حرية – (24/12/2022)
لا تخلو طفولة أحد من متابعته وتعلقه بشخصية كرتونية من تلك الشخصيات التي لطالما تساءل كثيرون عن حقيقة وجودها، وكيف أصبحت كائناً يضج بالحياة ويعبر عن مشاعره بحركات وجه بدائية، وكانت الإجابة حينها أنه رسم ثنائي الأبعاد ويتحرك انطلاقاً من مبدأ سينمائي عبر تصوير 24 صورة في الثانية مما يخلق حركة.
هذا في العالم ثنائي الأبعاد، أما اليوم في عالم ثلاثي الأبعاد فيبدو كل شيء حقيقياً من خلال الذكاء الاصطناعي الذي يخلق عالماً كاملاً موازياً لعالم البشر في الشكل، لكنه يتفوق عليه بصفة الخلود والقدرة على تخطي الحدود التي يرزح البشر تحت نيرها، مثل المشاعر التي تتحكم بهم والأفكار التي تقودهم بدلاً من أن يقودوها، والسعي إلى الكمال والمثالية.
التقنيات الحديثة اليوم تعمل على خلق إنسان افتراضي وليس فقط روبوتاً كاملاً له وجه وجسد بشري يضحك ويعبر ويغني ويرقص، ويجري لقاءات صحافية مثل فرقة الـ”كي بوب” الكورية “إنترنتي” المؤلفة من 11 فتاة افتراضية، صنعتهم شركة “pules9” المتخصصة في التعلم العميق، وذلك عبر تقنية تسمى الديب فيك “Deep Fake”، وقد حققت هذه الفرقة منذ انطلاقها عام 2021 انتشاراً وشهرة واسعة في كوريا الجنوبية والعالم، إذ حصدت ملايين المشاهدات عبر الإنترنت وبدأت مسيرتها بأغنية I am real “أنا حقيقية”.
وعن هذه الفرقة تحدثت المديرة التنفيذية للشركة التي ابتكرت “إنترنتي” بارك جيون قائلة، “عملنا في (إنترنتي) جديد، فبينما يواجه فنانو البوب قيود العالم الحقيقي ويعيشون تحت الضغط والتوتر النفسي لأنهم بشر، يحظى فنانونا بمزايا كونهم افتراضيين، فهم أحرار من كل تلك القيود مثل الفضائح التي ترافق الفنانين وتهدد عملهم، ومن المهم إزالة هذا الخطر عنهم”.
الـ”ديب فيك”
التزييف العميق هو نوع جديد من برامج تعديل الصور والفيديوهات يتماشى مع التقدم التقني المتسارع لهذا العصر عبر نموذج حسابي يمكن الحواسيب من فهم المكونات البدائية للغات ويؤهلها لأداء المهمات المختلفة اعتماداً على الاستنتاج المنطقي، ومع زيادة حجم المعلومات تزداد قدرة الحاسوب على التعلم والإنتاج.
ومن طريق التعلم العميق أصبح نظام “جارفيس وتنسنر فلو” قادراً على التحكم في منزلك أو سيارتك ومعرفة الأشخاص وتمييز الأصوات والانفعالات، ومن خلاله كذلك أصبح بإمكان أي شخص أن يصدر أفلاماً ووثائق وصوراً وتسجيلات لم تحدث، ويعد هذا الأمر ثورة خلاقة لصناعة السينما والخدع البصرية وما اصطلح على تسميته بـ “الدبلجة المرئية”، إذ تتغير الصورة المرئية للأداء الأصلي بإذ تتماشى حركات شفاه الممثل مع الصوت المترجم مثلما نرى في فيلم “Flawless”.
وهذه هي التقنية التي اعتمدتها شركة pulse9 لخلق نجمات فرقة “إنترنتي” الافتراضيين، إذ يعتمد التعلم العميق على الشبكات العصبية الاصطناعية (ANNs)، ويتم تعزيز خوارزمية الذكاء الاصطناعي المستخدمة لإنشاء التزييف العميق من خلال شبكات الخصومة التوليدية (GANs) التي تحتوي في هذه الحال على شبكتين عصبيتين تعملان جنباً إلى جنب، أحدهما “مولد” ينشئ الصور والآخر “مميز” يحدد مدى ظهورها الحقيقي أو المزيف.
وبمجرد تحليل مجموعة البيانات على طبقات متعددة حيث ينشأ الجزء “العميق” من الاسم، يمكن بعد ذلك استخراجها لتطبيقها على وسائط أخرى.
وأنتجت شركة pulse9 في البداية 101 وجهاً متخيلاً، وقسمت المجموعة إلى أربع فئات وفقاً لنوع السحر والجاذبية لمغني البوب، لطيف ومثير وبريء وذكي، وطلب من المعجبين التصويت على الوجوه المفضلة لديهم ثم بدأ المصممون في الشركة بالعمل على تحريك الشخصيات الفائزة وفقاً لتفضيلات المعجبين.
ولجأت الشركة إلى التعاقد مع مطربات وممثلات وراقصات مجهولات، إذ يتم عرض وجوه النجمات الافتراضيات على أجسادهن أثناء الدردشات المباشرة ومقاطع الفيديو واللقاءات مع المعجبين عبر الإنترنت.
ومع انتشار تقنية التزييف العميق كانت هناك مخاوف من إمكان استخدامها للتلاعب بصور الأشخاص من دون إذن، أو في إنتاج معلومات خطرة مضللة.
الـ”كي بوب” الواقعي
وانتشرت موسيقى البوب الكورية في كل أنحاء العالم وصارت قوة تقدر بمليارات الدولارات على امتداد العقد الماضي، وذلك مع نغماتها الجذابة وإنتاجها المتطور وأنماط الرقص الخاصة بها، وتحولت هذه الموسيقى إلى أحد أكثر الصادرات الكورية ربحاً وتأثيراً حول العالم.
وفي عالم موسيقى الـ”كي بوب” يتم خلق الفرق الموسيقية بالكامل من الصفر، من طريق عملية طويلة ومكثفة من التدريب والإعداد، إذ يكون كل شيء ممتازاً منذ أول لحظة لظهور المجموعة الموسيقية على العلن.
ويعرف أعضاء فرق الـ”كي بوب” باسم Idols، ويخضع هؤلاء إلى تدريب مكثف وشاق يشمل بعض العمليات التجميلية حتى يصبح جميع أعضاء الفريق متناغمين معاً ومتجانسين.
وعلى عكس قطاع الموسيقى في العالم الغربي حيث تتهافت شركات الإنتاج الموسيقي على الفنان بعد إحرازه بعض الشهرة، يتقدم الأشخاص الذين يحلمون بأن يصبحوا نجوم “كي بوب” إلى تجارب الأداء التي تقدمها شركات الإنتاج الموسيقي في كوريا الجنوبية، وإن تم اختيارهم فيتدربون لأشهر أو سنوات قبل أن يبدأوا بالأداء.
ويرى الخبراء أن فن “البوب” حفز الاقتصاد الكوري بالتأكيد وشجع السياحة، إذ يسافر محبو هذا الفن من جميع أنحاء العالم إلى كوريا لحضور الحفلات الموسيقية وتجربة الثقافة الكورية مباشرة.
لكن يتساءل أحدهم عن هذه الصناعة البراقة القائمة على أن كل شيء مثالي إن كانت هي كذلك خلف الكواليس؟ وهل صناعة نجوم افتراضيين لها هو أفضل مما يواجهه المتدرب الذي ينشد النجومية؟
التحرر من العبودية
صناعة “البوب” في كوريا الجنوبية حساسة للغاية بخاصة لما يريده الجمهور، إضافة إلى نجاحها وسعة انتشارها التي أغدقت على الشركات المنتجة لها أموالاً طائلة، لكن خلف الاهتمام بهذه الصناعة عقود احتكار بشرية أوصلت بعض الفنانات مثل سولي إلى الانتحار، إذ يستغرق الأمر ليصبح المتدرب نجم “كي بوب” سنوات عدة من العمل الجاد والتفاني قبل أن تتاح له الفرصة الظهور للمرة الأولى، فعديد من الشركات لديها مئات المتدربين للاختيار من بينهم، وإن لم يكن المتدرب جيداً بما فيه الكفاية فيمكنهم طرده من الشركة.
ويوقع المتدرب على عقد عُرف بالعبودية، وهو اتفاق يوقعه الفنان لكي يصبح عضواً في فرقة ما وليكون “آيدول”، وفي المقابل تصبح الشركة أو الوكالة مسؤولة عن كل شيء يخصه من وزنه وطعامه وملابسه وشعره، وحتى التحكم في حياته الشخصية مثل اختيار أصدقائه ومع من يتحدث لتصبح حياته ملكها بالكامل، وليس لدى الفنان أية فرصة للاعتراض لأنه وقع بإرادته على العقد الذي يعطيها الحق في كل هذا.
وإضافة إلى أن حياته تكون مفتوحة على مصراعيها أمام الجمهور، والأهم أنه يظل رهينة العقد الذي وقعه ولا يستطيع الحصول على المال إلا بعد سداد كل ديونه للشركة التي وقع معها، وهذا العقد يعتبر سبباً أساسياً للحال النفسية الضاغطة التي يتعرض لها نجم الـ “كي بوب”، ويعتقد أن سول قررت الانتحار للتخلص من هذا الضغط والقيد الذي وجدت نفسها فيه.
ومع وجود نجوم افتراضيين لهذا النوع الموسيقي القائم على شروط قاسية، ألغى التعامل مع العنصر البشري وتبدلاته ومشاعره واتجه إلى التعامل مع آلة تنتج لهم ما يشبههم، لكن هناك بعض النجوم البوب المتخوفين من أن يأخذ هؤلاء الافتراضيون مكانهم كنجوم بشر، وهذا ما صرحت به المغنية هان هيون قائلة، “أنا قلقة بعض الشيء، فبالنسبة إلى نجوم البوب البشريين في هذه الصناعة التي تدر مليارات الدولارات فالأخطار عالية والتدريب مكثف، وأنا أتدرب أكثر من 12 ساعة بالمجمل، لكن إن وجدت نفسك غير جيد بما فيه الكفاية فسينتهي بك الأمر للعمل بجهد أكبر، وفي آخر كل شهر يتم تقييمنا وإن لم تقدم عرضاً جيداً فقد يكون عليك المغادرة فوراً”.
كشف الافتراضيين
الأصوات الموجودة في فرقة “إنترنتي” هي أصوات حقيقية وليست خاصة بالذكاء الاصطناعي، إذ تقول الشركة إن هذه الثغرة تحتاج إلى العمل عليها، والأهم أنه ببعض الملاحظة يستطيع المشاهد الانتباه إلى أن حركة فم النجوم الافتراضيين غير طبيعية ولا تتماشى مع الكلمات معظم الوقت، ولذلك فقد تم التوجه إلى صنع فيديو كليب قائم على الحركات والنقلات السريعة لتلافي التركيز على هذه النقطة.
ويستطيع الملاحظ أيضاً أن يدرك أن شيئاً ما في وجه الشخص يظهر بطريقة غير متناسقة، وعليه يشير الشعور بهذه الطريقة أثناء مشاهدة مقطع فيديو إلى أنه تزييف عميق.
ومع ذلك ففي هذه الأيام لا يكون اكتشاف التزييف العميق واضحاً دائماً، فقد أصبح البرنامج أكثر تقدماً من أي وقت مضى، لذلك أصبح من الصعب التعرف عليه.