حرية – (17/11/2022)
بدأت الجهات الثقافية السعودية تقطف ثمار حركتها لإحياء إرث الجزيرة العربية القديم ونفض الغبار عن ممالكها الغابرة وذخائرها الغنية في أنحاء متفرقة من البلاد التي درج على ثراها آباء العرب الأولون، ونقشوا على صخور جبالها حروفهم الأبجدية قبل عصور سحيقة لا تزال في طور الاستكشاف.
ودشنت الهيئة الملكية لمحافظة العلا فعاليات مهرجان “الممالك القديمة” ليتعرف الزوار على عراقة التاريخ والانغماس بين صفحاته، إذ روت لهم قصص الممالك التي حكمت العلا وتيماء وخيبر.
ويأتي المهرجان بغية تقديم تجارب الماضي في الحاضر من خلال تجارب مستوحاة من معالم 7 آلاف عام من الحضارات المتتالية عبر مشاهد تمثيلية حية، تروي مكانة العلا كحلقة وصل بين الحضارات القديمة كمفترق طرق مزدحم بالثقافة والتجارة، فعبر طريق البخور التاريخي الشهير من محافظة تيماء روى عرض مسرحي حي بين طرقاتها قصصها عن آخر ملوك بابل الذي أدت عبادته للقمر وانشغاله عن مملكته إلى خسارة السيطرة على حكمه.
من تاريخ تيماء إلى مملكة أخرى من الممالك القديمة عاشت في خيبر على اعتبارها من أهم الأماكن التاريخية
وهناك عاش زوار تيماء هذه الحقبة منذ دخولهم واحتها التاريخية، ومن حول “بئر هداج” وسط الواحة تقودك الحرب التمثيلية المفتلعة إلى قصة ذاك الزمن يوم كان البئر يخدم قديماً أعداداً كبيرة من السكان والمسافرين، ليكتشف الزوار سوق الناجم وكيف كان الزخم التجاري في تيماء حتى تنتهي الجولة بزيارة قصر الرمان الذي يعود بناؤه لعام 1919 ويعد مثالاً للهندسة المعمارية السائدة في ذلك الوقت.
آثار عباد القمر
ومن مدخل “معبد صلم القديم” استقبلت تيماء زوارها بشخصين يرتديان زي ما قبل 1000 سنة، ليقودانك إلى مبنى حجري يشرح كيف كانت تقام الطقوس، لتقف هيئة محافظة العلا على أهم اكتشافين لها كانا تحت الأنقاض منذ آلاف السنين، وهي عبارة عن لوح منحوت من الحجر يعرف باسم “مسلة”، والثاني مكعب منحوت من الحجر الرملي يعتقد بعض الباحثين أنه استخدمت كمذبح، إذ يوجد على المسلة نص بالكتابة الأرامية وهي لغة قديمة، إذ ظلت 10 أسطر من النص بحال جيدة وكانت عبارة عن نصوص دينية مكرسة لعبادة “إله القمر” المعروف باسم “صلم”، كما يشتمل المكعب على رموز دينية تحتوي على نحت لثور يبدو قرص الشمس بين قرنيه، فيما تشير الرموز الأخرى إلى الخصوبة والازدهار.
ومن تاريخ تيماء إلى مملكة أخرى من الممالك القديمة عاشت في خيبر على اعتبارها من أهم الأماكن التاريخية بسبب سوقها التجاري الشهير وطبيعتها الجغرافية الغريبة، إذ تتمثل هياكلها الحجرية والتي تعود لعصور ما قبل التاريخ إلى أشكال مختلفة منها المستطيلات، لتستغل هيئة محافظة العلا التكوين الصخري بها وتقوم برحلات على متن المناطيد الهوائية والطائرات المروحية للقيام بجولة جوية عبر “مخيم خيبر” القريب من حرة خيبر البركانية، وكذلك “مسارات المغامرة” عبر الحمم البركانية التي تتشكل معاً لتقديم تجربة ثقافية تاريخية.
هيكل وجه امرأة في العلا
وتنطلق الرحلة إلى مملكة الأقوام التي عاشت في العلا ومن منطقة الحجر أحد أبرز المواقع التي تعبر عن الحضارة النبطية، وأحد المواقع الموجودة اليوم على الخريطة العالمية للمعالم التراثية وفق تصنيف “يونيسكو”، إذ سيتم إطلاع الزوار على هيكل وجه امرأة تعود للعصر النبطي، تم اكتشافه في مدينة “الحِجر” وتعرف باسم “هنات”.
كما تقدم هيئة محافظة العلا مع بدء موسم التنقيب عن الآثار للمستكشفين فرصة الانضمام إلى برنامج “عالم الآثار المتدرب”، وسيحظى الزوار بفرصة التواصل مع علماء الآثار في مواقع التنقيب، وكذلك يمكن لزوار العلا الاستمتاع برحلة في “جبل عكمة” الذي يعد أكبر مكتبة للنقوش في العالم.
وتأتي رحلة استكشاف أسرار التاريخ في الشواهد الأثرية بين المحافظات الثلاث ضمن “موسم العلا” الذي دشنته المحافظة الأسبوع الماضي ويستمر حتى منتصف شهر مارس (آذار) 2023، وطوال هذه الفترة تقدم الهيئة فعالياتها وعدداً من النشاطات السياحية المصممة لتروي حكاية الحضارات وتفتح الأبواب إلى كنوز الماضي العريق، لتفتح العلا الأبواب على حياة الماضي بأسلوب عصري مبتكر ويعيش أهل السعودية وضيوفها لحظات استثنائية تشبع الفضول وتثري العقول.
صلة الوصل مع الشام والعراق
وتقع منطقة العلا الكبرى على طريق التجارة القديم “طريق البخور” الذي يربط جنوب شبه الجزيرة العربية بشمالها مع الحضارات التاريخية المجاورة في كل من مصر والشام وبلاد الرافدين، وكانت مدنها وواحاتها بمثابة محطات عالمية للتبادل التجاري لمختلف السلع، وتمتاز العلا بجمالها ورسمها التاريخي بكل شموخ للمعابد التي تنتشر في كل مكان، وماضي المعابد بأحجام مختلفة على جبالها تلال تمثل أطلالاً متراكمة من المباني الحجرية.
من مدخل “معبد صلم القديم” استقبلت تيماء زوارها بشخصين يرتديان زي ما قبل 1000 سنة، ليقودانك إلى مبنى حجري يشرح كيف كانت تقام الطقوس
وعند كل جبل وتل ومقبرة قصة رصدها ماضي العلا بين حبّ وحرب وحزن وفرح، إذ بدأت فرق بحث عدة أهمها الفريق السعودي – الفرنسي المشترك منذ مطلع 2020 في التنقيب عن المواقع المتفرقة، للبحث عن قصص ممالك العلا المنسية في السعودية، كما علق أحد أفراد الفريق البحثي.
وقال الباحث لدى المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي جيروم رومر إن أعمال الحفر اقتصرت في ما سبق على منطقة المحمية الرئيسة.
وأضاف لوكالة الصحافة الفرنسية، “نود تكوين فكرة شاملة عن التسلسل التاريخي للموقع وخريطته وثقافته المادية واقتصاده”، وتابع “هو مشروع شامل نحاول فيه في الأساس الإجابة عن كل هذه الأسئلة”.
وتشتهر العلا التي أصبحت منذ فتحها للعامة عام 2019 كوجهة سياحية رئيسة، بالمقابر الملكية في الحجر أو ما تعرف بـ “مدائن صالح” التي حفرها الأنباط في الصخور منذ 2000 عام، وهم ذاتهم من بنوا مدينة البتراء في الأردن قبل ظهور الإسلام.
واكتسبت العلا مكانة بارزة في مسعى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى إحداث تغيير كبير في شكل الاقتصاد والثقافة والمجتمع السعوديين، وتعول السعودية على السياحة في إطار محاولاتها الانفتاح على العالم وتنويع مواردها الاقتصادية بدلاً من الاعتماد على النفط.