حرية – (23/11/2022)
بديع يونس
“لا نتحدث بالسياسة”. هذا ما قاله لي المتحدّث الرسمي باسم القوات البحرية الأميركية والأسطول الخامس القائد تيم هوكينز. أما نحن كصحافيين فنبحث عن موقف سياسي غير مسبوق أو موقف سياسي واضح نبني عليه.
لكنّ السؤال الذي خرجت به من هذه اللقاءات يدحض ما كنا نبحث عنه في المقابلات: ألم نشبع من بيانات الاستنكار والإدانات؟ ما الذي أتت به هذه المواقف على أرض الواقع المأزوم؟ تفسيرات تقنية وعملانية وبيانات وأرقام ومهمات تترجم المساعي الحقيقية أفضل من ألف “وعد” من دبلوماسي أو “موقف رنّان” يشبع المسامع ولا يغيّر قيد أنملة في سير الأحداث.
في ظهيرة 12 تشرين الثاني/نوفمبر، انطلقتُ باتجاه المنامة في لقاء مرتّب سلفًا مع القيادة الأميركية الوسطى وتحديدًأ الأسطول الخامس. حتى اللحظة الأخيرة لم يكن محسومًا مع من سيكون هذا اللقاء، وإن كان على مستوى ضابط أو متحدث رسمي أو قائد الأسطول نفسه.
راودني فضول مزدوج للتعرف إلى هؤلاء العسكريين عن كثب ولقائهم “وجهًا لوجه”. فغالبًا ما تكون هذه القوات في الوسط، تواجه التحديات والتهديدات وتدفع ثمنًا للسياسات العامة والدبلوماسية الظرفية فيما هي “غير راضية” عنها في أغلب الأحيان.
في الآونة الأخيرة برز اسم “الأسطول الخامس” أكثر من أي وقت مضى. مردّ ذلك للتهديدات البحرية المتكررة من قرصنة واختطاف سفن تجارية وتهريب أسلحة ومخدرات وتهديدات للأمن البحري والملاحة الدولية في مياه الخليج العربي والبحر الأحمر. كان لا بدّ من الاقتراب منهم للوقوف على حجم ما يواجهونه لإتمام مهامهم على وقع سياسة “الدبلوماسيين” في واشنطن لمواجهة إيران المتغيرة وفق مزاج المحادثات النووية.
عشية المقابلة، توجّهت إلى مطعم قريب في لقاء مرتّب مسبقًا مع المتحدث الرسمي باسم القوات البحرية القائد تيم هوكينز لمناقشة جوانب المقابلة المرتقبة (والتي تم بثها على قناتيْ “الحدث” و”العربية”). كان اللقاء وديًا خلال العشاء، ومررنا على زوايا الحوار والترتيبات.
سؤالان رفض “تيم” ضمهما للمقابلة. فحواهما مرتبط بالحرس الثوري والتعاطي الأميركي مع هذه المنظمة المصنّفة إرهابية في واشنطن. كنت أتساءل دومًا وما زلت حول “الازدواجية الأميركية” بالتعاطي مع التنظيمات الإرهابية. فعلى سبيل المثال، لو مرّ عنصر من القاعدة أو داعش قرب القوات الأميركية فحُكمًا ردّ الفعل سيكون هجوميًا من قبل الجنود. هكذا يقول المنطق. أما إذا مرّ زورق للحرس الثوري بـ”دون مضايقة” القوات الأميركية في الخليج العربي، فلا رد فعلٍ هجوميّ من قبل القوات بل دفاعيًا إن تعرضوا لمضايقات. مع العلم أنّ الحرس الثوري ـ كما داعش والقاعدة ـ مصنّف في أميركا “إرهابيًا”.
كان جواب القائد هوكينز أنّنا لن نتطرّق لذلك “لأنّنا لا نتحدث بالسياسة”. وهنا يُستنتج أنّ التصنيفات تلك والتعامل هذا مرتبط بالسياسة. شعرت أنّ المقابلة تتجه نحو ليونة محدّدة بخصوص “التهديدات الإيرانية”. فهذا الجواب أشعرني أننا نسير صوب مقابلة تتحدث بالعموميات ولا تصوّب على صلب التهديد الإيراني للمنطقة. لم أقم بردة فعل، واحترمت القرار. فبناء الثقة أساسي أثناء التعامل مع المؤسسات الرسمية الغربية وفي المقابلات عمومًأ. فحواها ليس محارجة الضيف بقدر استنباط معلومات منه إن توفرت. انتهت الجلسة المسائية، عُدت إلى الفندق. كان الظلام حالكًا وضوء يسطع في الشارع المقابل. سألت القائد هوكينز، فأجابني إنها القاعدة الأميركية التي سنجري المقابلة داخلها. تبيّن أن الفندق لا يبعد أكثر من 50 مترًا عن القاعدة.
في صباح اليوم التالي، سِرت باتجاه القاعدة في الموعد المحدد. بدت كقلعة حصينة، لا يظهر ماذا يوجد خلف الأسوار التي تلفّها. بعد المرور بنقطة التفتيش الأولى والثانية، وجدت نفسي أسير برفقة القائد تيم في مجمّع كبير من عدد من الأبنية الداخلية ما يجعلها مدينة صغيرة داخل العاصمة البحرينية. التحرك ممنوع إلا برفقة جندي أو اثنين. من نقطة تفتيش إلى أخرى، ومن مبنى إلى آخر، وصلنا إلى المقرّ المحصّن جيدًا وذات الحماية العالية High Security، أكثر من أي آخر.
سرنا في الردهة بعد جولة تفتيش جديدة ووصلنا لما يسمّى بغرفة الحرب أو الـ WAR ROOM. هنا أجرينا المقابلة. كانت الساعة تشير إلى الـ11:30 صباحًا. جهزت مع الفريق مكان التصوير والكاميرات والإضاءة ليتم إبلاغي أنّ قائد الأسطول الخامس الأدميرال براد كوبر جاهز قبل الموعد المحدد، وأنه بانتظار إشارتنا التقنية للقدوم والبدء بالحوار. بعد دقائق، دخل الأدميرال كوبر ببزته الرسمية والأوسمة تزيّن صدره. بابتسامة عريضة رحب بالموجودين من فريق التصوير، واستدعاني للسير جانبًا والدردشة. بدا لي كأنه “يصادقني” قبيل اللقاء.
لم أكن من محبّذي “المصادقات” قبل المقابلات، لكنّ “لطافته” تغلبت على توقعاتي. بدون أن أعبّر عن ذلك، كنت لا أزال قلقًا من أنّ مضمون المقابلة قد لا يتعدى بعض الترويج للأسطول الخامس بعيدًا من أي مواقف تذكر. فاقتطاع السؤالين (قبل ليلة وأثناء لقائي بالقائد هوكينز) وأبعاد ذلك كان لا يزال يراودني.
انطلقت المقابلة، وبدا الأدميرال كوبر مجهزًا بامتياز. استرسل بكلامه وبصوت غير متقطع وبنبرة هادئة راح يجيب على الأسئلة تباعًا. شدد الأدميرال كوبر على أهمية “التعاون مع الأفرقاء في المنطقة لضمان أمن الملاحة البحرية والأمن البحري الإقليمي في خليج العرب والبحر الأحمر”.
يتابع ويكشف لقناتي “الحدث” و”العربية” عمّا حققه الأسطول الخامس في مجال “القرصنة والاتجار بالبشر ومكافحة تهريب السلاح والمخدرات”. فيعلن عن إحباط “مخدرات بقيمة مليار دولار خلال عامين و9 آلاف قطعة سلاح”. ويتابع أنّ “إحدى العمليات ضُبط فيها قطع غيار وقطع صواريخ تبيّن أن مثيلتها تم تنفيذ بها الهجمات على الرياض وأبو ظبي”.
لا أقنعة أو دبلوماسيّة في كلام الأدميرال. كان واضحًا وغير معلّبا. في كل عملية اعتراض أو إحباط قاموا بها، يؤكد أنّ “إيران وراءها”. فالمخدرات والسلاح “كانت أغلبها منطلقة من إيران وبطريقها إلى اليمن”. يشدد في كل جواب على ذلك. يكشف الأدميرال كوبر أيضًا عن “أسطول المسيّرات في البحر الأحمر والخليج العربي الذي من شأنه أن يزيد المراقبة على البحار ويضع أعينا على مدار اليوم والأسبوع والعام كاملاً”.
بالنسبة لي، كمتابع لملفات المنطقة والتهديدات التي تقف وراءها إيران، أتى القاد الأميركي على نقطة ملفتة تختلف عن التصريحات الكلاسيكية الصادرة من واشنطن. لم يكتف بالإدانة والاستنكار ولا بالاتهام فحسب، بل وأثناء حديثه عن الانتهاكات الإيرانية والتهديدات لم يفرّق الأدميرال كوبر بين المشروع النووي والبرامج الأخرى. ذلك بخلاف معظم أجواء واشنطن. كان واضحًا. “تهديد إيران متعدد الجوانب ومتكامل، إنه المشروع الصاروخي وتهديد الوكلاء كما المشروع النووي”. فربطه تلك الثلاثة بدون إبداء واحد على الآخر جعل مخاوفي من “دبلوماسيته” تتبدد. نعم! يصرّ الأدميرال كوبر أنّ الثلاثة لا يتجزآن ويجب التصدي للثلاثة معًا.
في هذه المقابلة، كان الأدميرال كوبر هجوميًا بوجه التهديدات الإيرانية. إنهم العسكر! يختلفون عن الساسة والدبلوماسيين. يواجهون التحديات والتهديدات يوميا. إنهم في فوهة المدفع. ما يقولونه أقل بكثير مما يشعرون به. وما قاله الجنرال كان أكبر ممّا قاله أي دبلوماسي. إنهم جادّون بالتعامل مع التهديدات ومهما أتت أوامر من واشنطن لخفض التصعيد إلا أنّ واشنطن نفسها ـ باختلاف الإدارات ـ لا تجرؤ على التضحية بعسكرييها في سبيل المصالح السياسية الآنية مع نظام طهران أو غيره. التعلميات واضحة، وهي عدم “المحاباة” مع أي تهديد.
خلاصة القول، كلام الجنرال فاق التوقّعات وحزمه ضد التهديدات الإيرانية بددت المخاوف من أنّ القوات الأميركية متساهلة. شرح بإسهاب المشاريع والمَهمات الموثّقة للتصدي لإيران وهو ما يختلف تمامًا عن “تساهل” الإدارة الديمقراطية بواشنطن مع نظام الملالي، والذي غالبًا مع لمستُه أثناء لقائي دبلوماسيين من الإدارة الحالية.