حرية – (5/12/2022)
طيلة سنوات عديدة، استطاعت سويسرا مراكمة ثَروتها الوطنية بِتَكَتُّم وبشكلٍ تَدريجي تحت ستار الحياد، ومن خلال العديد من ‘الحلول الخاصة’. لكن مواصلة البلاد لِمَسارها القديم أصبحت الأن أصعب من ذي قبل.
في الوقت الذي حاوَلت فيه الولايات المتَّحدة الأمريكية، واليابان والمفوضية الأوروبية تَركيع نِظام الفَصل العُنصُري (الأبارتايد) في جنوب أفريقيا من خلال فَرض عقوبات اقتصادية عليه في عام 1986، واصلت سويسرا المُحايدة تجارتها مع جنوب أفريقيا.
وعندما حاوَلَت الأمم المُتَّحدة والولايات المُتَّحدة مَنْع نظام الملالي في طهران من الحصول على سلاح نووي من خلال فرض حَظرٍ على الأسلحة وحزمة كامِلة من العقوبات الاقتصادية اعتباراً من عام 2007، قامَت سويسرا بِتَوسيع علاقاتها التجارية مع إيران. وبينما كانت سويسرا مُلتَزمة بالتعاون الإنمائي من أجل تحفيز المَزيد من الديمقراطية وسيادة القانون في دول الجنوب، كان المُستبدون والديكتاتوريون من جَميع المشارب يُودِعون أموالهم في حسابات مصرفية سويسرية.
في العقود الأخيرة، عزّزَت سويسرا صورَتَها العالمية كَجِهةٍ فاعلة ومُلتَزِمة من خلال مَساعيها الحَميدة، وتقاليدها الإنسانية، وحيادها، وَوُجود جنيف الدولية على أراضيها. لكن ذلك لم يَمنَعها من السّعي لتَحقيق مَصالحها الخاصّة – بما فيها مصالحها الاقتصادية – بالتوازي وبِتَكَتُّم شديد. على الأقَل هذا ما يَراه المنتقدون الذين يَنتمي مُعظَمَهُم إلى أحزاب اليسار والخُضر.
إلى جانب مَركزها المالي، وقوانينها الضريبية، كان الحياد المَفهوم تحت شعار “نحن نَتَعامل مع الجَميع ولا نُولي أيّ اهتمام للعقوبات”، أحد الأسباب التي جعلت من سويسرا مركزاً عالمياً لتجارة السِلَع الأساسية، كما كتبرابط خارجي أندرياس ميسّباخ، المدير الإداري لمنظمة “التحالف من أجل الجنوب” (Alliance Sud)، وهو اتحاد يضم أبرز المنظمات السويسرية غير الحكومية المُختَصَّة في دَعم جهود التنمية.
البيئة الدولية أصبحت أكثر صعوبة
ووفقاً لـ إليزابيث شنايدَر- شنايتَر من حزب الوسط [الناجم عن اندماج الحزب الديمقراطي المسيحي مع الحزب البورجوازي الديمقراطي المحافظ في عام 2020]، حَظِيَت سويسرا بالعديد من الامتيازات في الماضي بِسَبَب سياسة الحياد التي تتبعها. ولكن “هذه الامتيازات بدأت بالتآكل”، كما تقول.
وتحت ضَغطٍ دولي شديد – لا سيما من جانب الولايات المتحدة – قامت سويسرا بإدخال إصلاحات على مركزها المالي، وألغَت السرّية المَصرفية جُزئياً، وأدخَلَت العَمَل بنظام التبادُل التلقائي للمعلومات المَصرفية والضريبية مع الولايات القضائية الأجنبية.
العلاقة المعقدّة بين سويسرا والاتحاد الأوروبي تعكس هذا المزاج المتغيّر أيضاً. ووفقاً لـ شنايدر-شنايتَر: “مَكَّنَت الاتفاقيات الثُنائية سويسرا لِفترة طويلة من التَمَتع بالفوائِد الواسعة الناشئة عن الحَق في الوصول إلى السوق الأوروبية الموحدة دون الحاجة إلى الامتثال للالتزامات الصارمة المَعمول بها لجميع المُشاركين الآخرين في هذه السوق”. وفي بروكسل، تُتهَّمَ سويسرا بشكل مُتَزايد باتباع مَنهجية “قَطف حبّات الكرز”، [بمعنى اختيار ما يُناسِبها فقط] الأمر الذي انتهى الآن، بِحَسب شنايدَر- شنايتَر. والأمر نفسه ينطبق أيضاً على الضرائب المُنخفضة للشركات [في بعض الكانتونات السويسرية]، مع موافقة سويسرا في عام 2021 على الحَد الأدنى لضريبة الأرباح على الشركات البالغ 15% للشركات الكبيرة، الذي تَوَصَّلت إليه المفاوضات التي أجرِيَت حينَها في منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية.
بدورها، تؤكد خبيرة السياسة الخارجية كريستين باديرتشَر من حزب الخضر حقيقة تغيّر البيئة الدولية وتقول: “لم يَعُد الاتحاد الأوروبي راغِباً بِمَنح سويسرا المَزيد من الاستثناءات”. ووفقاً لباديرتشَر، فإن العلاقات المُضطَرِبة مع الاتحاد الأوروبي هي أكبر تهديد لازدهار سويسرا حالياً.
ليست العلاقات الثناية المُعقدة فقط هي ما يؤثر على الاقتصاد السويسري، لكن التطورات الحاصلة داخل أوروبا أيضاً. وهكذا مثلاً، تحاول سويسرا عن طريق الضغطرابط خارجي الحصول على بعض التنازُلات في مُفاوضات إصلاح الشروط الإطارية لِعَمَل السوق المالية للاتحاد الأوروبي، والتي وإن كانت تُشَكِّل في الواقع رَدَّ فعلٍ على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلّا أنها يُمكن أن تؤثر بِشدة أيضاً على أعمال المصارف السويسرية، لاسيما فيما يتعلق بإدارة الأصول الألمانية.
بالإضافة إلى ما سبق، أدّى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى تَغيير المَزاج العام تُجاه سويسرا. وهكذا مثلاً، تشعر بعض الدول الأوروبية بالانزعاج من رَفض سُلطات بَرن إعادة تَصدير أسلحة وذخيرة سويسرية الصُنع إلى أوكرانيا. لكن سويسرا تَتمسك بثبات بالحظر، مُستندة إلى مبدإ الحياد السويسري ومعايير الرَفض المُلزِمة المنصوص عليها في قانون العتاد الحربي، على الرغم من تهديد عدد من السياسيين الألمانرابط خارجي بالتوقف عن شراء المعدات العسكرية من الكنفدرالية.
“سويسرا لن تكون قادرة على الطيران تحت الرادار في المستقبل”
من جانبها، تتضامن دول استبدادية مثل الصين وروسيا وإيران مع بَعضِها البَعض، حتى في حرب روسيا ضد أوكرانيا. ويَتَحَدَث بعض المُعلقين هنا عن تَجدُّد تشكيل كُتلة إقليمية واندلاع حَرب باردة جديدة.
ووفقاً لـ باتريك دومّلَر من مركز أبحاث “المستقبل السويسري” (Avenir Suisse)، فإن سويسرا قد تُضطَر إلى اتخاذ موقف “أكثر فعّالية من ذي قبل وأقوى مما تريد”.
في صورتها الذاتية وتصورها العالمي، تضَع سويسرا نَفسَها في صَفّ التحالف الغربي. ووفقاً لـ دومّلَر، فإن من غَير المُرَجَّح أن تكون البلاد قادِرة على “الطيران تحت الرادار” في المستقبل ومُمارسة الأعمال التجارية مع الآخرين كما اعتادَت على ذلك. وكما يوضح: “تخضع السياسة الاقتصادية الخارجية لسويسرا لمراقبة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهؤلاء يتوقعون منها أن تتعاون معهم”، كما يقول دومّلَر. وبحسب الباحث في المؤسسة الفكرية الليبرالية التوجه، لم يكن هناك مثل هذا التَوَقع من سويسرا في السابق، حيث كان بوسعها تحقيق ما تريد من خلال التظاهر بالحياد.
العقوبات تكلف البلاد غالياً بطريقة أو بأخرى
في حالة الحرب الأوكرانية، أعطَت سويسرا – وفقاً لبيانها الرَسمي – الأولوية للمُثُل العُليا السامية مُقَدِّمة إياها على ازدهارها، وشارَكَت في العقوبات المَفروضة على روسيا – وإن كان بعد بَعض التَرَدُّد.
وبرأي دومّلر، فقد تعرَّضت سويسرا إلى ضغوط مُتزايدة [بغية فَرض هذه العقوبات]. وكما يقول: “أغلب الظَن أنها سوف تَستَمر في دَعم هذه العقوبات، وإلا فإنها تُخاطر بِمُواجهة تدابير اقتصادية مُضادة”.
من جانبه، اعترف رئيس حزب الوسط غيرهارد بفيستر صراحة أمام وسائل الإعلامرابط خارجي بأن سويسرا سوف تضطر إلى التَكَيُّف مع فُقدان بعض ما تَتمتع به من رَخاء. وكما قال، فإن العقوبات والتدابير المُضادة العَنيفة، وقَطْع العِلاقات التِجارية، سوف يكون لها تأثير مَلحوظ على رفاهية البلاد.
من المُحتَمَل أن يكون قَرار الإنضِمام إلى العقوبات قد تَسَبَّب في اختلافات بالرأي داخل صفوف الإدارة الفدرالية السويسرية؛ لإن احتفاظ وزارة الخارجية بعلاقات جيِّدة مع أهَمّ الشُركاء التِجاريين للبِلاد، سوف يُحَتِّم على سويسرا تقديم تَنازُلات للاتحاد الأوروبي والولايات المُتَّحدة من وقتٍ لآخر، حتى عندما يتعلَّق الأمر بِتَدابير مثل العقوبات، التي لا تَصُب في مَصلحة اقتصاد البلاد.
من جهتها، لا ترى ألكسندرا باومانّ، رئيسة شعبة الازدهار والاستدامة في وزارة الخارجية السويسرية والتي قامَت بالتَوَسُط داخل الإدراة الفدرالية، أن انضمام سويسرا للعقوبات يشكل تهديداً مُباشراً لرفاهيتها. وكما قالت في مقابلة مع SWI swissinfo.ch: “نحن مُلتزمون بِتَحقيق نِظام مالي مُستَقر وبِناء أفضَل العِلاقات المُمكِنة مع الخارج”، وكما أشارت، فإن الظروف الإطارية المُستقرة هي الضامِن الأساسي لتحقيق الرفاهية.
وفي الوقت الذي هَزَّت فيه جائحة كوفيد-19، وأزمة الطاقة والتَضَخُّم الدول الأوروبية الأخرى اقتصادياً، وأدَّت إلى حدوث اضطرابات سياسية كبيرة، ظلت سويسرا مُستقرة اقتصادياً وسياسياً بشكل مَثير للدهشة. لذلك، وبَدَلاً من الاعتماد على امتيازات مثل الحياد و”الوَضع الخاص”، فإن بإمكان سويسرا أن تلعب ورقة رابحة أخرى، ألا وهي الاستقرار.