حرية – (12/9/2022)
قديماً كان المتذوق كبش فداء ليتجنب الملوك السم وترسخ الأمر بمعايير الحواس والتواصل الاجتماعي غير المقاييس
يحدث أن تقرأ إعلاناً يطلب متذوقي شوكولاتة أو طعاماً أو شراباً فتعتقد مخلصاً أنك لها، لهذه المهمة الشهية والسهلة والممتعة ولكن ما خفي تحت تلك المهنة التي تبدو أسهل أمر تقوم به جبل جليدي تصطدم بممنوعاته التي لا تحصى.
فعلاً ربما يبدو الأمر ممتعاً إذا كنت سائحاً وتريد أن تتذوق طعاماً أو شراباً ما ولكن أن تصبح مهنتك التي تطارد تفاصيل حياتك وتلزمك دفتر شروط لا ينتهي، فالأمر يصبح عبئاً. فكيف نشأ مفهوم التذوق وأصبح مهنة؟
الذواق الفدائي
الذواق تاريخياً كان الشخص الذي يقع على عاتقه تذوق الطعام قبل سيده للتأكد من خلوه من السم في عصر الأباطرة الرومان والسلاطين العثمانيين والملوك خلال تلك الممالك الغابرة، بحيث دس السم في الطعام كان أسهل وسيلة للتخلص من رأس السلطة الذي يشك بأقرب المقربين، والوصول إلى السلطة كان أحياناً يمر عبر قطرات السموم ولطالما قرأنا عن ملوك أسقطهم السم عن عروشهم إلى قبورهم، وهكذا كان لا بد من التضحية بمن يتلقى الطعنة الأولى متذوق الطعام، أو يمكن تسميته في هذه الوضعية فأر التجربة، فإن ظهر عليه ما يقلق، يمتنع سيده عن تناول الطعام وإن مات فإنه كبش فداء وغالباً ما كان الطباخ ذاته هو المتذوق، حتى يصبح طابخ السم آكله!
وأصبح للشخصيات النافذة ذواقوهم الفدائيون ولكن هذه المهنة أخذت بالاندثار مع إيجاد مضادات السموم التي ابتكرها كيماويو ذلك الزمن، كما ركبوا سموماً جديدة، وكانت تزدهر في بقاع ثم تخبو في بقاع أخرى من المعمورة.
لكن اليوم لم يعد المتذوق درع معدة سيده، بل بات خبيراً بمكانة عالية ومهنة صعبة ودقيقة للغاية، إذ يحتاج إلى موهبة تعطيه هذه الصفة ليكون محل ثقة وتحتاج الشركات إلى موافقته على الأطعمة التي تريد طرحها في الأسواق الغذائية والمطاعم، ولا يقتصر الأمر على الطعام والشراب بل يتعداه إلى الأدوية، بخاصة أدوية الأطفال التي يجب أن يكون طعمها مرغوباً.
مهارات الذواقة
استطاع العلم تحديد خلايا التذوق في الفم والأنف والأعصاب التي تنقلها إلى المخ.
ففي اللسان حلمات يمكن رؤيتها وبراعم على طرف الحلمة لا يمكن رؤيتها تسمى براعم التذوق وهي التي تفرق بين الطعم، من الحلو والمر والحامض والمالح وهي مجموعة الأطعم الأربعة الأساسية التي يتفرع منها كثير، ولأهمية التذوق يوجد اتحاد الذواقين العالمي وله فروع في 40 دولة ومجلة خاصة تدعى “تيسترز جورنال”.
من الصفات الأساسية للمتذوق أن تكون لديه حاستا شم قوية وتذوق خارقة يميز من خلالهما مكونات ما يتناوله.
والمتذوق الموهوب تظهر عليه حساسية حسية عالية منذ طفولته، فيفرق بين الروائح والمذاقات ويلاحظ الفرق الطفيف بمهارة عالية ويشكل أولئك 15 في المئة من سكان الكرة الأرضية، ولا يمكن تعليم هذه الحساسية، لكن يمكن تطوير القدرات وكلما زادت المذاقات في الذاكرة زادت قيمة المتذوق كمتخصص وهذا ينطبق على متذوقي القهوة والشاي والنبيذ بشكل رئيس.
وللحفاظ على مهارته وتطويرها مهاراته يجب أن يركز ويبتعد من الضوء الساطع والروائح الغريبة وتحضير مستقبلات التذوق لديه وتجنب الروائح النفاذة والمذاق اللاذع والتدخين وشرب الكحول القوي وعليه عدم استخدام العطور، إذ إن براعم التذوق لدى المتذوقين الخبراء مثل العضلات المصقولة للاعب مصارعة والحبال الصوتية للمطرب، هي أساس عمله.
ومثال على أهمية هذه الموهبة قام ديف روبرتس، المتذوق الرئيس لقهوة “نستله”، عام 2011 بالتأمين على أنفه مقابل مليوني جنيه استرليني أي 2.136.680 دولار أميركي، لأنه من خلال الشم يحدد جودة حبوب البن ومكانها الأصلي.
يعد متذوق النبيذ الفاحص الحسي والمقيم لهذا المشروب ويعتمد على الخمس S وهي الخطوات الأساسية لتذوق النبيذ الذي يحظى بأهمية عالية في التذوق وتقام الرحلات الخاصة بتذوقه في عدد من البلدان.
والخمس s تعني: أنظر See، أدر Swirl، شم Sniff، أرشف Sip، تذوق Savor. فينظر المتذوق إلى مظهر المشروب ولونه، ثم رائحته، ثم طعمه في الفم وعلى اللسان وسقف الحلق، ثم إحساس ما بعد الطعم، فتجتمع الحواس في مهرجان التذوق ليؤكد بعدها الجودة والتعتيق (عمر المشروب) والعيوب التي تعتريه.
ويدون بعدها شهادة حول الرائحة ويحدد المذاق والحموضة والقوام والملمس ويحلل النكهات والمكونات العطرية ويقارن طعم النبيذ ورائحته بالمعايير المخزنة في ذاكرته.
وكذلك يفعل متذوقو المشروبات الروحية الأخرى ففي بولندا على متذوقي الفودكا مهمة ضمان أعلى درجات النقاء والصفاء والنعومة للمشروب فيتم التذوق في كأس ساخنة مقفلة بهدف شم رائحتها والوصول إلى أقصى درجات طعمها، والفودكا التي تنتج في البلاد منذ القرون الوسطى هي أجود من الفودكا الروسية المعروفة كما يذكر موقع “BBC”.
تذوق الشوكولاتة
ربما تبدو فكرة مهنة تذوق الشوكولاتة أسهل الطرق لكسب الرزق، إلا أن لمتذوقي الشوكولاتة المحترفين رأياً آخر، فالمتذوق عادة لا يأكل المنتج النهائي بل يتناوله في مراحل تطويره فقد يكون مراً أو محترقاً، حتى إن بعضهم لا يبتلعها، بخاصة إذا كانت الأنواع كثيرة ومن الأفضل عادة الانتظار أكثر من نصف دقيقة لتجربة نوع جديد حتى لا يتأثر حكمه بالطعم السابق والمتذوق يستطيع بخبرته أن يعرف ما إذا كانت الشوكولاتة مخزنة.
الذواق “الإنفلونسر”
مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي أخذت فكرة التذوق بعداً مختلفاً لا يشبه كل ما ذكر من صفات وتدريبات وحرمان ليصبح الشخص متذوقاً، إذ يكفي أن يكون محباً للطعام والسفر والتجوال ولديه عدد لا بأس به من المتابعين حتى يبدأ رحلته الخاصة، فبعضهم بدأها بغرض تجاري وآخرون للتسلية، لكنها راجت بقوة وأصبحت لها متخصصوها ومواقعها وبرامجها التلفزيونية.
يعمل بلال عبدالحق من لبنان كمخرج ومبتكر محتوى في برامج تلفزيونية ومنصات اجتماعية، يقول لـ”اندبندنت عربية”، “لست متذوقاً خبيراً ولا أجيد الطهي، لكن أنتجت برامج طبخ عدة مع طهاة متميزين من العالم العربي وأصبحت لدي خبرة عن مزج المكونات، لكني كشخص يحب الأكل كثيراً يستطيع أن يميز وينصح بتناول المأكولات اللذيذة. أعطي رأيي بصراحة إذا أعجبني أو لا وفي النهاية التذوق أمر شخصي”.
في رحلة التذوق التي يقوم بها يعتبر بلال أن أغرب المأكولات التي تناولها كانت escargot في شارع بالمغرب ومعدة خروف صغير في تركيا وعصير الكبيس وكنغر في أستراليا. كما أن أكثر المطابخ ثراءً هي الهندي والعربي والفرنسي والإيطالي والصيني.