حرية – (5/11/2022)
عقيل عباس
في أيامه الأولى بمنصب رئيس الوزراء، أصدر محمد شياع السوداني قرارات كثيرة متتابعة بعضها ذات طابع إداري تتعلق بالتعيينات والأشخاص الذين يديرون المؤسسات من عسكريين ومدنيين، وأخرى طابعها إجرائي روتيني يقترب من الاحتفائية والتذكير لتأكيد أهمية دور المؤسسات في تأدية مهماتها وتنفيذ القرارات كما في تشكيل اللجان المختصة للتعاطي مع مشاكل الخدمات والاستعداد لتهيئة الميزانية العامة وسواها.
والقرارات الثالثة ذات طابع سياسي-اقتصادي تشير إلى الوجهة المستقبلية التي سيتخذها بخصوص بعض الملفات الداخلية المهمة كحل مشكلة البطالة.
عبر تفحص هذه القرارات وطريقة إصدارها، يظهر أمران جديران بالانتباه لهما. الأول هو ثمة تركيز على إبراز رئيس الوزراء الجديد بوصفه حازما وواضحاً وصانعاً للقرار من دون تردد، وعارفاً تماما بما يقوم به بمعنى امتلاكه لرؤية بخصوص كيفية إدارة الدولة وخدمة مصالح البلد.
مثل هذا التصوير لرئيس وزراء جديد أمر مفهوم ومنطقي ويقوم به الرؤساء عادةً عند تدشين عهودهم في الحكم سعياً لكسب الجمهور وبث حس بالثقة العامة بأن البلد في أيد أمينة وأن القادم أفضل.
هذا جزء من شهر العسل الذي تمر به كل الحكومات الجديدة تقريباً، في أنحاء العالم المختلفة، حيث الانتباه الإعلامي والشعبي والسياسي عال لمعرفة ماهية القادم الجديد لسدة الحكم وكيف سيدير البلد.
يصنع كل هذا قدراً من التعاطف المشوب بالانتظار المتأمل بالزعيم الجديد. هذه هي أفضل الفترات، وأسهلها للرؤساء. لكن سيتبدد معظم هذا الاهتمام الإيجابي أو كله، ببروز أول أزمة تواجهها الحكومة حين تخضع للاختبار الحقيقي وينتهي امتياز انها “جديدة”.
الأمر الثاني، ثمة سعي يبدو منسقاً لتأكيد أن البلد يمر بانتقال مهم بين عهدين مختلفين، عهد سيء ماضٍ وآخر قادم واعد.
تستثمر في صناعة هذه الصورة المزيفة أطراف داخل الإطار التنسيقي، محفزةً بدوافع أيديولوجية ومصلحية وانتقامية، وأخرى انتهازية، بينها طبقة من المتملقين والطامحين المعتادين الذين يعتاشون على لحظات الانتقال هذه سعياً وراء المناصب والتكسب السياسي والاقتصادي.
لسوء الحظ، في اقتصاد ريعي كالاقتصاد العراقي حيث تملك الدولة معظم الموارد ومصادر النفوذ، تزدهر هذه الطبقة وتنشط في هذه الأزمنة العراقية الصعبة لتساهم في تضليل الرأي العام عبر الترويج للقضايا الخطأ، وادعاء المآثر المزيفة لصناعة أبطال وضحايا وهميين، وبالتالي المطالبة بتدخلات “إنقاذية” و”عادلة” من الحكومة الجديدة لإنصاف الضحايا ومكافأة الابطال!!!
يرتبط هذا السعي المنسق أيضاً بمحاولة شيطنة عهد حكومة الكاظمي وإظهاره على أنه الأسوأ ومنح حكومة السوداني نصراً مجانياً لمجرد كونها استبدلت حكومة الكاظمي!!
قرارات السوداني بإلغاء التعيينات الصادرة من مكتب الكاظمي في أثناء فترة تصريف الأعمال فضلاً عن إزالة مسؤولين عسكريين ومدنيين عينتهم حكومة الكاظمي في فترة صلاحياتها الكاملة ساهمت في تشكيل انطباع أن السوداني منخرط أيضاً في جهد الشيطنة هذا، أو ساكت عنه على الأقل. يضيف لهذا الانطباع ما يبدو لحد الآن تعمداً من السوداني بعدم إطراء أو شكر الكاظمي أو حكومته، حتى في سياق برتوكولي عام.
قد يستفيد الإطار التنسيقي سياسياً وشعبياً من شيطنة حكومة الكاظمي واختصار كوارث عراق ما بعد 2003، وأغلبيتها الساحقة صنعتها سياساتُ أحزاب الإطار وساسته وزعماؤه، تهرباً من المسؤولية، وسعياً لفتح “صفحة جديدة” مع المجتمع الغاضب، لكن ستكون هذه الاستفادة انتهازية وقصيرة الأمد ومضرة بالإطار التنسيقي في آخر المطاف.
فالتهديدات والدعوات المتصاعدة من بعض أجزاء ماكينة الإطار السياسية والإعلامية، وحشد المتملقين بمحاكمة كبار أعضاء حكومة الكاظمي، بضمنهم الكاظمي نفسه، على خلفية اتهامات بقضايا فساد، بينها ما سمي بـ”سرقة القرن” المتعلقة بسرقة أموال ضرائب تبلغ نحو ملياري ونصف المليار دولار، لا يشي برغبة حقيقية في مكافحة الفساد وتطبيق العدالة والبدء بنهج جديد على أساس الشفافية والمسائلة.
تبدو هذه التهديدات والدعوات معنية بتحقيق نصر شعبي وسياسي مزيف عن طريق استهداف الأضعف، الذي لا يملك ميليشيا ولا حركة سياسية متغلغلة في الدولة تحميه ولم يسع لتشكيلهما عند وجوده في سدة الحكم، وتقديمه ككبش فداء، فيما يُسكت عن الفساد الأكبر والمُوثَق والأعمق الذي اقترفته على مدى سنوات طويلة الأحزاب النافذة في السلطة وميليشياتها الحليفة، والأبرز بينها المنضوية في الإطار التنسيقي.
واقع الحال المؤلم هو أن وعود السوداني بمكافحة جدية للفساد بما تعنيه من وضع الفاسدين الكبار وراء القضبان ووقف الهدر والسرقة العالية المستوى، وليس سرقات وهدر صغار الموظفين، لن يتحقق منها شيء ملموس لأسباب واضحة ومعروفة فالفساد في العراق بنيوي ورفيع المستوى ويقوم على تخادم الأقوياء وتواطئهم وتمتعهم بالمال العام وخدمة مصالح أحزابهم على حساب مصالح المجتمع والناس العاديين.
كثير من هؤلاء الأقوياء، الذين هم عملياً فوق القانون لسوء الحظ، كانوا السبب وراء وضع السوداني في منصبه الحالي، كما كانوا، مضطرين لا مختارين، وراء وضع الكاظمي في المنصب نفسه في 2020! لا يمكن للسوداني الذهاب بعيداً في مكافحة فساد الكبار، وهو الفساد الأكثر ضرراً والأعمق تأثيراً سلبياً، إلا إذا اختار الرجل الصدام مع بعض هؤلاء الكبار! هذه مخاطرة كبرى تقترب من الانتحار السياسي المؤكد في الفترة المبكرة في عهد حكومة جديدة.
يحتاج السوداني أن يركز على ملفين محدودين اثنين أو ثلاثة على أمل تقديم إنجاز ملموس فيها. يمكن أن يقود تركيزه على الكهرباء والصحة والسكن مثلاً، التي ابدى اهتماماً فيها، إلى تحقيق شيء ما في هذه الملفات الصعبة، لكنها أقل صعوبةً وخطراً سياسياً عليه من ملفات أخرى كمكافحة الفساد وضبط السلاح الميليشياوي وحصره بيد الدولة.
وحتى في اشتغاله على هذه الملفات الأقل صعوبة سيحتاج السوداني دعم أحزاب الإطار لتحقيق كبح ولو جزئي للفساد في هذه الملفات، لكي يكون بمقدوره تقديم منجز ما يشعره الناس في حياتهم اليومية.
في برنامجه الحكومي الذي تلاه أمام البرلمان في جلسة تمرير حكومته الأسبوع الماضي، وعد السوداني أنه في خلال ستة أشهر سينجز شيئاً ملموساً في قطاعي الكهرباء والصحة، بينها تحسين نقل الكهرباء عبر منظومة مهترئة وتقليل الهدر الكبير في هذا النقل، وفتح مستشفيات جديدة تأخر افتتاحها كثيراً لأسباب تتعلق بالفساد وضعف الكفاءة، فضلاً عن تقديم نموذج حديث في إدارتها.
يمكن للناس أن يشعروا بفارق إيجابي في حياتهم إذا أفلح السوداني في تحقيق وعوده هذه. حينها يمكن أن يكون لشعار “حكومة الخدمة الوطنية” مصداقاً واقعياً وحقيقياً، بعيداً عن السخرية التي يواجه به الآن.