حرية – (30/10/2022)
وقعت إريكا في غرام كونور، وكان الأخير قد تابع حسابها على “إنستغرام” وشرع الاثنان في التحادث، وكانت هناك نقرات على علامة “يعجبني” (لايك Like) مرفقة بتعليقات، ثم راحا يتبادلان الردود على القصص التي ينشرها كل منهما، ثم انتقلا بعد ذلك إلى المحادثات الغزلية وتبادل الأرقام الهاتفية، فتبادلا الرسائل كل صباح والاتصالات الهاتفية في المساء، إذ راح كونور يشاركها بأجزاء شديدة الخصوصية من حياته، وقد قابلته إريكا بالشيء نفسه وبعدها بدأت تنتابها الشكوك.
لائحة الأشخاص الذين يتابعهم كونور على “إنستغرام” لا تتجاوز الـ 50 اسماً لكن لديه أكثر من 500 متابع، وكثيرون من الأخيرين لا ينشرون سوى صور من الانترنت ومواد عشوائية، وقد قامت إريكا على الأثر بسؤاله إن كان صادقاً معها، فأصر على الإجابة بأنه صادق. وصدقته إريكا إلا أن شكوكها ازدادت حين كرر مرات عدة إلغاء خطط للقاء المباشر بينهما، وتذكر ما حصل في إحدى المرات فتقول “اتصل بي وقال إنه على الطريق لكنه راح يؤجل الموعد ويؤجله ويؤجله”، وتتابع “قال لي من الواضح أنني سألتقي بك فأنا فعلاً أود أن أراك، وقد حددنا موعداً جديداً إلا أنه تهرب مرة أخرى. لقد كان الأمر أشبه بلعبة القط والفأر”.
ثم إن كونور رفض إجراء محادثة فيديو ولم يقبل سوى بإظهار وجهه “لمدة ثانيتين تقريباً” خلال مكالمة عبر تطبيق “مايكروسوفت تيمز” Microsoft Teams، وكلما كانت إريكا تسأل عن إثبات لهويته راح يغدو بارداً ويتوقف عن الرد، لكنها الآن غدت متعلقة فيه عاطفياً أيضاً على رغم مراوغاته، فذكرت معترفة “توقفت عن مطالبته لأنني لم أشأ خسارة علاقتنا، وعشت في حال إنكار لأنني بصراحة لم أشأ التصديق بأنه غير حقيقي”.
ثم اكتشفت إريكا الحقيقة، إذ بعد التدقيق بواسطة خاصية “ريفيرس إيميدج” Reverse Image على “غوغل” في أكثر من 30 صورة من صور كونور اكتشفت أن إحداها لم تلتقط بواسطة الشخص الذي كانت تتحدث معه، بل من قبل صاحب مشاريع [رجل أعمال] ناجح في الولايات المتحدة.
“أحسست على الفور بالقرف”، قالت. “أحسست بأنني منتهكة، وللمرة الأولى في حياتي لم أشعر بقوة نفسية كافية للتعامل مع هذا الوضع المتكشف أمامي”، وغرقت إريكا في حزن شديد ولم تعد قادرة بما يكفي من الناحية النفسية على مواجهة كونور، فقامت بحجبه عن كل منصة تواصل اجتماعي تحضر فيها، وتوقفت عن محادثته منذ ذلك الحين، وحين صارحت عائلتها وأصدقاءها بما حدث لم تتلق منهم سوى القليل من الدعم.
“راحوا يقولون إن الإشارات كانت واضحة وأنني شاركته بأشياء أكثر من اللزوم، وقالوا إنني كنت ساذجة وراحت حالتي تزداد سوءاً، لكن الناس دائماً يلتقون ببعضهم بعضاً عبر الإنترنت ويتحدثون، فكيف أمكنني أن أعرف إمكان حدوث [الخداع] ذلك؟ ولم أكف عن القول لنفسي كيف لي أن أكون بهذا الغباء؟”
لقد وقعت إريكا ضحية انتحال شخصية إلكترونياً أو مصيدة catfished، وهو تعبير جاء به فيلم سينمائي حمل هذا العنوان “كات فيش” catfish سنة 2010، إذ يكتشف مصور فوتوغرافي يدعى نيف شولمان أن عشيقته على شبكة الإنترنت، ميغان، هي في الحقيقة شخص مزيف اخترعته فنانة تدعى آنجيلا، والتعبير أو المصطلح المذكور أورده قاموس أوكسفورد رسمياً سنة 2014، وهو يصف شخصاً يدعي على وسائط التواصل الاجتماعي هوية أخرى غير هويته الحقيقية بغية اجتذاب الناس [الإيقاع بهم في شراكه]. ولأن “انتحال الشخصية إلكترونياً” لا يعتبر جريمة جنائية فإن الدراسات الاستطلاعية حول تفشيه وانتشاره قليلة، وفي بعض الحالات يقوم المخادع بالحصول على أموال بطريقة غير مشروعة من ضحيته، وتلك عملية جرمية أيضاً تعرف بـ “الاحتيال العاطفي” romance scam.
وبحسب مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (أف بي آي) وقع 24 ألف شخص سنة 2021 ضحايا للاحتيال العاطفي في الولايات المتحدة، أما في بريطانيا فقد سجلت 8863 حالة من الخداع العاطفي وأودعت بلاغات عنها في “مكتب الاستخبارات الوطني لمكافحة جرائم الاحتيال” بين شهري نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 وأكتوبر (تشرين الأول) 2021.
أما من الناحية التحليلية المتعلقة بواقعة الخداع العاطفي catfish romance، فثمة ميل عند ضحايا هذا النوع من الخداع إلى لوم أنفسهم لعدم انتباههم إلى الإشارات التي تدل على التضليل، وهذا الشعور يزيده ويضخمه رد فعل الجمهور العام (المجتمع المحيط) والذي يلوم الضحايا لوقوعهم فريسة الخداع. ويقول كريستوفر هاند، المحاضر البارز في علم النفس بجامعة غلاسغو إنه “لا يحصل ذلك لأننا غير مهتمين بأمر الضحايا أو غير متعاطفين معهم، بل لأن أولئك الضحايا يشبهوننا ويمثلوننا بطريقة أو بأخرى، ونحن لا نريد لهذه الأمور أن تحصل معنا”.
ويضيف، “نحن عموماً نتربى كي نعتقد أن الأشياء الجيدة تحصل مع الناس الجيدين، لذا حين نرى شيئاً سيئاً يحصل مع شخص جيد عموماً، نحاول تعيين خطأ ارتكبته الضحية”.
(من الخطأ أن يعتقد الناس بأن هذه الأمور لا يمكن أن تحصل معهم لأنها بالتأكيد قد تحصل مع أي شخص)
ويرى هاند حاجة إلى أن يكون هناك مزيد من الوعي والمعرفة في أوساط الناس، فيمكنهم إذ ذاك أن يقدموا لضحايا هكذا أفعال دعماً غير مشروط ومن دون أحكام مسبقة.
ويتابع هاند قائلاً “لقاء الأشخاص عبر الإنترنت اليوم بات جزءاً من حياتنا والأمر سيمثل الواقع لمعظم الناس، والمخادعون أذكياء ويعرفون ماذا يفعلون، خصوصاً عندما يستخدمون أشخاصاً حقيقيين في هويتهم (المزعومة)، ومن الخطأ أن يعتقد الناس بأن هذه الأمور لا يمكن أن تحصل معهم، لأنها بالتأكيد قد تحصل مع أي شخص”.
على أن الأبحاث حول الأسباب التي تجعل الناس يمارسون “انتحال الشخصية إلكترونياً” وكيفية اختيارهم للضحايا تبقى محدودة، وإحدى الدراسات في هذا الإطار قامت بها “جامعة كوينزلاند” في أستراليا وقد استطلعت 27 شخصاً من بلدان مختلفة حول العالم اعترفوا بممارستهم الاحتيال، وتوصلت الدراسة إلى أن 41 في المئة من هؤلاء راحوا يمارسون الخداع لأنهم كانوا يشعرون بالوحدة وأرادوا التحدث مع شخص ما، ونحو ثلث هؤلاء الأشخاص ردوا اختباءهم خلف حساب مزيف (على الإنترنت) إلى عدم رضاهم عن مظهرهم، فيما قال ثلثان منهم إنهم استخدموا شخصياتهم الزائفة كطريقة للهرب من حيواتهم الحقيقية، فيما قال شخص واحد من هؤلاء إنه ادعى هوية جندرية على الإنترنت عكس هويته الجندرية الحقيقية كي يكتشف جنسانيته.
وفي إطار منفصل توصلت دراسة أجريت سنة 2020 وشملت 1000 راشد في الولايات المتحدة، نشرت في مجلة “سيكشوال أند ريلايشنشيب ثيرابي” Sexual and Relationship Therapy، إلى أن الأشخاص من ذوي “القلق المتناقض”anxious attachment style يميلون أكثر من غيرهم لممارسة الخداع، وذلك في محاولة لـ “تحقيق تحكم أكبر في تقديم [أو تمثيل] أنفسهم، ولكي يكونوا مرغوبين أكثر ويحدوا تماماً من احتمال إحباطهم في العلاقات”.
وفي هذا الإطار، وفيما أدت أفعال كونور إلى تداعيات حقيقية وملموسة على حياة إريكا، إلا أنه لم يواجه أي عواقب تذكر، بل يمكنه حتى المضي بممارساته (الخداعية) ويوقع بضحية جديدة لو أراد، وهذا أمر سببه بالدرجة الأولى خلو القانون البريطاني راهناً من أي نص يتعلق (بحماية) معظم ضحايا “انتحال الشخصية إلكترونياً”.
غير أن حكماً صدر خلال الآونة الأخيرة يمكنه مساعدتنا في فهم كيفية تعامل القانون مع مسألة الخداع والتضليل في العلاقات العاطفية، ففي سنة 2018 خسرت ناشطة بيئية استئنافاً أمام المحكمة العليا بعد أن رفض “مكتب الادعاء الملكي” (دائرة النيابة العامة في بريطانيا) ((CPS محاكمة شرطي كان يعمل بشكل متخف قالت إنها أقامت علاقة معه حين ادعى أنه متظاهر وناشط مثلها، وذكرت تلك المرأة التي نسميها هنا “مونيكا” صوناً لخصوصيتها، بأنها لم تكن لترضى بإقامة علاقة مع الشرطي أندرو جايمس بويلنغ لو علمت هويته الحقيقية، وقد احترمت المحكمة العليا قرار مكتب الادعاء الملكي بعدم محاكمة بويلنغ بتهم الاغتصاب والاعتداء الشائن وتدبير الممارسة الجنسية وسوء التصرف، لأنها اعتبرت أن التضليل [الممارس هنا] “لم يرق لدرجة إبطال (إرادة) الموافقة”.
من جهتها ساندرا بول، الشريكة في الدعاوى الجنائية في كينغسلي نابلاي، قالت إن طرح قضايا “انتحال الشخصية إلكترونياً” أمام المحاكم سيتطلب من القانون أن يكون قادراً على تحديد أي من عمليات الخداع تتسم بأهمية كافية تقتضي تقديمها إلى المحاكمة، إذ “من الصعب على القانون الجنائي التعامل مع حال خيبة نصاب بها حين نكتشف أن من تواصلنا معه ليس الشخص الذي تصورناه” بحسب بول.
وتتابع، “هل نسأل القانون هنا التدخل في تفاصيل علاقاتنا وتنظيمها لنا؟ وإن كانت هذه هي الحالة، كيف نحدد الفعل الجنائي ونميز بينه وبين ما هو مجرد سوء تصرف من قبل الأشخاص؟”
وخلال الأسابيع التي تلت اكتشاف إريكا أن كونور كان يكذب بخصوص هويته، تعرضت حياتها بشقيها الشخصي والمهني لصعوبات كثيرة، فهي إذ تتابع السنة الأخيرة من شهادة الماجستير الجامعية راحت تجهد لإكمال أطروحتها وإنجازها في الوقت المطلوب وفي بعض الأيام منعها إحساس القلق العميق الذي انتابها من الذهاب إلى العمل، وفي هذا الإطار قال الدكتور هيو جيل، عالم النفس القانوني والعضو في “الجمعية البريطانية لعلم النفس”، إن حدة التوتر والضغوط عند الأشخاص ترتبط بمدى تمكن المخادع من معرفة معلومات تتعلق بالضحية.
ويقول جيل “إن كان المخادع مستعداً للكذب عليك فإنه يكون مستعداً حينها، على الأرجح، إلى كسر الوعود الضمنية أو الصريحة التي تعهد فيها بالحفاظ على أسرارك”.
ويتابع، “هذه المشاعر قد تدوم لوقت طويل لكنها ستمضي في النهاية في نفوس معظم الناس، إذ لحسن الحظ يبقى القول المأثور القديم الذي يعتبر الزمن يداوي كل الجراح، صحيحاً في العادة، ومع مرور الوقت تميل حدة المشاعر إلى الهدوء فتقبع في الذاكرة كحوادث أليمة من الماضي”.
واليوم بعد شهرين من اكتشافها الحقيقة المتعلقة بكونور، لا تزال إريكا تمر بنوبات حزن أسفاً على الصلة الحميمة التي ظنت أنها وجدتها في العلاقة معه، وهي في بعض الأيام تشعر بتحسن، كما أنها لحسن الحظ لم تعد تبحث عن أجوبة وما عادت تتألم بسبب شكوكها.
وفي أيام أخرى تشعر بالغضب من نفسها لإغفالها علامات تحذير كانت واضحة، أما بالنسبة إلى حياتها العاطفية المستقبلية فتقول إنها ترفض لقاء أي شخص عبر الإنترنت، “إن أردت لقاء أحد ما فسألقاه واقعياً وجهاً لوجه، ولن أكرر ما حصل”.
الأسماء في المقالة بدلت احتراماً للخصوصية .