حرية – (24/12/2022)
“أنا طفل أبيض، شاحب، مشبوه، صامت، ومنعزل، غالبًا ما كنت أقف في الزوايا، معلّقًا بلا حراك”
فرناندو غونزاليس
ظلت حياة فرناندو غونزاليس مليئة بالحوادث الطريفة التي تعكس شخصيته الحقيقية والصريحة، وكان عمله يعكس أيضًا هذه الروح، فأراد أن يصنع فلسفة تشمل جوهر أمريكا اللاتينية وتنتقد القوى العظمى في القارة.
فرناندو غونزاليس، المعروف شعبيًا بفيلسوف أوترابارت Otraparte (الجزء الآخر) أو ساحر أوترابارت، يعتبر واحدًا من أكثر المفكرين الأصليين في عصره، فقد ترك عمله بصمة فريدة لا علاقة لها بما كتب في ذلك الوقت، فيما كان المفكر نفسه في جوهره نموذجًا حيًا للعبقرية.
في عام 1955 اقترح الكاتب ثورنتون وايلدر والفيلسوف جان بول سارتر أن يتم اختياره لجائزة نوبل في الأدب، لكن رد الفعل كان فظيعًا بين النخب الكولومبية التي عملت كل شيء لمنع تحقيق ذلك، والحقيقة هي أنّ فرناندو غونزاليس كان يزعج الكثيرين بسبب صراحته الفلكلورية وفكره الشمولي.
من أقوال فرناندو غونزاليس الشهيرة: “كل إنسان يعيش مغامرات رائعة، حتى لو كان محبوسًا في غرفة طولها عشرة أمتار، لأن حجم الأحداث الفردية يقاس بتأثيرها على الروح”.
ووفقًا لتقرير نشره موقع nospensees في صفحته الثقافية قبل أسبوع، كان فرناندو غونزاليس من صنف الرجال الذين تم رفضهم في العديد من المواقع، وتم طرده من مدرسته الابتدائية والثانوية، كما رفضته الكنيسة، وتم حظر أحد أعماله باعتباره “خطيئة مميتة”.
وكاد يفشل في التخرج من الكلية لأن أطروحة تخرجه، وعنوانها “الحق في عدم الانصياع”، اعتبِرت غير مناسبة. كما طرده الفاشيون من إيطاليا.
فرناندو غونزاليس “طفل قليل النزاهة”
هكذا عَرّف فرناندو غونزاليس نفسه بأنه “طفل أبيض، شاحب، مشبوه، صامت، ومنعزل، غالبًا ما كنت أقف في الزوايا، معلّقًا بلا حراك”. ولد في إنفيغادو، وهي بلدة كولومبية، في 24 نيسان/ أبريل 1895، وكان الثاني من بين سبعة أشقاء، وكان والده مدّرسًا، ووالدته ربة منزل.
قضى السنوات الدراسية الأولى في مدرسة الراهبات، لكنه سرعان ما طُرد منها، بعد هذا الحدث تم إرساله إلى مدرسة داخلية بمدرسة “كوليغيو سان اجناسيو دي ميديلين”.
لم يكن يفصله سوى عام واحد عن تخرجه من المدرسة الثانوية حين تم طرده، السبب؟ كتابه: “اقرأ فريدريك نيتشه واسأل عن تعاليم دينية معينة”.
بعد طرده قضى فرناندو غونزاليس عدة سنوات يتجول، بلا وجهة، بلا هدف، بلا اتجاه. لكنه كتب كل ما لاحظه وقرأه بنهم شديد، باختصار كان يفكر ويكتب، بالإضافة إلى التحدث والمجادلة مع فئة معينة من أصدقاء المجتمع.
تؤرخ هذه الفترة أوّل عمل أنجزه وعنوانه “خواطر رجل عجوز”، وبعد نشر هذا المقال أنهى دراسته وحصل على شهادة، ثم التحق بعد ذلك بدراسة الفلسفة، على الرغم من أنه اختار في نهاية المطاف دراسة القانون.
بيروقراطي مسافر
على غرار العديد من المثقفين الآخرين في التاريخ كان فرناندو غونزاليس أيضًا بيروقراطيًا، في البداية عمل كضابط عدالة، وبالتالي سافر عبر عدد كبير من المدن في كولومبيا.
تم تعيين فرناندو غونزاليس قنصلاً لكولومبيا في جنوى بإيطاليا. ومع ذلك في العام التالي عثرت السلطات الفاشية على دفاتر تحتوي على انتقادات شديدة لموسوليني، وهكذا تم طرده من البلاد
من هذه التجربة ولد عملُه “حلة على الأقدام” Viaje a Pie (1929)، وهو الكتاب الذي انتقد فيه بشدة الكنيسة والسلطة. في ذلك الوقت كان عمله يعتبر آثامًا وفضيحة.
على الرغم من أنه كان عاملاً ذا دخل متواضع فقد أتيحت له الفرصة لمقابلة ابنة الرئيس السابق لكولومبيا، مارغريتا ريستريبو، التي وقع في حبها بسبب جاذبيتها ونضارتها.
ورغم المعارضة تزوجا وظلا معًا طوال حياتهما. أصبحت زوجته أشد نقاد عمله، وقد تعلم الاعتماد عليها بطريقة شبه صبيانية.
بفضل صلته بالرئيس السابق استطاع فرناندو غونزاليس البدء في شغل المناصب الدبلوماسية. في عام 1932 تم تعيينه قنصلاً لكولومبيا في جنوى (إيطاليا). ومع ذلك في العام التالي عثرت السلطات الفاشية على دفاتر تحتوي على انتقادات شديدة لموسوليني، وهكذا تم طرده من البلاد.
أوترابارت (الجزء الآخر) تراث ثمين
عاش فرناندو غونزاليس في بلدان عديدة، لكنه كان دائمًا يجد طريقة للعودة إلى “وطنه”، بفضل مزاد بنكي حصل على منزل جميل أطلق عليه اسم أوترابارت (وتعني الجزء الآخر) Otraparte.
ويقال إنه عند المدخل وضع لافتة باللغة اللاتينية نصها: Lave canes seu Domus Dominum وتعني: “اغسلوا الكلاب أو اغسلوا الكلاب أو رب البيت”. في هذا المنزل أنتج غونزاليس العديد من كتاباته المهمة.
من قلب منزله أوترابارت (الجزء الآخر) بدأ غونزاليس في إلهام حركة أدبية كان لها فيما بعد صدى واسع: فلسفة العدم nadaísmo، المئات من الحكايات والنوادر عن حياته وكيف واجه نفاق عصره.
يشار إلى أنه توفي متأثرًا بتجلط الدم في 16 شباط/ فبراير 1964، وبعد مرور تسع سنوات على وفاته تم تدنيس قبره، إذ يبدو أنّ مجموعة من الشباب تسللوا إلى المقبرة وسرقوا جمجمته.
وبعد فترة طويلة تَبيّن أنّ الجمجمة كانت مجزأة إلى عدة أجزاء وأنه في النهاية تم استغلال وفاة مارغريتا، أرملته، لدفنه معها.
ولا يزال عمل فرناندو غونزاليس قيد الدراسة حتى الآن.