حرية – (15/12/2022)
على مقربة من ملتقى دجلة والفرات في محافظة البصرة العراقية، عكف قبل 45 عاماً المغامر وعالم الأجناس والحضارات النرويجي الدكتور تور هايردال مع 10 علماء وباحثين من جنسيات مختلفة على تصميم وبناء مركب شراعي من نبات البردي السائد في أهوار العراق، وانطلقوا به في رحلة شاقة محفوفة بالأخطار أراد هايردال من خوضها أن يبرهن نظريته عن التواصل عبر المحيطات والبحار بين الحضارات القديمة.
نظرية جدلية
يقول الكاتب والوزير والسفير العراقي السابق حسن الجنابي إن “هايردال كان يرى أن تزامن بزوغ فجر الحضارة البشرية في العراق ومصر وشبه القارة الهندية لم يكن محض مصادفة، وانما كان يوجد ترابط بين تلك الحضارات القديمة، إذ كان سكان وادي الرافدين يبحرون إلى وادي السند ووادي النيل بواسطة قوارب مصنوعة من البردي”، مضيفاً أن “نظرية هايردال تتمحور حول فكرة مفادها بأن الحضارات القديمة تفرعت من أصل واحد كان منبعها العراق القديم”.
وبينما يؤكد علماء الآثار أن السومريين كانت لديهم قوارب ذات أشرعة يبحرون بها بمحاذاة سواحل الخليج، يعتقد هايردال أن السومريين كانوا يستخدمون قواربهم البدائية في الإبحار لمسافات بعيدة عبر المحيطات والبحار، ومن أجل إثبات نظريته جاء إلى العراق عام 1977 وأشرف على بناء قارب كبير من البردي بطول 18 متراً، أطلق عليه اسم “دجلة” وانطلق به مع فريقه في ظل توديع حافل، وحين كان القارب ينساب بهدوء في شط العرب مع بداية الرحلة كتب هايردال في دفتر مذكراته “شعرنا أننا غادرنا صخب العالم وضجيجه وانتقلنا بسرعة مركبة فضائية إلى الماضي السحيق، ومع كل ضربة مجذاف أحسست بالسفر عبر الزمن إلى الوراء، ليس إلى الهمجية والتخلف بل إلى حضارة بعيدة من ذلك مثل بعد حضارتنا المعاصرة”.
نهاية تراجيدية
وبعد اجتياز مضيق هرمز اتجه هايردال وفريقه صوب بحر العرب في طريقهم إلى البحر الأحمر لبلوغ أرض الفراعنة، لكن ما إن وصل القارب إلى خليج عدن حتى توقف اضطرارياً بسبب طبول الحرب التي كانت تقرع في المنطقة، والأساطيل الحربية التي كانت محتشدة على وقع النزاع الصومالي – الأثيوبي، وبطريقة تراجيدية قرر هايردال إنهاء الرحلة عند هذا الحد من خلال إضرام النار في القارب بعد قطعه مسافة 6800 كيلومتر على مدى خمسة أشهر.
وحرر هايردال خطاباً إلى سكرتير منظمة الأمم المتحدة الدبلوماسي النمسوي كورت فالدهايم جاء فيه، “لمناسبة انتهاء رحلة مركب البردي ’دجلة‘ بطاقمه الأممي، نعبر عن امتنانا لك لسماحك لنا بالإبحار تحت راية الأمم المتحدة، ونفتخر بإبلاغك بأن الهدف المزدوج لحملتنا قد تحقق مع أن توقفنا عند مدخل البحر الأحمر كان إجبارياً، إذ كانت تحيط بنا طائرات وسفن حربية قادمة من أكثر بلدان العالم تحضراً وتمدناً”.
ومما جاء أيضاً في رسالة هايردال “تجربتنا كانت رحلة إلى الماضي نتوخى منها درس خصائص مركب بحري صنع وفق الأسس السومرية العريقة، لكنها كانت رحلة إلى المستقبل أيضاً لإثبات أن كوكبنا يتسع للتعايش السلمي بين البشر الساعين إلى العيش المشترك، ويمكننا الإعلان أننا على رغم اختلاف توجهاتنا السياسية عشنا معاً في مكان ضيق، وكافحنا جنباً إلى جنب بروح التفاهم التام والصداقة في أوقات الصفاء والعواصف”.
وأضاف أن “كوكب الأرض أكبر من حزم البردي التي حملتنا عبر البحار، ولكنه بالصغر نفسه من حيث حجم الأخطار إن لم تتفتح عيوننا وعقولنا إلى الحاجة الحتمية للتعاون العقلاني لإنقاذ أنفسنا وحضارتنا المشتركة من التحول إلى باخرة على وشك الغرق”.
رحلات أخرى
لم تكن رحلة القارب دجلة أول أو آخر رحلة خاضها هايردال، بل كانت حياته مليئة بمجازفات ومغامرات ذات أهداف علمية، ففي عام 1947 أبحر باستخدام طوف خشبي بدائي لمسافة 8 آلاف كيلومتر من الساحل الغربي لأميركا الجنوبية إلى جزر بولونيزيا في المحيط الهادئ، لإثبات نظرية تفيد بأن أرخبيلات المحيط الهادئ لم تكن مأهولة فقط من قبل غربيين، بل كان يعيش فيها أيضاً بعض الهنود الحمر الذين قصدوها من أميركا الجنوبية.
ولتأكيد فرضيته نظرياً استعان بحكاية شعبية تتحدث عن زعيم قبلي من الهنود الحمر أبحر من البيرو نحو غروب الشمس على متن طوافة من خشب البلسا الذي يعد من أخف أنواع الخشب، ولما عرض هايردال النظرية على عدد من علماء الآثار والأجناس الأميركيين لم يجد تأييداً، وكان أحدهم عالم الآثار هيربرت سبيندن الذي اقترح عليه أن يجرب بنفسه الإبحار من البيرو إلى جزر المحيط الهادئ بطوف خشبي، فقبل هايردال التحدي ونجح بمعية خمسة آخرين في تنفيذ الرحلة التي استغرقت 101 يوم.
الفنان والباحث رشاد سليم رفيق هايردال في رحلة القارب دجلة
وفي عام 1955 نفذ هايردال رحلة أخرى بمشاركة خمسة علماء آثار إلى جزيرة القيامة التي تعد من أكثر جزر المحيط الهادئ عزلة، وفيها مئات التماثيل الحجرية الكبيرة المتشابهة، والتي لا تزال تشكل لغزاً، وكان الاعتقاد السائد أن التماثيل تتألف فقط من رؤوس، لكن تنقيبات هايردال وفريقه أظهرت أن بعض الرؤوس الظاهرة تتصل بقامات ضخمة مدفونة تحت الأرض.
وفي عام 1986 عاد هايردال إلى الجزيرة مرة ثانية، ونجح عملياً في تفسير كيفية نقل التماثيل كيلو مترات عدة من موقع نحتها من الصخور إلى أماكن نصبها قرب سواحل الجزيرة، إذ شد تمثالاً لا يقل وزنه عن 15 طناً بالحبال، وسحبه بمعاونة 16 شخصاً من السكان المحليين، وبذلك تم تحريك التمثال بالطريقة نفسها التي يحتمل أن سكان الجزيرة القدماء قد استخدموها.
ونتيجة لتلك الرحلات نال هايردال شهرة عالمية واسعة، ليس كعالم ومغامر وكاتب وحسب، بل ناشط سلام يؤمن بالمساواة بين البشر، وتقديراً لجهوده حظي بتكريم جامعات ومؤسسات أكاديمية وعلمية عدة، إذ حاز على الدكتوراه الفخرية من جامعة أوسلو عام 1961 وجامعة موسكو عام 1989 وجامعة سانت مارتن الأميركية عام 1991 وجامعة ماين الأميركية عام 1998، كما ظفر بجوائز وأوسمة وميداليات من حكومات وهيئات كثيرة.
جذب سياحي
في الـ 18 من أبريل (نيسان) 2002، ترجل هايردال عن صهوة الحياة عن عمر 88 سنة، وتخليداً لذكراه أصدرت النرويج طوابع بريدية تحمل اسمه ورسومات معبرة عن رحلاته، كما تحول بيته في أوسلو إلى متحف، وفي ركن منه ثمة مجسم صغير للقارب دجلة، وفي العراق أدرجت وزارة التربية قبل أعوام قليلة نبذة عن الرحلة في كتاب اللغة الإنجليزية للصف الثالث المتوسط.
ويؤكد الكاتب جمال الخرسان أن “رحلة هايردال على رغم أهميتها العلمية وشهرتها العالمية لم تنل الاهتمام الذي تستحقه على المستوى المحلي”، معتبراً أن “من الضروري إقامة نصب في موقع بناء القارب يخلد ذكرى الرحلة، أو على الأقل وضع لافتة أو علامة دلالة، ومن ثم يمكن أن تحويل الموقع إلى نقطة جذب سياحي”.
مشروع جديد
كان الفريق الدولي الذي رافق هايردال في رحلته يتألف من 10 أشخاص من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي وإيطاليا وألمانيا والدنمارك والنرويج واليابان، وكان الفنان والباحث رشاد سليم العراقي الوحيد ضمن الفريق، وبعد استقراره في بريطانيا لأعوام كثيرة عاد أخيراً إلى البصرة لتنفيذ مشروع جديد بإلهام من تلك الرحلة، ويقضي المشروع بإحياء التاريخ والتراث الملاحي في جنوب العراق من خلال تصميم وصناعة قوارب مشابهة للقوارب التي كان يستخدمها سكان وادي الرافدين قديماً.
ويوضح رشاد سليم لـ “اندبندنت عربية” أن “القارب دجلة الذي أبحرنا به مع هايردال مسترشدين بالنجوم لم يكن سومرياً تماماً، لأن السومريين كانوا يبحرون بقواربهم إلى عُمان لجلب النحاس من جبالها إلى وادي الرافدين، بينما القارب دجلة لم يكن مجوفاً حتى يحتمل نقل حمولات ثقيلة كالنحاس”.
وأضاف أن “مشروعنا الجديد يتضمن صناعة قوارب نهرية ذات تصاميم سومرية دقيقة، فضلاً عن قوارب تراثية كان استخدامها شائعاً في أنهار وأهوار جنوب العراق لغاية قبل عقود قليلة، ومنها ’البلم العشاري، الذي انقرض من أنهار البصرة”.
وبحسب نائب محافظ البصرة ضرغام الأجودي فإن “رحلة هايردال تبقى جديرة بالاهتمام على رغم مرور 45 عاماً عليها، وهي تستحق أن تخلد ثقافياً وأن تستثمر سياحياً”.
وخلال لقاء الأجودي برشاد اقترح عليه درس إمكان صناعة قارب شراعي بمواصفات سومرية متقنة، والإبحار به من العراق إلى مصر امتداداً واستكمالاً للرحلة الأولى التي انتهت عند سواحل جيبوتي، وأبدى رشاد الذي غادر البصرة شاباً وعاد لها شيخاً ترحيبه بالمقترح.