حرية – (29/12/2022)
هناك طرق كثيرة لتسويق وبيع حقيبة يد، وإحدى هذه الطرق قد تتمثل في التعاون مع نجم (ـة) من النجوم الكبار وتصوير مشاهد ترويجية في الصحراء، أو إن كان الطرف المسوّق هو دار “بالنسياغا” فيمكن تحضير أزياء وأكسسوارات من نمط الـ “بونديدج” [bondage التي تستحضر الثقافة السادو- مازوشية ومتعة التعذيب] وإلباسها لأطفال.
دار الأزياء الإسبانية الفاخرة هذه قامت بذلك فعلاً الأسبوع الماضي عبر نشر صورتين لعارضتي أزياء من الأطفال تحملان فيهما حقيبة يد فاخرة أنتجتها على شكل دب، وقد صممت الصورتان كي تبدو الطفلتين فيهما مثل لعبتين، إلا أنهما بدتا بالأزياء المصنوعة من الجلد والأكسسوارات التي ارتدتاها والمستلهمة من ثقافة الـ “بي دي أس أم” (BDSM)، معبرتين عن الثقافة المذكورة.
وقد جرى على الفور اتهام الدار باستغلال الأطفال جنسياً، لكن الموقع الإلكتروني لـ “بالنسياغا” لم يبال كما لو أن الاتهام الذي وجه إلى الشركة ليس مهماً، فنشر صورة أخرى مثيرة للجدل من حملة إعلانية منفصلة تروج لشراكة “بالنسياغا” الأحدث مع “أديداس”، وقد ضمت الصورة الأخيرة حقيبة يد وضعت فوق أوراق لا تظهر بوضوح، غير أن هذه الأوراق لم تكن سوى وثيقة صادرة من المحكمة العليا الأميركية تمثل حكماً متعلقاً بصور فاضحة لأطفال.
وجرى على الأثر نشر تغريدة انتشرت على نحو واسع سلطت الضوء على الصورتين المذكورتين، واندلع السجال فدعا أشخاص إلى مقاطعة دار الأزياء المعنية، فيما ظهر أشخاص آخرون (على وسائط التواصل الاجتماعي) وهم يحرقون ما لديهم من منتجات “بالنسياغا”، كما أن المصور الذي التقط صور دب الـ “بي دي أس أم” أصدر بياناً تبرأ فيه من علاقته مع “بالنسياغا”. كذلك قام مشاهير آخرون باتخاذ بعض الخطوات، فحذفت بيلا حديد من “إنستغرام” صوراً لها ترتدي فيها تصميمات الدار، وقالت كيم كارداشيان التي ارتدت بانتظام خلال الأشهر الماضية تصاميم من “بالنسياغا” إنها “تعيد تقييم” علاقتها مع هذه الدار.
أما بالنسبة إلى “بالنسياغا” نفسها فقد قامت بحذف الصور التي أثارت السجال واعتذرت مصدرة بياناً شددت فيه على إدانة سوء معاملة الأطفال، وعزت ظهور الصور إلى “سلسلة من الأخطاء الجسيمة”.
لقد جرى في الواقع إدانة كل ما يستحق الإدانة، لكن خلف السجال والانتقادات التي ظهرت ما هو أعمق وموجود بالفعل ويسهم في طرح مزيد من التساؤلات تجاه مبدأ المسؤولية وتجاه ما يدفع المستهلكين إلى شراء سلعة ما. ولأن غاية تلك الحملات (الترويجية) في الأصل تتمثل في بيع السلع، فإن الشركات الكبرى على الدوام حين يخمد الضجيج وتعلق الانتقادات تعاود تحقيق نجاحاتها وتتابع بيع سلعها ومنتجاتها، فتذهب الانتقادات والسجالات سدى.
وفي السياق علينا أن نأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن ما حصل ليس سوى واقعة أحدث ضمن سلسلة طويلة من الفضائح التي عصفت بدور أزياء كبرى وأساسية، والمثال الأوضح ضمن سلسلة الفضائح يتمثل بما حصل ما دار “دولتشي أند غابانا” الماركة الإيطالية التي وجدت نفسها طوال أعوام وسط موجة سجالات تناولت مسائل عنصرية وقضايا رهاب المثلية وكره النساء، ففي سنة 2018 ظهر ذاك الفيديو الذي صور عارضة صينية تحاول تناول الطعام الإيطالي بواسطة عيدان الأكل (نشرت الشركة على الأثر فيديو آخر يعتذر من الصين)، أما الملاحظات عن الحركات الساخرة (الواردة في الفيديو) فإن ستيفانو غابانا، الشريك في تأسيس هذه الماركة الشهيرة، استهدف بها سيلينا غوميز، وقد أشار إلى “رقة وروعة” ما بذله المدربون (خلال تصوير الفيديو) في الهوامش، وهكذا.
المهم أن الشركة استمرت، وفي شهر أغسطس (آب) 2021 استضافت “دولتشي أند غابانا” سلسلة من العروض الباذخة قدمت فيها جينيفر لوبيز ودوجا كات وديدي، ومنذ ذلك الحين لم تغب تصاميم الشركة عن أغلفة المجلات مع مجموعات ارتدتها عارضات أمثال كيا غيربر وسارا جيسيكا باركر وكايت هادسون وجينيفر هادسون.
وفي شهر مايو (أيار) قدمت هذه الدار عملياً رعاية كاملة لحفل زفاف كورتني كارداشيان، وذلك كله دفع الناس إلى التساؤل: لماذا لا يقدر أحد على إلغاء “دولتشي أند غابانا”.
لكن إذا حولنا انتباهنا إلى ماركات فاخرة أخرى فإن الجواب على هذا التساؤل قد يغدو واضحاً، فـ “غوتشي” مثلاً واجهت عدداً لا يحصى من الفضائح خلال السنوات الماضية، فقد اُتهمت الشركة المذكورة في سنة 2019 باعتماد “الوجه الأسود” بعد إطلاقها قميص “بولو” مع ياقة بسعر 890 دولاراً (740 جنيهاً استرلينياً) وعليه شفاه حمراء كبيرة. اعتذرت “غوتشي” على الأثر وأعلنت خططاً لإدخال “التنوع والوعي الثقافي في أجوائها”، ولاحقاً في السنة ذاتها أطلقت الدار سلسلة من الأزياء البيضاء تضم سترات طويلة تصل إلى الأرض، وقد اعترضت إحدى العارضات على فكرة الموضوع هذه فكتبت على راحة يدها “الحالات النفسية ليست موضة” [لأن السترات البيضاء تذكر بالأطباء النفسيين]، ولم تباع تلك السترات في المتاجر أبداً.
كذلك اتهمت الدار بالسطو الثقافي عندما باعت عمائم صممتها بسعر 790 دولاراً (657 جنيهاً استرلينياً).
“غوتشي” قد تكون اعتذرت إزاء جميع هذه الوقائع، وقد استقال في الآونة الأخيرة مديرها الإبداعي المعروف أليساندرو ميشيل لكنها تستمر بالازدهار، إذ أطلقت أخيراً شراكة مهمة مع “هاري ستايلز” و”أديداس”، كما أن أزياءها تُرتدى باستمرار على السجادات الحمراء وأغلفة المجلات، وقد اعتبرت مجلة “فوغ فرانس” في وقت سابق من هذا العام أن “غوتشي” تمثل “الماركة الأكثر تأثيراً في العالم سنة 2022”.
وفي الإطار عينه، وبحال اعتقدتم أن المسألة تتعلق فقط بشركات الموضة الأوروبية، فانظروا إلى “بربيري” (Burberry) التي واجهت إدانة سنة 2019 إثر إطلاقها “هودي” (كنزة مع قلنسوة) بنية اللون ضمن مجموعتها لموسم خريف وشتاء ذاك العام، تحوي رباطات أشبه بحبال تتدلى حول العنق. “الانتحار ليس موضة” كتبت عارضة الأزياء ليز كينيدي التي شاركت آنذاك في عرض “بربيري” لإطلاق المجموعة.
على أن الشركة عادت وسحبت تلك الـ “هودي” من مجموعتها واعتذرت، معترفة بأن التصميم كان “عديم الإحساس” وأن الشركة ارتكبت خطأً. وفي يناير (كانون الثاني) 2022 توقعت “بربيري” تحقيق ارتفاع في أرباحها السنوية بمعدل 35 في المئة، كما أن عروض أزيائها الأحدث تحظى بتأييد كل من بيلا حديد وناومي كامبل وكايت موس.
لكن لنعد إلى “بالنسياغا”، فالمفارقة أن الأمور المثيرة للجدل ليست أمراً غير مألوف لدى الشركة، إذ جرى اتهامها خلال السنة الفائتة وحدها بشتى أنواع الاتهامات، من “الاستيلاء الثقافي” إلى “إعادة تأهيل الباهت والمترهل”، فقد اُتهمت في شهر مايو (أيار) بتلميع الفقر عبر إطلاقها حذاء رياضياً شديد الترهل (معتقاً بدرجة كبيرة) بسعر 1290 جنيهاً استرلينياً، ثم جاءت بعد ذلك سلسلة من المناسبات أعقب كل واحدة منها فضيحة. وبعد كل سجال كانت الشركة تسارع إلى الاعتذار ثم تكمل ازدهارها أو ترتكب خطأً آخر يستدعي اعتذاراً جديداً حتى بات ينبغي التساؤل: مع استمرار شركات الموضة بتجاهل مسألة التعلم من الأخطاء، متى تبلغ هذه الأخيرة الحد الذي لا تعود هي نفسها خطأً؟
كايلي جينر وكلوي كارداشيان في عرض ” بالنسياغا إس إس 23″ في باريس
بالنظر إلى حجم “بالنسياغا” كشركة يبدو غريباً الزعم، كما فعلت إدارتها، أن وثائق المحكمة هذه ظهرت في الصور الإعلانية من دون انتباههم وعلمهم، أو أن إقحامها الأطفال في صور حقائب الدببة الفخمة لم يكن إلا خطاً بسيطاً، فهي بالنهاية شركة موضة كبرى مملوكة من قبل شركة “كيرينغ” رائدة بيع التجزئة التي تملك أيضاً “غوتشي” وعدداً آخر من العلامات التجارية، مثل “ألكسندر ماكوين” و”سان لوران” و”بوتيغا فينيتا”، لذا فإن حملات “بالنسياغا” الترويجية ستحتاج إلى أن يجري التدقيق بها من قبل عدد من المسؤولين التنفيذين قبل إطلاقها، ومن أجل هذا تعقد الاجتماعات ويجري إعداد المسودات والمصادقة عليها، فكيف يمكن أن يمر كل هذا على مسؤولي الشركة من دون أن ينتبه أحد منهم ويطلب توضيح الصلة بين حقيبة يد ابتكرها مصمم وبين وثائق قضائية تتعلق بسوء معاملة الأطفال؟
مصمم المجموعة خلال جلسة تصوير لـ “أديداس” أعلن سلفاً، على سبيل المثال، أن ممثلين عن “بالنسياغا” كانوا موجودين خلال عملية التصوير و”أشرفوا [عليها] وتولوا أمر الأوراق وغيرها من الأشياء”.
إلا أن المسألة المهمة هنا تتمثل في أن الشركات، وخلال جميع الفضائح المذكورة أعلاه، غالباً ما تظاهرت بالجهل، أو يمكن القول إنهم ألقوا باللوم على آخرين فادعوا أن هناك أمراً خلال عملية الإنتاج نفذ على نحو رديء وأدى إلى حصول الخطأ، وليس من المصادفة أن تكون “بالنسياغا” الآن رفعت دعوى قضائية بقيمة 25 مليون دولار (20 مليون جنيه استرليني) ضد شركة الإنتاج التي نفذت التصوير لـ “أديداس”، كما ليس من المصادفة أيضاً صدور هذا الموقف المبهم من كارداشيان ضمن بيانها عقب الفضيحة، إذ لم تستبعد في البيان العمل مجدداً مع الشركة، بل التزمت فقط بـ “إعادة تقييم” علاقتها معها.
“بالنسياغا” الآن من دون شك في موقع تواجه فيه عواقب أفعالها، حتى إنها حذفت كل منشوراتها على “إنستغرام” ما عدا المنشور الذي يحوي بيانها الرسمي، لكن السؤال الذي يبقى هو إلى أي حد يمكن لهذا الصمت الاستمرار؟ وكذلك فهل من ينتقدون الشركة على الإنترنت هم تلك الفئة القليلة من الناس الذين ينفقون آلاف الجنيهات لشراء ألبسة وتصاميم “بالنسياغا”؟
التاريخ ينفي ذلك، لكن حتى لو كان المنتقدون من تلك الفئة فإنهم لن يهتموا لمسألة استمرار الصمت.
والحقيقة هي أننا لن نعرف أبداً ما حصل ولن نعرف سبب اقتراف “بالنسياغا” وغيرها من شركات الموضة هذه “الاخطاء الفادحة”، بيد أن ما نعرفه يتمثل في أن الأشخاص الذين يديرون تلك الشركات ليسوا حمقى، ويمكنكم أن تلقوا نظرة واحدة اليوم على وسائط التواصل الاجتماعي، وخلال دقائق سيكون هناك احتمال أن تقعوا على نقاش يتناول “بالنسياغا”، فحتى أولئك الذين لا يعرفون شيئاً عن الموضة من المرجح أنهم باتوا الآن على معرفة بـ “بالنسياغا”.
استمرار اقتراف الشركات الأخطاء ربما يعود لأنها تريد ذلك، ففي المشهد العام الراهن المهووس بوسائط التواصل الاجتماعي، تبقى الفضائح طريقة للحفاظ على الحضور الثقافي، فالفضائح تقود إلى النقاش، والأمر لا يهم إن كان هذا النقاش إيجابياً أو سلبياً لأن الناس يتحدثون ويتداولون بموضوع النقاش في السلب والإيجاب، وبالنسبة إلى “بالنسياغا” فالزمن وحده كفيل بإخبارنا إن كانت هذه الفضيحة خطوة نحو النهاية أم أنها تعبير عن حملة تسويق في غاية النجاح.