حرية – (7/12/2022)
واقع جديد تبدو عليه الموصل في خواتيم هذا العام، بحيث يمكن مع استكشاف روح المدينة اليوم تلمس التقدم في أكثر من مجال، حراك لإعادة بناء ما تم تدميره، وأرصفة تتزين بحجر جديد، وفنادق قيد الإنشاء وأخرى حديثة متوسطة المستوى تستقبل الزوار من محافظات العراق، مع توثب واضح لدى الناس في الشارع لعبور المرحلة السابقة، وما الترحاب بالوافد (أي وافد) إلا إحدى نتائج الاطمئنان الاجتماعي البائن هناك.
مفارقة تستحق التوقف في أول ليلة من ليالي زيارة الموصل، أن المنطقة المهملة بفندقها الشهير المهجور “نينوى أوبروي”، تحول الطريق المقابل لها إلى ممشى مضاء بمساحة للتفسح والركض وتناول المشروبات الساخنة إضافة إلى جلسات التصوير بتجاور مشخص بين الظلام والأنوار، البنيان المنسي والفضاء المفتوح المشع، وبكثافة في التجوال من قبل العائلات والشباب بعد الساعة الثامنة مساء.
طبقية بين الاتجاهين
التضاد المربك للناظر في المشهد الموصلي ليلاً يتعمق في النهار أكثر بين جانبي المدينة، غرب ناهض وشرق مازالت علامات الدمار فيه أبلغ من الوصف نفسه، لدرجة أن شباب المدينة الباحثين عن فرص عمل ينوهون إلى حالة مما أسموه بـ “الطبقية الجديدة”، حيث حركة رؤوس الأموال والاهتمام الحكومي كلها منصبة على الجانب الغربي، أقلها بما يخص الجسور التي أعيد منها ثلاثة من أصل خمسة.
بينما لا يحظى شرق الموصل بالقدر ذاته، والدور في ترميم ما تخرب منه لمنظمات دولية مثل “اليونسكو” والمنظمة الدولية للهجرة، فهما وغيرهما من ينخرط في إعمار المدينة القديمة وشوارعها وبيوتها، لكن ببطء أبقى نبرة الإحباط على ألسن الأهالي.
في الغرب، يبرز الوجود الجديد لشباب يديرون مؤسسات حديثة أغلبها ثقافي، وقسم آخر صارت لديه خبرة في المجال الإغاثي مع مقاه بثيمات فنية على الجدران، وهو ما ينطبق على “ملتقى الكتاب” الواقع في منطقة المجموعة الثقافية وعدد آخر من المقاهي، التي وظفت الغرافيتي على جدرانها، وبالأخص من تلك الرسومات والتكوينات الفنية التي شاعت بعد ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 2019.
الناشط الموصلي أيوب ذنون، قال لـ “اندبندنت عربية”، “في ما يخص الإعمار، يتبادر إلى ذهن أي موصلي، شقان، الأول الإعمار الحكومي المتعلق ببنايات القطاع العام والجسور والمستشفيات، والشق الثاني يتعلق بالمواطنين والقطاع الخاص عموماً”.
ويبين أن “ما تم إعماره من منازل وأسواق يشكل نسبة 80 في المئة، ونصف هذا الجهد يعود للأهالي والنصف الآخر عائد للمنظمات الدولية والمانحين والجهد الحكومي، أما المتبقي الذي لم يتم إعماره فهو بحدود 20 في المئة، وهذه النسبة على رغم صغرها، لكنها الأهم لأن ضرورتها أكبر بالنسبة إلى المواطن بحكم أنها مستشفيات ومصارف ومؤسسات أبرزها مطار الموصل ومحطة القطار”.
ويشير ذنون إلى أن “الدور الحكومي بدأت تظهر ملامحه في الفترة الأخيرة، لكنه لم يصل للمستوى المطلوب”.
ومن هذا، فإن عدداً من الأبنية والمواقع التاريخية والدينية تحتاج إلى جهد أوسع لتتجاوز ما هي فيه، ومنها جامع النبي يونس وحدائقه المخربة، وفندق آشور، وبناية التأمين، وسور نينوى، والانتهاء من ملف جامع النوري، في مقابل عودة افتتاح عدد من المنشآت والمؤسسات بعد تهديمها في حقبة الإرهاب، وفي مقدمتها كنيسة البشارة.
مهاجرون يعودون
ويبدو أن الحركة التجارية والمولات والأسواق الجديدة، تتركز في الغرب أيضاً، ارتباطاً بتوجه رؤوس الأموال للاستثمار في هذا الجانب، وهو ما دعا عدداً من المهاجرين إلى العودة للعمل في الموصل، بفعل الأحداث الدولية وبالتحديد الحرب الروسية – الأوكرانية، ويقول المواطن بسام الإزيدي “عدت إلى الموصل لصعوبة تدبير الأمور والغلاء في ألمانيا، بخاصة بعد أحداث أوكرانيا التي غيرت الوضع في أوروبا، فجئت إلى هنا لوجود فرص عمل أستطيع من خلالها تدبير الحال”.
المولات الجديدة توحي بأن هناك سعياً للحاق بما يجري في بقية أنحاء العراق، بشيوع هذه الأسواق الحديثة الخاضعة لنظام مراقبة بالكاميرات ولحراسة أمنية عند المداخل وبطوابق متعددة، وعلى رغم من أن الموصل ليس فيها مول بحجم ما هو موجود في بغداد، لكن أسماءها تشير إلى رغبة بفرض طابع عصري على المدينة.
نهوض من الرماد
مخلفات حقبة “داعش” ملحوظة، ليس في البنيان المهدم فحسب، إنما على مستوى ما تركته من آثار نفسية وهجرة ونزوح، بدأ الموصليون بتخطي ذلك كله بشيء من الواقعية والتطلع لطي هذه الصفحة السوداء.
هذا النفس بتلافي ما مر تجده ملموساً في حالة جامعة الموصل، وهي تغادر كلياً صور الدمار الذي ظهرت به قبل أعوام، وذلك ما تعزز بافتتاح المكتبة المركزية بعد إعادة ترميمها في فعل فيه إبصار للمستقبل والانتماء إليه.
وإذا ما نظرنا لحدث الافتتاح الذي اندرج تحت عنوان “النهوض من الرماد”، فإنه حمل ما حمله من معنى وتأكيد على قدرة المدينة بمناراتها المعرفية وعلاماتها الحضارية على أن تعود مجدداً، لأن دورة حياة هذه المكتبة حطت استدارتها هذه المرة عند انبعاث جديد ومختلف، ليكون تاريخ الافتتاح في فبراير (شباط) من عام 2022 رقماً مهماً إلى جانب تاريخين مؤثرين في سيرة الموصل، حيث تأسيس المكتبة عام 1967، وحرقها وتخريبها بعد يونيو (حزيران) 2014.
أبواب الحياة
في الشرق تصوغ الأزقة في هذا الشطر من المدينة أكثر من صورة عما حل بالمكان، مرة عبر لافتات المنظمات الدولية التي تعيد بناء هذا الشارع أو هذه المحلة، ومرة عبر ما أصاب الأبنية من قذائف الاشتباكات ورشقات الرصاص، ومرة ثالثة بما يبدو على وجوه الناس من حاجة وانتظار لفعل الأكثر لهذا الجزء من المدينة العريقة.
لمحة منتجة ببعدها التفاؤلي، وأمام ما يجري ترميمه الآن من بيوت في محلة الجامع (التي يقع فيها جامع النوري)، مفادها أن حملة الإعمار، وفق الشاب ياسر كوباني، قد “جعلت الجيل الجديد من أبناء الموصل ومن الشباب والبنات، يرى للمرة الأولى عملية النقش على المرمر المصلاوي، بالنظر لقدم البيوت وتوقف البناء بهذه الطريقة (الفرش) منذ السبعينيات ليحل محله (البلوك والإسمنت)”.
في الجانب الشرقي أيضاً وصل بين الماضي والحاضر، و”عمو البقال”، أحد المحال هناك، اسمه لافت يدعو للسؤال عنه، فهو عن بقال موصلي قديم منذ ستينيات القرن الماضي، اختارت البلدية حينها دلالة وجوده ليكون هذا “العمو” اسماً لهذه الرقعة التي تتعالى اليوم على ما أصابها، وترصع أبواب بيوتها الخشبية بمقابض ومطارق من حديد وبرونز وخطوط متوازية تميز تصميمها الذي أخذ يتلقف أوكسجين الحياة ثانيةً.
خوذة جنوبية في الشرق
الشرق كيان نابض، امتداد حالي لما هو ضارب في التاريخ، جدران لا تغفل جرائم هذه الألفية ولا تنسى المضحين من أجل عودة السلام وصمت البنادق والمدافع، هناك في واحدة من التشكيلات الجديدة، أي في إحدى المؤسسات الواقعة في حي حمام المنقوشة، تضع إدارة المؤسسة في متحفها المتعدد المعروضات، خوذة لجندي من مدينة الناصرية هو أحد ضحايا جهاز مكافحة الإرهاب في اختصار لمثابة ومأثرة وطنية أريد لها أن تفنى، حينما يضحي جنوبي من ذي قار من أجل تحرير مدينة عراقية شمال البلاد في زمن صعود العصبيات الطائفية والإثنية، وكأن هذه التضحية لن تعيد تشكيل الموصل لوحدها من جديد، بل ستعيد رسم ملامح عراق آخر يعاين أبناؤه ما جلبته معادلة التغالب السياسي باسم المكونات، وما جرته من عنف ودم وويلات.
في الآثار المتبقية من عصف الإرهاب وفي كسور الطابوق من الأبنية المنهارة دلائل تدعو للاعتبار مما حصل، أولها أن المدينة بحاجة لمتحف خاص وغير مألوف، متحف يوثق تفاصيل الكارثة ويذكر الأجيال بما خسرناه من أرواح، تجمع فيه حاجيات البيوت المنكوبة وملابس الضحايا الذين أوصلوا الموصل إلى عتبة الخلاص.
وثانيها أن يكون للفن وللفنانين والمهندسين العراقيين دور في إعمار المدينة، مع الانتباه إلى المحاولات النبيلة لبعض النحاتين في الموصل، وإن كانت ارتجالية ومستعجلة، في نصب عدد من الأعمال التي تثار في شأنها ملاحظات وتقييمات فنية.
هيروشيما القرن الفائت، امتلكت متحفها للسلام ومكتوبها كوثيقة للأجيال اللاحقة بأقلام الناجين، فلم لا يكون المثل بنسخة موصلية عراقية عما دار فيها؟