حرية – (31/12/2022)
فنانون من كافة بقاع الأرض رسموا أيقونات ونحتوا تماثيل للعذراء والمسيح كل برؤيته الفنية ووجهة نظره، وربما ما يحب ويتمني أن يكون عليه شكلهما، فصبغوا الأم والطفل بالصبغة المحلية وألبسوهم الزى الشعبي لبلدهم وأعطوهم الملامح السائدة في المنطقة التي يعيشوا فيها. فعل هذا الفنانون بدافع التقرب إلى العذراء التي أجمعوا على محبتها وحاولوا نسبها إليهم لتكون في ملامح وملابس نساء بلدتهم.
ظهرت العذراء والمسيح بملامح آسيوية وأفريقية وأوروبية وألبسها الفنانون في اللوحات والمنحوتات الأزياء الشعبية من كافة بلاد العالم وتباروا على مدار السنوات في تصويرها بأشكال مختلفة تمثل فكرة أن الفن هو ابن بيئته، وأن الطابع المحلى للفنون المستوحي من التراث والثقافة الشعبية هو دائما الأقرب إلى قلوب الناس، خصوصاً البسطاء منهم الذين تمثل لهم العذراء وابنها شكلا صافيا من أشكال المحبة إلى جانب اعتبارها رمزا دينياً مقدساً.
كامرأة عاشت بالناصرة في أرض فلسطين، فعلى الأغلب حملت السيدة مريم العذراء صفات نساء الشرق وكانت ذات بشرة خمرية وشعر داكن، إلا أن كثيراً من الرسوم والأيقونات في الشرق ذاته تصور العذراء بملامح لا تتفق مع الطابع الشرقي السائد فنجدها شقراء ببشرة بيضاء وبملامح لا تشبه النساء التي من المفترض أنها عاشت بينهن.
الأمر ذاته فيما يتعلق برسوم المسيح سواء كان طفلاً أو شاباً فهو على الأغلب كان يشبه الشباب الشرقيين ولم يكن أشقر أو ذا بشرة بيضاء، ويمكن هنا الإشارة إلى أن الأمر لا يقتصر فقط على الرسوم والأيقونات وإنما على الأفلام السينمائية ذات الطابع الديني التي أنتجها الغرب وصورت المسيح بصورة انطبعت في أذهان شعوب العالم كشكل من أشكال الهيمنة الثقافية.
عرف كثير من لوحات العذراء والمسيح باسم مادونا والطفل
من أين جاءت الصورة الأولى؟
لا يمكن الجزم على وجه الدقة من أين جاءت الصورة الأولى للعذراء والمسيح ولكن هناك أكثر من رواية متداولة، أحدها أن القديس لوقا الذي اشتهر بأنه كان رساماً ماهراً هو من رسم الصورة الأولى للعذراء مريم وهي تحمل الطفل وتم تداولها بعد ذلك. رواية ثانية عن صورة المسيح وهي أن امرأة أعطته قطعة من القماش ليمسح عن وجهه الدماء التي سالت عن رأسه وهو يحمل الصليب فانطبعت ملامح وجهه عليها وتداولها الرسامون. بينما رواية ثالثة عن المرأة التي شفاها المسيح من نزيفها ورسمت صورة له على باب بيتها تداولها الناس. فيما يذكر بعض المؤرخين أوصافاً دقيقة للمسيح في وثيقة بيلاطس البنطي المرسلة لإمبراطور روما في ذلك الوقت والتي ورد فيها بالتفصيل ملامح وهيئة المسيح واستند إليها الرسامون.
الأمر لم يقتصر في تكوين صورة ذهنية متداولة للعذراء والمسيح فقط على شاشة السينما، بل يعود إلى مئات السنين إذ برع كبار فناني أوروبا في رسم لوحات للعذراء والمسيح أصبح بعضها على مر الزمن علامات مميزة انطبعت في أذهان الناس عن شكل العذراء والمسيح والذي بالطبع حمل الطابع الغربي.
لعل أشهر هذه الرسوم لوحة العشاء الأخير ولوحة عذراء الصخور لليوناردو دافينشي، ولوحة عذراء كنيسة سيستين لرافائيل. ومجموعة اللوحات المتنوعة التي تعرف باسم مادونا والطفل والتي رسم معظمها في خلال فترة عصر النهضة بأيدي رساميين غربيين.
عذراء لاغوس بالمكسيك
وعن إضفاء الطابع المحلى على أيقونات العذراء والمسيح تقول الأكاديمية المتخصصة في الآثار والفنون البيزنطية إنجي إسحاق لـ”اندبندنت عربية”، “في عام 1623 بقرية مكسيكية قدمت عائلة من فناني الأكروبات استعراضاً مثيراً وشاركت بالعرض طفلة في عمر السبع سنوات لتسقط الطفلة في أحد الاستعراضات على رؤوس خناجر مثبتة في الأرض أسفل حبال السيرك، حدث لها إصابات بالغة وفارقت الحياة. ذهبت الأسرة بالجثمان إلى كنيسة القرية للصلاة عليها، وهناك التقوا سيدة عجوز تدعى آنا لوسيا جاءت إلى أبويها بتمثال قديم للسيدة العذراء ملطخ بالأوساخ وطلبت منهما أن يصليا بإيمان طالبين معونة العذراء، تقول الرواية المحلية إن الصلوات أجيبت وبدلت دموع الحزن بفرح عظيم عندما عادت الطفلة إلى الحياة مرة أخرى”.
ظهرا العذراء والمسيح بملامح أوروبية وآسيوية وأفريقية رغم أنهما على الأغلب حملا الملامح الشرقية
تضيف الباحثة، “أراد والد الطفلة أن يعبر عن امتنانه لهذه المعجزة فقام بأخذ التمثال لترميمه فألبسه تاجاً بيزنطياً من الذهب الخالص وثياباً فاخرة مزخرفة بخيوط الذهب والأحجار الكريمة ثم أودعه بكنيسة القرية التي أصبحت هي والتمثال مقصداً لآلاف الحجاج حتى يومنا هذا وتعرف بعذراء سان خوان دي لوس لاغوس بالمكسيك، ولم يصور التمثال الصورة المألوفة للسيدة العذراء في فنون العالم المسيحي في القرون الأولى، بل اتخذ طابعاً محاكياً لطراز الأزياء الإسبانية مستوحى من البيئة المحلية وممزوج بصبغة تراث المكسيك الشعبي مستحضراً تصاوير إلهة القمر كويولسوكي، هكذا علقت هذه الصورة الشعبية في ذهن العامة وارتبطت بقوة شفاعة العذراء”.
العذراء بالصبغة المحلية
صور ومنحوتات متعددة للعذراء والمسيح رسمها الفنانون والهواة في كل أنحاء العالم وأيقونات شهيرة ضمتها أشهر الكنائس والأديرة في كافة بقاع الأرض إلا أن هناك بعض الرسوم تعد علامات عندما يشار إلى الرسوم المختلفة للعذراء والمسيح في البلدان المختلفة بخاصة عندما يتعلق الأمر بإضفاء الطابع المحلى والثقافة الشعبية على الرسوم. توضح إسحاق، “قدمت العذراء والمسيح بأشكال وأزياء مختلفة كانعكاس للتراث الشعبي المحلي في البلدان المختلفة فمثلا في فيتنام صوَّر المحليون العذراء التي رأوها خير معين وقت الهروب والاضطهاد كسيدة فيتنامية مرتدية الرداء الشعبي (آو داي) وهو يأخذ شكل فستان طويل مفتوح من الجانبين وهو زي لا يزال يتمتع بشعبية كبيرة بين نساء فيتنام. أما في الصين فقد صورت عذراء دونجلو- والتي حسب اعتقادهم أنقذتهم من الغزو في مطلع القرن العشرين ببشرة شاحبة ووجه مستدير وعيون صغيره مُرتدية الزي الشعبي الصيني”.
تضيف، “على النهج نفسه سار شعب رواندا عندما صوروا عذراء كيبيهو (سيدة الأحزان) كامرأة أفريقية ذات بشرة سوداء ورأس بيضاوي وملامح أفريقية مميزة، هكذا رأى كل شعب وعرق وثقافة مريم العذراء بعيون تراثهم الشعبي، آمنوا أنها عاشت بينهم وأنها تمثلهم وتشفع لهم وترفع صلواتهم وتحقق أمنياتهم، وبمرور الزمن ترسخت هذه المعتقدات بازدياد حركة الحج إلى مقاصير العذراء وبرواج قصص المعجزات في دول العالم المختلفة، هكذا لم تكن هذه التصاوير الشعبية ذات قيمة روحانية فقط بل باتت رموز الهوية القومية لمختلف الثقافات، لذا فلا عجب أن يصف المؤرخون شخصية العذراء مريم بأنها بانية جسور ممتدة بين مختلف التقاليد والحضارات والأديان”.
تمثال السيدة العذراء سيدة كيبيهو في رواندا
العذراء السوداء في أوروبا
رسمت مريم العذراء ببشرة سوداء في عديد من مدن أفريقيا حيث قدمها الرسامون بالزى الإفريقي والشعر المجعد وبالطبع البشرة السوداء مثل النساء الأفارقة، إلا أن الأمر لم يقتصر على الرسوم التي تصورها الرسامون الأفارقة فقط فقد ظهرت مريم العذراء ببشرة سوداء في قلب أوروبا حيث تسود البشرة البيضاء والشعر الأشقر وكانت أكثر الأسئلة التي شغلت مؤرخي الفنون بخصوص هذه النوعية من التصاوير هو “لماذا هي سوداء في قلب أوروبا وليس فقط في أفريقيا؟
ترى إسحاق، “في مدينة جنوب بولندا تدعى شيستوشوفا توجد أيقونة للسيدة العذراء ترجع إلى القرن الرابع عشر تصورها ببشرة سوداء، عُرفت باسم black Madonna أو (العذراء السوداء)، تمتعت هذه الأيقونة بشعبية واسعة عبر العصور حتى يومنا هذا حتى أصبحت أحد أهم المعالم السياحية في بولندا يتوافد إليها ما يقرب من 150 ألف من الحجاج سنوياً، ليس هذا هو المثال الوحيد لهذه النوعية من الرسوم، فقد صورة العذراء ببشرة سوداء على العديد من القطع الفنية في أوروبا الغربية وأميركا اللاتينية، لعل أشهر الأمثلة لهذا النوع من التصاوير هو عذراء جوادالوبي بالمكسيك وعذراء مونسيرات بإقليم كتالونيا بإسبانيا وعذراء ويلسدن بلندن بالمملكة المتحدة، ترجع ظاهرة بلاك مادونا أو مريم السوداء إلى القرون الوسطى حيث ظهرت بشكل كبير على التماثيل الحجرية والخشبية”.
ألبس الفنانون العذراء والمسيح أزياء بلدانهم لتحمل الطابع المحلي
توضح الباحثة، “تضاربت الآراء في تفسير هذه الظاهرة فالبعض رجح أن لون البشرة الأسود نتج عن تراكم الأبخرة المتصاعدة من الشموع الموقدة أمام الأيقونات والتماثيل عبر الزمن، بينما رأى فريق ثانٍ أنها تصوير فني بصري لآية شهيرة من سفر نشيد الإنشاد (أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، كخيام قيدار، كشقق سليمان. نش 1: 5)، وفقاً لهذه القراءة شبَّه فنانو القرون الوسطى العذراء مريم بعروس النشيد (شخصية خيالية ترمز للكنيسة كجماعة مؤمنين)، فهي سوداء كطبيعة النفس البشرية تشوبها الخطية ولكنها جميلة كستائر قصور سليمان جمالها ينبع من الداخل باتحادها بالله، فيما ذهب الأخير إلى أن لون البشرة السوداء للعذراء مستوحى من التصاوير الهللينية للآلهة الأم إلهة الأرض في إشارة إلى السيدة العذراء كرمز أسمى للأمومة “.