حرية – (28/8/2022)
راغدة درغام
هل صفقة سيئة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية أفضل من لا صفقة تؤدّي الى حرب وإلى حجب أية رقابة على البرنامج النووي الإيراني؟ أو أن الأسوأ من فشل التوصّل الى صفقة بين الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا والصين وروسيا مع إيران هو القبول بصفقة سيّئة تكافئ النظام في طهران على تجاوزاته النووية وابتزازاته التخريبية بأموال ضخمة تموّل الطموحات والأجندات الإيرانية النووية والاستراتيجية والإقليمية؟
إدارة بايدن ترى أن صفقة سيّئة هي أفضل من البديل الأسوأ والذي هو في نظرها انجرار الولايات المتحدة الى حرب مع إيران لإيقاف عزمها على امتلاك السلاح النووي. هذا الهوس من حروب تورِّط القوات الأميركية مباشرة تؤدّي الى خسارة أرواحها هو عنصر أساسي، إنما ليس الوحيد، وراء عزم الرئيس الأميركي جو بايدن وفريقه على إبرام صفقة الخوف من الأسوأ. حسبما يبدو الآن، أن الاتفاق على إحياء الاتفاقية النووية JCPOA بات وشيكاً بالرغم من ارتفاع أصوات المعارضة له بين الجمهوريين ومن جانب إسرائيل، مع أنه ليس مضموناً بعد. بدلاً من تحكّم الهلع بالمشاعر سواء فشلت المفاوضات أو نجحت، من الضروري التحلّي بالحكمة والبراغماتية والعقلانية للبدء في دراسة الخيارات.
لا أحد يريد اندلاع الحرب لإيقاف المسيرة الإيرانية نحو امتلاك القنبلة النووية. لا إيران تريدها، ولا إسرائيل، ولا أميركا أو أوروبا، ولا الصين وروسيا، وبالتأكيد لا الدول العربية في الخليج وبلاد الشام.
أولئك الذين يتمنّون حرباً بين إيران وإسرائيل للجم أحدهما أو كلاهما إنما يعيشون في أرض الأحلام والأوهام، والأسباب عديدة من أبرزها علاقة المهادنة التاريخية بين الفرس واليهود التي حالت دون وقوع أيّة مواجهة مباشرة بين إيران وإسرائيل، وما زالت. الحروب بالنيابة، كما في ساحة لبنان، إنما تخدم الطرفين الإيراني والإسرائيلي لأنها تجنّبهما المواجهة المباشرة وتتيح سحق أرواحٍ ليست إيرانية ولا إسرائيلية. أولئك الذين يتصوّرون أن إسرائيل هي المنجد من التسلّط الإيراني على لبنان وسوريا إنما يتوهّمون لأن مصلحة إسرائيل تقتصر على تحييد الجبهتين اللبنانية والسورية على الحدود الإسرائيلية بتعهدٍ إيراني للجم “حزب الله” وسلاحه حدودياً، ولا يهمّها ماذا يفعل “حزب الله” والجمهورية الإسلامية الإيرانية بلبنان داخلياً. فلا إسرائيل ولا إيران صديقتان للبنان بل انهما معاً له أعداء.
ما يحدث على هامش المفاوضات لإحياء الاتفاقية النووية – ويتعلّق بالمسائل الإقليمية – يدخل في خانة تفاهمات الـ”جنتلمن” Gentlemen’s agreement. تفاهمات بين إيران وإسرائيل، وبين إيران والدول الخليجية العربية بشتّى الرعايات الأميركية منها والأوروبية وحتى الروسية.
بالرغم من ارتفاع وتيرة المعارضة الإسرائيلية العلنية لـ”اتفاقية سيئة” – وليس لمبدأ التوصّل الى اتفاقية مع إيران – هناك نبضٌ خفي لإدراكٍ إسرائيلي بأنه في حال فشل المفاوضات، لن تتمكن إسرائيل من إيقاف البرنامج النووي الإيراني بضرباتها العسكرية بمفردها. فالحل العسكري للمعضلة النووية الإيرانية يتطلّب مشاركةً أميركية فعّالة في الحرب، وهذا ما لا تريده إدارة بايدن ولا الرأي العام الأميركي.
ما تقوله القيادات الإسرائيلية السياسية والأمنية هو أنها لن تلتزم بالاتفاقية في حال عدم موافقتها عليها. هذا نوع من النأي بالنفس عن “اتفاقية سيئة” مما يحفظ لإسرائيل مبرر الاستمرار بعملياتها السريّة العسكرية داخل إيران، عندما تتطلّب الحاجة. بذلك، تستفيد إسرائيل من القيود التي ستفرضها الاتفاقية على البرنامج النووي الإيراني زائد حرية تصرّفها بضربات وعمليات لأنها ليست طرفاً موقّعاً على الاتفاقية بين إيران و5+1.
هذا لا يدخل في خانة تفاهمات “جنتلمن” بين إسرائيل وإيران، وإنما قد يدخل في خانة التفاهمات الأميركية – الإسرائيلية غير المعلنة. فالمسألة النووية والرقابة على المنشآت والمفاعل النووية لا تزال اليوم موضع خلاف قد تعرقل الاتفاق ما لم تتراجع إيران عن إصرارها على رقابة وسيطرة محدودة للوكالة الدولية للطاقة الذرية IAEA. فطهران ترفض التدقيق الكامل وتعارض آليات رقابة صارمة لأنها قد دخلت حقاً مرحلة تخصيب لليورانيوم بمستوى التسليح النووي. إما إدارة بايدن، فإنها تدرك أن تنازلها في هذه المسألة الأرجح أن يؤدّي الى تعطيل كامل الاتفاقية في الكونغرس وكذلك بمعارضة إسرائيلية جدّيّة وليس تجميلية، كما يبدو الآن.
تفاهمات “جنتلمن” بين إسرائيل وإيران تتعلّق بتحييد الحدود اللبنانية – الإسرائيلية وكذلك السورية – الإسرائيلية، وهذا ما تحاول دول في مجموعة 5+1 رعايته. كيف سيؤثّر مثل هذا التفاهم على سلاح ودور “حزب الله” في لبنان؟ الفكرة الرئيسية هي أن تضمن طهران أن سلاح “حزب الله” لن يكون موجّهاً ضد إسرائيل ولا مستخدماً عبر الحدود، وصواريخه تصبح مدجّنة.
بكلام آخر، يتم تحييد المقاومة ضد إسرائيل فعلياً بقرار إيراني فيما يمكن لـ”حزب الله” الاستمرار ببلاغة فن الخطابة بلغة المقاومة لأسباب استهلاكية ولبسط سلطة التخويف بالسلاح على الداخل اللبناني.
هناك رأيان: رأي يعتبر مثل هذا التفاهم لمصلحة لبنان لأنه يعفيه من حرب إيرانية – إسرائيلية يستضيفها “حزب الله” في لبنان، فيدمّره ويدفع اللبنانيون الثمن. الرأي الآخر يرى في مثل هذه التفاهمات صفقة خبيثة تستفيد منها إيران وإسرائيل لكنها تلحق الضرر البالغ بلبنان من خلال وضعه تحت الوصاية الإيرانية وسلاح “حزب الله”.
ثم هناك تمنيات. تمنيات بأن يؤدّي تحييد المقاومة وتثبيت المهادنة الإيرانية – الإسرائيلية الى أجواءٍ جديدة لا سيما في ضوء ترسيم الحدود البحرية اللبنانية – الإسرائيلية واستخراج النفط والغاز بمباركة إيرانية. تمنيات بأن تؤدّي التفاهمات الإيرانية مع الولايات المتحدة وأوروبا الى ترويضٍ تلقائي للفكر الإيراني المتطرّف لأن الحاجة الإيرانية الى تنفيذ مشروع النهضة الاقتصادية ستكون ذات أولوية. تمنيات بأن يكون لانخراط الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالنظام العالمي الاقتصادي وبشراكات مع الشركات الأوروبية بُعداً يتمثّل بالانفتاح والعصرنة والالتهاء بالمشاريع التنموية بدلاً من المشاريع التخريبية.
هذه بالطبع تمنيات وليست سياسات، لكنها أمنيات قابلة للتحوّل الى سياسات إذا قام كل من الأطراف العالمية والإقليمية والداخلية بدوره بعيداً من المزايدات وعن أنماط الانصياع كقطيع أو دفن الرؤوس في الرمال. المسؤولية عن ذلك أميركية وأوروبية ولبنانية وكذلك عربية. فإيران بمفردها لن تعيد اختراع نفسها، ولن تتخلى عن شهيتها التوسعية، ولن تُقدِم على احتواء “الحرس الثوري” ومشاريعه التسلطية. إنها في حاجة لضغوط جدّيّة ولمعادلة العصا والجزرة إذا كان لها أن تكبح هيمنتها القاطعة قليلاً.
العراق وسوريا ولبنان دول لن تخرج من تحت المظلة الإيرانية بقرار من “الحرس الثوري” ولا من القيادة الإيرانية الأعلى. تلطيف الهيمنة تدريجياً هو ما في ذهن القيادات الأميركية والأوروبية، إنما مهلاً… مهلاً كي لا يؤثّر سلباً في الأولويات النفطية وأولويات الغاز الأوروبية. واقع الأمر أن العراق لم يعد بارزاً على الرادارات العالمية بدءاً بالرادار الأميركي والأوروبي وانتهاء بالرادار الروسي والصيني الذي يرتاح كثيراً لهيمنة إيران على العراق وسوريا ولبنان لأنها شريك لهما في الترويكا الأوتوقراطية.
السؤال هو، لماذا ستقوم الولايات المتحدة بتمويل تنفيذ الأجندة الإيرانية الإقليمية و”الترويكاوية” كأمر واقع عند رفع العقوبات وضخّ مليارات الدولارات على نظام الملالي ونظام “الحرس الثوري” الذي سيحظى في الوقت ذاته بالاعتراف العالمي بشرعيته ويحتفظ بقدراته النووية؟ “إنها الحرب، يا غبي”، قد يقال، إشارة الى هوس الخوف من دخول أميركا في حروب مباشرة.
قد يقال من جهة أخرى، إن الغباء يكمن في تمويل أميركا للأجندة الإيرانية النووية. ذلك لأن إيران بلا مال ستزداد بطئاً في برامجها النووية وستتكبّل أياديها عمليّاً بسبب شح الأموال ما قد أدّى الى توقف أو ضبط البرنامج النووي في ظل استمرار العقوبات. وأما ضخ مليارات الدولارات في أيادي النظام فإنه سيساعد في تسريع البرنامج النووي الخفيّ الذي لن يرضخ أبداً الى آليات رقابة تكشفه.
قد يقال، إضافة، بلغة قصر النظر الاستراتيجي، إن تحرير إيران من العقوبات يخدم الصين وروسيا، لأنها شريك استراتيجي لهما ولها معهما اتفاقيات شاملة بعيدة المدى ضخمة اقتصادياً وعسكرياً. بل لتحرير إيران من العقوبات فائدة مباشرة لروسيا التي تتسلّم منها المسيّرات المفيدة لحربها في أوكرانيا، وتعدّ لها صفقات أسلحة متطوّرة، وتنوي تشغيل وسائلها الخاصة للقفز على العقوبات الغربية المفروضة على نفطها عبر إيران.
ليست وحدها الحاجة الى النفط والغاز الإيراني وراء الاندفاع العارم لإدارة بايدن والحكومات الأوروبية. إنها استراتيجية قديمة توّجت باتفاقية JCPOA عام 2015 في زمن الرئيس الديموقراطي باراك أوباما. وهي قصة غرام بين كثيرين في الحزب الديموقراطي وفي الاتحاد الأوروبي وبين النظام في طهران ورجاله. وهي أيضاً قصة انتقام من الرئيس الجمهوري الأسبق دونالد ترامب الذي مزّق اتفاقية 2015 ووضع إيران تحت عقوبات كبّلتها. انها قصة مكافأة التجاوزات والرضوخ عند الابتزاز والتهديدات.
إنما عودةً الى التمنيات والتفكير بما العمل في ظل التطوّرات التي تفيد بأن الصفقة النووية آتية، وقريباً… ما تهتم له دول الـ5+1 يشمل أن تكون هناك تفاهمات “جنتلمن” تتعهد إيران بموجبها ألاّ تُعرِّض أمن الخليج والملاحة الدولية للخطر، وألّا تستمر بنشاطاتها الهادفة الى ضرب الاستقرار هناك، وألّا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الخليجية العربية.
هذه الدول تنفتح على الجمهورية الإسلامية الإيرانية في محاولة للتأثير في أدائها الحكومي وليس في عقيدتها. المحادثات السعودية – الإيرانية والوساطات العُمانية والقطرية وغيرها إنما تدخل في خانة الجهود الخليجية الهادئة للسيطرة على التوتر، وفي خانة التمنيات بأن تصبح إيران أقل عدوانية وتطرّفاً وأكثر تقبّلاً للتعايش باحترام متبادل. لذلك، تتوجّه الدول الخليجية العربية الى الجمهورية الإسلامية الإيرانية برسالة فحواها: احتفظوا برسالتكم الدينية والعقائدية، إنما افصلوها عن الأداء الحكومي الذي من الضروري له أن يكون واقعياً سياسياً Real politique.
ما يدور في أذهان الخليجيين هو استطراد للتمنيات الأميركية والأوروبية بأن تؤدّي الاتفاقية الجديدة الى جديدٍ في السلوك الإيراني الإقليمي بأمل أن تصبح الجمهورية الإسلامية أقلّ “ثورجيّة” وتتحول الى دولة عادية وعصريّة.
تمنيات أو تفاهمات؟ أمنيات أو سياسات؟ أم أنها كلها صفقات بصفقات يخوضها كل من الأطراف “لغايةٍ في نفس يعقوب” ولمصالح قومية هي بطبيعتها في منتهى الأنانية؟ لننتظر، لعلّ بين طيّات تفاهمات “جنتلمن” ما يدهشنا ويفرحنا، ولو قليلاً، لندخل موسم التمنيات.