حرية – (5/12/2022)
منصة “تويتر” ماذا سنفعل إذا زُلتِ من الوجود؟ فمن دونك، كيف سنعلم أن (الممثلتين) جيليان أندرسون وآندي ماكدويل تُعتبران في الوقت الراهن بأنهما تتمتعان بجمالٍ “غير تقليدي”؟ أو أن حفنة من الناس يعتقدون أن أغرب شعور بالإعجاب وأكثره عبثيةً لديهم إنما يكنونه للممثل أوسكار أيزاك؟ أو حتى – بحسب موجةٍ سريعة الانتشار على “تويتر” الأسبوع الماضي تمحورت حول مشاركة الجمهور أسماء “كل شخص غير تقليدي يحرك غريزة الشهوة لديهم” – أن صوفي أوكونيدو ورامي مالك وزوسيا ماميت وجيريمي ألين وايت، جميعهم يبدون جذابين على نحو ممتع ومثير للشعور بالذنب؟ نعم، هذا هو جيريمي ألين وايت الذي أسر القلوب أخيراً باعتباره عبقرياً في الطهي في الدراما التلفزيونية “ذا بير” The Bear. وهو رجل قد يعتقد البعض أنه تقليدي للغاية ليلفت إعجاب جمهور الإنترنت. وقد ينطبق هذا المفهوم إذا كان المقصود بكلمة “تقليدي” هو “ما يتم القيام به بشكل عام”، أو بعبارةٍ أكثر بساطة، “وفقاً للاتجاه السائد”. لكن لا! يبدو من الواضح أننا بدلاً من ذلك نعمل على توسيع نطاق مصطلح “غير التقليدي” المتعارف عليه، إلى ما هو أبعد من كل الحدود العادية.
هناك في الواقع وضع مشابه مستمر الآن في ما يتعلق بفاتن النساء الأخير، وهو بيت ديفيدسن الممثل الكوميدي نجم برنامج المنوعات “ساترداي نايت لايف” Saturday Night Live. ففي كل مرةٍ يُشاهد فيها إلى جانب فتاةٍ مشهورة أخرى مثيرة – من بين صديقاته السابقات الممثلة الإنجليزية كايت بيكنسيل والمغنية الأميركية أريانا غراندي وكيم كارداشيان – يُصاب جمهور الإنترنت بنوباتٍ من الارتباك والرعب، ويتساءل “كيف يمكن لرجل بهذا الشكل أن يوقع في شِباكه نساء بهذا المظهر [الجذاب]” – في وقتٍ يبدو أنهم ينسون أن ديفيدسن طويل القامة وغنيٌ للغاية، وجسمه مغطى بالوشوم، إضافةً إلى كونه ممثلاً كوميدياً – كما قال أحد الحكماء عبر الإنترنت في دفاعه عن استحواذ ديفيدسن المستمر على قلوب حفنة من الشخصيات غير الصالحة: “تخيل أنك تضحك كثيراً في منزل بنتهاوس فخم. تهانينا، لقد وقعت في شباك الحب”. لكن على رغم سحره الواضح، فإن ديفيدسن يُعد اختياراً رومانسياً مثيراً آخر “على نحوٍ غير تقليدي”. ويبدو الأمر برمته وكأنه تجربة فكرية بطريقة شرودنغر Schrodinger [فيزيائي نمسَوي حائز جائزة نوبل تناول مشكلات علم الوراثة من منطلق ظاهرة الحياة من وجهة نظر الفيزياء]، الذي يعتقد أن في إمكان المشاهير أن يجسدوا الإثارة ونقيضها في آن معاً.
إذاً ما الذي يحصل؟ هل تشير حقيقة أن الناس “يعترفون” بأنهم يستهوون المشاهير “غير التقليديين”، إلى أن تصوراتنا عن الجمال آخذةٌ في الاتساع؟ أو أنها في الواقع تشير إلى عكس ذلك بالضبط؟ هل تعزز الفكرة القائلة بوجود عالمٍ من الجمال “غير التقليدي”، فقط معايير معالم الجمال “التقليدي”؟ ماذا الذي يعنيه حقاً اعتبار مظهر كل من الممثلتين كايت بلانشيت ولوبيتا نيونغو “غير تقليدي”؟
هناك في الواقع عددٌ غير قليل من العناصر المساهمة في ذلك. أولها الحقيقة البديهية التي أصبحت في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، من الأمور المألوفة والمهيمنة، وهي أن كثيرين يهوون غريبي الأطوار. تعرفون ما أعنيه – إنهم أولئك المهووسون النمطيون الذين لا يتوانى أصحاب البنية الصلبة عن دفعهم إلى خارج صفوف انتظار الغداء، لكنهم في كثير من الأحيان ينجحون في اجتذاب الفتاة التي تروق لهم في نهاية المطاف. وهناك أيضاً أولئك اليافعون الحساسون والأذكياء الذين قد يعجزون عن تأدية دور “ثور” [بطل خارق من سلسلة مارفل] لكنهم قادرون على حملهم على الضحك. ومن الواضح أن هؤلاء – غريبي الأطوار لكن المحبوبين – يؤدون دوراً رئيسياً في عالم الشهرة، ويشكلون جزءاً من زمرة الجمال “غير التقليدي” بحسب ما يُزعم. فمن خلال ما يُنشر من عناوين مفعمة بالنميمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، غالباً ما يتم تصنيف الرزمة نفسها من الرجال على أنهم بدائل “غير تقليدية” من أمثال الممثل كريس هيمسوورث ولاعب كرة القدم ديفيد بيكهام والممثل براد بيت في العالم. والمقصود هنا بشكلٍ أساسي: ديفيد تينانت، ومات سميث، وبنيديكت كامبرباتش ودومينهول غليسون. إن إبداء الرغبة بدعم هذا النوع من المشاهير “غير التقليدي” لا ينم إلا عن رغبة كامنة في أن يُنظر إليك على أنك شخص “غير تقليدي” و”بديل”. ومن خلال المجاهرة بالشغف بهؤلاء الأشخاص – غير أصحاب البنية الصلبة – فإن ما يحاول الناس في الواقع الادعاء به هو أنهم أنفسهم حساسون وأذكياء ومرحون وذوو أذواق رفيعة. وهم يشيرون ويلمحون إلى أن “لا رغبة لديهم برؤية عضلات، وأنهم يفضلون شخصاً ما غريب الأطوار”.
غير أن ما ينطوي عليه ذلك، هو أن وصف شخصٍ إنجليزي راقٍ ونحيف يتمتع بروح الدعابة بأنه جذاب، ليس بأمر “غريب” أو محبط. في الواقع، أن هؤلاء الأفراد المثيرين على نحو “غير تقليدي” هم تقليدياً أفضل المتاح. وفي الواقع إن العقود القليلة الماضية شهدت نهضةً ثقافية عظيمة داعمة للأشخاص المهووسين. وذلك بدءاً من المعجبين بالأبطال الخارقين وهواة الخيال، إلى أولئك الذين لديهم ولع بالتشفير، إذ لم تعد ثقافة المهووسين بالأفكار الجديدة حكراً على الغرباء البدلاء، لكنها أصبحت تشكل تياراً سائداً يفرض نفسه بكل تأكيد. وقد بات الرجال غريبو الأطوار “غير التقليديين” في كل مكان، وهم محبوبون وموضع إعجاب كبير. وهذا هو السبب في أنني أرحب شخصياً بالعودة الثقافية لجاك غريليش الجذاب لكن الغبي، وهناك عددٌ كبيرٌ للغاية من هؤلاء الأشخاص المنعزلين وغريبي الأطوار والأذكياء الذين يحبون تأدية دور الملوك الأطفال سواء كانوا في مراكز عليا من السياسة أو في “سيليكون فالي”.
مع ذلك، لا تنتهي القصة عند هذا الحد. فالمسألة تشتمل على مقدارٍ أكبر بكثير من الفهم المعاصر للجمال “غير التقليدي”، أكثر من مجرد مجموعة من الرجال البيض النحيفين الذين قد يضايقون مَن حولهم. فالأمر الأكثر مكراً يتمثل في حقيقةٍ مفادها أن أعداداً كبيرة من النجوم ذوي المظهر “غير التقليدي” على موقع “تويتر”، تتألف إما من ملونين، أو يهود، أو من أفرادٍ ما فوق الأربعين سنة من العمر، أو من كل ما سبق. يبدو أن ذلك يشير، بعيداً من الشعارات المؤيدة للتنوع والشمولية في فهم مسألة الانجذاب للآخر، إلى وجود تضييق على مُثُل العنصرية والجمال في تقدم العمر.
وفي هذا الإطار يشير جيمس فوكس رئيس قسم البيانات والتحليلات في مؤسسة “كانفاس 8” Canvas8، إلى أن “فهمنا للجمال قد تغير بالتأكيد منذ ظهور وسائل التواصل الاجتماعي”. لكنه يؤكد أيضاً أن “فكرة الجمال بحد ذاتها تمثل إشكالية”. ويستعين فوكس بكتاب مقالات عالمة الاجتماع تريسي ماكميلان كوتوم “ثيك” Thick، ليقتبس مما قالته كوتوم عن أن “الجمال ليس في الواقع المظهر الذي تبدو عليه، إنه حصيلة الخيارات التفضيلية التي تعيد إنتاج النظام الاجتماعي القائم”.
ويضيف: “إذا كنا نصنف شخصاً ما على أنه جميل بشكل غير تقليدي، يجب أن نسأل أنفسنا كيف نحدد كلمة “تقليدي” ومن أين يأتي مصدر هذا المصطلح. من هنا، إذا كان يمكن اعتبار أي شخص غير نحيف، أبيض البشرة، وعمره 22 سنة، على أنه على الدوام “غير تقليدي”، فمن المفترض أن يعني الجمال “التقليدي” أن يبدو، على حد تعبير تايلور سويفت، “يافعاً مثيراً”.
كانت هذه هي الحال دائماً إلى حد ما، فقد شكل عنصر الشباب واللون الأبيض الركيزتين الأساسيتين لعالم التجميل منذ الأزل. ومع ذلك، فإن الملامح الجمالية الخاصة بمواصفات “اليافع المثير” اليوم، تأتي أيضاً في جزءٍ كبير منها من “إنستغرام” وجميع الحيل والاتجاهات المرئية التي تدعمها. ويرى جراح التجميل الدكتور بول بانويل أن “التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت أسهم مع الصور المفلترة، للأسف، في تشويه فكرتنا عن الجمال. ومع ظهور الفلاتر وأدوات تعديل التطبيقات، نكاد أن ننسى ما يبدو عليه الجمال “الطبيعي”. إننا نحتفي بجمال يزيل أي عيوب، (و) يزيل أي مسام من بشرتنا”.
في عام 2019، كتبت جيا تولينتينو في مجلة “نيويوركر”، عن انتشار هذه الصورة النموذجية الجمالية فائقة النقاوة التي تُنسب إلى المشاهير، واصفةً ذلك “الصعود التدريجي لتلك الظاهرة الاحترافية المنتشرة في أوساط النساء، والتي باتت تتخذ صبغة سيبرانية ميكانيكية موحدة”، تتمثل في “وجه يافع المعالم، وبشرة نقية خالية من المسام، ووجنتين مرتفعتين ومكتنزتين، فيما تتسم بعينين مسحوبتين كالقطط، ورموش طويلة شبيهة بالشخصيات الكرتونية، وأنفٍ صغير وأنيق وشفتين ممتلئتين”. وتابعت تولينتينو تقول إن هذا الوجه يتشح “بشكل واضح باللون الأبيض لكنه يمتاز بسمات عرقية غامضة”، حتى أنه أصبح منذ ذلك الحين معروفاً باسم “وجه إنستغرام” Instagram Face. وأصبحت بالتالي تلك الإطلالة الكرتونية القططية التي اختارتها لنفسها كل من بيلا حديد، وإميلي راتايكوفسكي، وفاتنتا آل جينرز، هي التي تحدد مواصفات الجمال “التقليدي” في عام 2022.
ويبدو أن هذا المنحى التقليدي بات يملي على الناس أيضاً بعض السلوكيات، بحيث يسعى كثيرون الآن إلى اكتساب “وجه إنستغرام لشابة مثيرة” Sexy Baby Instagram Face بأي وسيلة ممكنة. ويقول الدكتور بانويل، “في حين أن السيدات كن ذات يوم يأتين لزيارتي، حاملات صوراً لشفتي أو ثديي إحدى الشهيرات، كي أجري لهن عمليات تجميل تجعلهن يبدين مثلهن، بتن الآن يحملن إلي صورة لأنفسهن، لكنها مجملة بواسطة فلتر تطبيق “سناب شات” Snapchat.
غيليان أندرسون بجمالها “غير التقليدي” (غيتي)
وتشير الخبيرة الاستشارية في جراحة وتجميل العيون الدكتورة إليزابيث هوكس من جانبها، إلى تنامي طفرة في الجراحة المستوحاة من “إنستغرام”. ويقول الدكتور هوكس في هذا الإطار إنه “لاحظ زيادة في الاستفسارات حول كل من الإجراءات التجميلية والجراحية حول العينين”، مشيراً إلى أن “جراحة “عين الثعلب” [من خلال رفع الزوايا الخارجية للعين بطريقة تتشابه مع عيون الثعلب] هي خير مثالٍ على ذلك”. ويرجح الدكتور هوكس أن تكون هذه النزعة مستوحاةً من بيلا حديد وكيندال جينر، وأن انتشارها على وسائل التواصل الاجتماعي أسهم فيه فلتر “عين الثعلب”. فإن هذا “التعديل” غير الجراحي، على حد تعبيره، “يشتمل على إدخال خيوط بلاستيكية في المنطقة المحيطة بالعينين لتمديد الجلد المترهل وشده”.
وتتمثل إحدى المشكلات السائدة بالطبع، في أن أي “تعديلٍ” جراحي أو غير جراحي لا يمكنه في الواقع منح الوجه المرغوب فيه بشكل تقليدي، وذلك لأنه في بادئ الأمر ليس حقيقياً. فهو وليدة توليفة معقدة من الإعدادات الرقمية والحيل الخادعة، ومجموعة من الأنماط الثقافية الكلاسيكية السائدة. وهنا تكمن المشكلة الرئيسة الثانية. فعلى رغم الترويج لـ”مظهر بسمات عرقية غامضة”، فإن هذه المعايير الجمالية تسهم في الواقع في دعم نظام يميز ذوي العرق الأبيض، ويهمش سواهم. وتتساءل هنا جينيفر نغوين التي تحمل شهادة ماجستير في علم الموضة والأزياء، مرفقة بتخصص بحثي في الألوان، عن مدى “انحراف المثل العليا لمفهوم الجمال المعاصر عن معيار الجمال المتأصل في اللون الأبيض”. وتقول إن “المجتمع بات يعتبر الآن (السمات العرقية) جزءاً من معايير الجمال، لكن بشكل مشروط، فبالنسبة إلى شخص عنصري، يجب ألا يبتعد المرء كثيراً عن السمات البيضاء السائدة كي يُعتبر جميلاً”.
ومع استمرار خاصية “وجه إنستغرام” لتنقية البشرة (عبر الفلاتر) في الهيمنة على مواقع الإنترنت واجتياح عيادات جراحي التجميل، فإن التصدي لمبادئ الجمال التي باتت تُعد “تقليدية” هو أمرٌ بالغ الأهمية. لكن لا يمكن القيام بذلك من خلال اعتبار كل شخص ليست لديه خاصية Instagram Face على أنه حل “بديل”. لأن في نهاية المطاف، إذا كانت جاذبية أوسكار أيزاك تُعتبر “غير تقليدية” فليكن الله في عوننا نحن الآخرين.