حرية – (6/10/2022)
“الخلود” فكرة شغلت الإنسان وخاض الكثيرون مغامرات ومعاناة وارتكبوا الفظائع من أجل نيل هذه الصفة المستحيلة، حتى أن أعمالاً أدبية وأساطير وخرافات حفظها التاريخ البشري عن مثل هكذا محاولات، لكن يبدو أن امرأة فقيرة امتلكت هذه الميزة رغم أنها توفيت قبل سبعة عقود من الزمن.
في سنة 1951 بعد أربعة أشهر من ولادة طفلها الخامس، بدأت أعراض المرض تظهر على المرأة الأمريكية من أصول أفريقية هنريتا لاكس، ولاحظت أنها تفقد الكثير من الدم.
هذه المرأة التي عاشت حياة بائسة وتوفيت وهي شابة بعمر 31 عاماً لم تكن تعلم ولا ذويها أنها ستكون سبباً لإنقاذ ملايين البشر من الموت والمرض، كما أن خلاياها التي ما زالت حية وتتكاثر كانت السبب في حماية أجيال من شلل الأطفال وأمراض أخرى.
“الخلايا الخالدة”
وبحسب وسائل إعلام غربية وعربية، فإن “الخلايا الخالدة” التي اكتُشفت سنة 1951، استُخدمت سابقاً في تطوير لقاح شلل الأطفال وبعض الأدوية المضادة للسرطان وأفادت الطب لعشرات السنين، وهي تساعدنا اليوم في فهم الطريقة التي يهاجم بها فيروس كورونا خلايانا وكيف يخترقها.
في مستشفى جونز هوبكنز في بالتيمور، اكتشف طبيب أمراض النساء هاورد جونز أن المرأة هنريتا لاكس مصابة بسرطان عنق الرحم، فأخذ عينات من خلاياها السرطانية وأرسلها للتحليل.
وفي المختبر، لاحظ عالم الأحياء جورج أوتو جاي، أن خلايا هنريتا تتكاثر بسرعة كبيرة ويتضاعف عددها كل 20 – 24 ساعة، ولديها 82 كروموسومًا بدلاً من 46، كما أنها تفتقد الآليات التي تحد من عدد المرات التي يمكن أن تنقسم فيها الخلايا السليمة، لذلك عرفت بأنها خالدة.
هنريتا لم تكن خالدة
وأوضحت وسائل الإعلام أن هذه الخصائص الوراثية ترجع إلى حقيقة أن إنزيم تيلوميراز تطوّر بواسطة فيروس الورم الحليمي البشري وهذا ما جعل الخلايا تتجدد باستمرار. بالنسبة لهنريتا، لم تكن هذه علامة جيدة لأن خلاياها كانت تتكاثر بسرعة بالغة.
ولسوء حظها، فإن الورم كان في مرحلة متقدمة، وفي الرابع من تشرين الأول/ أكتوبر 1951، توفيت المرأة عن عمر يناهز 31 عاما، على الرغم من خضوعها للعلاج الإشعاعي فور اكتشاف مرضها.
لقاح شلل الأطفال
الخلايا المعزولة التي أُخذت من هنريتا لم تمت، وقد أطلق عليها “خلايا هيلا” نسبة للأحرف الأولى من اسم صاحبتها، وأثبتت تلك الخلايا جدوى كبيرة على مرّ السنين في البحوث الطبية وفهم العديد من الأمراض وتطوير اللقاحات.
وقد تم استخدامها لدراسة تأثير الإشعاع والمواد السامة على جسم الإنسان، وكانت حاسمة في تطوير أول لقاح لشلل الأطفال بعد سنة من وفاة هنريتا.
وبفضلها، تم تطوير العديد من الأدوية للسرطان والإيدز، وفازت الأبحاث المتعلقة بها بخمس جوائز نوبل، كما أرسلت وكالة ناسا عينات منها إلى الفضاء لدراسة إمكانية تكاثرها بعيدا عن الجاذبية.
أبحاث في سان رافاييل بميلانو
يقول روبرتو سيتيا، أستاذ البيولوجيا الجزيئية في جامعة فيتا سالوتي في سان رفاييل بميلانو، إن “خلايا هيلا تكاثرت منذ سنة 1951 حتى اليوم مرات عديدة في مختبرات بكل قارات العالم، إلى درجة أنها قادرة على تغطية سطح الأرض مرتين”.
وأضاف أنها شهدت العديد من الطفرات على مر السنين ونتجت عنها سلالات خلايا ذات خصائص مختلفة.
وعلى الرغم من أن جميعها سلالات هيلا، إلا أنها قد تتصرف بشكل مختلف عن بعضها البعض وتفرز نتائج مختلفة بسبب الطفرات الجينية التي مرت بها، لذلك، يجب توخي الحذر عند مقارنة النتائج التي يتم الحصول عليها في المختبرات المختلفة.
الخلايا الخالدة وفيروس كورونا
الدراسات التي أُجريت بمستشفى سان رافاييل بميلانو حول الآليات التي يستطيع بها كوفيد 19 اختراق الخلايا البشرية، أثبتت أنه يتمكن من دخول الخلايا بفضل بروتين سبايك، الذي يشكل التاج المميز على سطح الجسيمات الفيروسية ويستخدمه كوفيد 19 لغزو الخلايا البشرية.
ويتغلغل فيروس كورونا المستجد داخل الخلايا البشرية أثناء قيامها بإفراز الأجسام المضادة والهرمونات والبروتينات الأخرى.
ويرغب الباحثون في الوصول إلى طريقة لمنع عملية انتقال الفيروس داخل الخلايا أو إبطائها، ويتم حاليا استخدام خلايا هيلا في هذه التجارب.
إرث علمي
عدد من الباحثين استخدموا “خلايا خالدة” في دراسة نُشرت نتائجها في مجلة “نيتشر”، واستطاعوا من خلال التجارب اكتشاف دور مستقبلات الإنزيم المحول للأنجيوتنسين 2 في السماح لفيروس كورونا باختراق الخلايا البشرية.
ويوضح ماسيمو بروجيني، الباحث في قسم الأورام في معهد ماريو نيغري “في بحثنا، نفضل عدم استخدام خلايا هيلا من الآن فصاعدا لأنها تلوث الخلايا الأخرى بسرعة”.
وتابع “وعندما نستخدمها، يجب أن نعزلها بشكل جيد للغاية في غرفة منفصلة للحفاظ على سلامة تجاربنا، لقد كانت وما زالت مفيدة للغاية لأن من خصائصها تعرضها للهجوم سريعا من الفيروسات”.
ويوضح أن الجانب المظلم في قصة خلايا هنريتا الخالدة هو انتهاك الخصوصية، ففي سنة 1951، لم يطلب أحد من المرأة أو أقاربها إذنا من أجل سحب خلاياها أو استخدامها، لأنه لم يكن هناك قانون ينص على ذلك.
وقد استخدمتها المختبرات في جميع أنحاء العالم في العديد من التجارب لأكثر من 20 سنة دون علم أي من ورثتها.
وفي سنة 1976، اتصل باحثون من جامعة جونز هوبكنز بأبناء هيلا وطلبوا منهم القيام بعدد من التحاليل لمعرفة المزيد عن الخلايا الخالدة وإمكانية انتقالها بالوراثة، وهكذا علم الأبناء أن خلايا أمهم قد استُخدمت في البحوث الطبية الحيوية عبر أنحاء العالم وحققت أرباحًا كبيرة.
أما اليوم، فيشارك ورثة هنريتا في إدارة هذه الخلايا وهم جزء من لجنة تدرس طلبات الباحثين الذين يريدون استخدامها لأغراض العلمية وليس لتحقيق الأرباح.
كتاب وفيلم عن هنريتا
يعود الفضل في معرفة تفاصيل هذه القصة الإستثنائية إلى كتاب “الحياة الخالدة لهنريتا لاكس”، وهو ثمرة تحقيق صحفي أجرته الأمريكية ريبيكا سكلوت.
وتمكنت الكاتبة من كسب ثقة ابنة هنريتا الصغرى ديبورا التي كانت تبلغ من العمر بضعة أشهر فقط عندما توفيت والدتها بسبب السرطان، ودوّنت سيرة هذه المرأة التي تُستخدم خلاياها إلى اليوم في البحوث الطبية.
وتقول سكلوت في كتابها إنه قبل وقت قصير من وفاة هنريتا لاكس، اقترب مدير مختبر زراعة الخلايا في مستشفى جونز هوبكنز من سريرها وهمس قائلا “خلاياك ستجعلك خالدة”. في تلك اللحظة ابتسمت المرأة وأخبرته أنها سعيدة لأن كل هذا الألم سيكون مفيدًا.
وفي سنة 2017، أخرج جورج ولف فيلما استند في أحداثه إلى كتاب سكلوت وحمل العنوان ذاته، ولعبت فيه دور البطولة أوبرا وينفري وروز بيرن.