عبارته الأشهر “أوه بوي” أو “يا ولد” والمقصود بها “يا إلهي”، وسينتظر الجميع ليرى إن كان سيقولها فرحاً باستمرار امتلاك ديزني لحقوقها الحصرية له أو لتحرره أو لبقائه على قيد الحياة وهو في سن الـ95.