حرية – (31/12/2022)
يربط المواطنون بين الكذب والسياسة في معظم أنحاء العالم، وكشفت الاستفتاءات والإحصاءات والبحوث التي تجريها مؤسسات متخصصة بالترويج السياسي مثل العمل على حملات انتخابية أو ترويج شعار انتخابي معين أو برنامج سياسي بنقاط جذابة للمواطنين، أن معظم الشعوب في أنحاء العالم يربطون بين الكذب والسياسة وبين السياسي والطريقة التي يؤدي بها دوره كمروج لمشاريع وأفكار غالباً لا يحقق معظمها، ولو تولى الرئاسة لدورتين أو تولى قيادة البلاد لعقود.
لكن الإخلال بتنفيذ الوعود السياسية الكثيرة والخيالية في أكثرها لم يعد يثير إلا القليل من الاعتراض حول العالم، وبدأ علماء الاجتماع السياسي يلقون الضوء على هذه الظاهرة التي باتت شبه عامة، وصارت محاسبة السياسي الذي يخل بوعوده تكون عبر تجديد الثقة فيه لدى أنظمة كثيرة، أو الاعتراض على سياساته العامة من دون اتهامه بتحوير الحقائق وإطلاقه وعوداً يعرف أنه لن يتمكن من تحقيقها.
“الكذب” وجه من وجوه العمل السياسي
يرى الباحثون الاجتماعيون الأوروبيون أن خفوت الاعتراض العام العالمي عموماً ناتج من تكريس قواعد جديدة في العمل السياسي وعلى رأسها اعتبار الكذب أمراً عادياً يدخل في آلية العمل السياسي، وبرأيهم أن هناك كماً من القضايا والنزاعات والمشكلات العالمية والمحلية حول العالم يستدعي اعتراضاً أكبر من قبل مجموعات الضغط العالمية والأحزاب والنقابات والمنظمات الأممية والمجتمع المدني من الاعتراض الذي أشعل العالم منذ أواسط الستينيات خلال الثورتين الطلابيتين الأوروبية والأميركية اللتين امتدتا إلى أنحاء العالم فارضتين قواعد جديدة في إدارة الأمور، بعدما محت خطوطاً حمراً كثيرة كانت مكرسة حتى ذلك الحين.
وكانت حرب فيتنام شرارة هذه الثورة القصيرة ذات النتائج التي يتردد صداها حتى اليوم في التعليم والحريات الشخصية وأنواع من الموسيقى والفنون والملابس والمفاهيم الجديدة.
المؤشرات في بدايات العقد الثالث من هذا القرن تظهر تقاعساً في المحاسبة والاعتراض والمواجهة، خصوصاً مع أزمة التضخم الهائلة التي تضرب أرجاء العالم وتثقل كاهل المواطنين ومنهم أوروبيون في دول مصنفة من دول العالم الأول على مدى العقود الماضية، ولا يقتصر الأمر على ما يشبه الاستسلام للأقدار بل الصفح عن القضايا التي كان يدان بها السياسيون خلال القرن الـ 20، مثل الكذب السياسي الذي بات يعتبره كثر جزءاً من العمل السياسي وصفة يجب أن تكون في تلك الشخصية كي تحقق النجاح.
والسياسيون حول العالم وتحديداً في الأنظمة التي يحتاجون فيها إلى التأثير في الرأي العام وتوجيهه نحو مسار معين باتوا يتحضرون جيداً للأمر، فظهرت علوم تتناول الطرق التي يجب اتباعها للتأثير في رأي الجمهور، تبدأ من تعابير الوجه التي يظهرها السياسي أثناء إبدائه رأيه في مناظرة ما أو مؤتمر صحافي مهم، وقد يتطلب الموقف بعض القهقهة أو دموعاً في أحيان.
الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما وخلفه الرئيس دونالد ترمب معروفان بإتقانها آداء هذه الأدوار التعبيرية من خلال الوجه وحركات اليدين واختيار الكلمات الصحيحة وإطلاقها في اللحظة المناسبة، وهذا النوع من “التمثيل الدرامي”، كما يصفه باحثون اجتماعيون، يؤثر بشكل فعال في جمهور الناخبين المؤيدين أو المحايدين، وهو ما يجبر رجل السياسة على ارتداء قناع يناسب نوع التعاطف أو القبول الذي يريده من الشعب، فتصبح ملابس السياسي وكيفية نزوله من الطائرة وتوقيعه على اتفاق ما وبالطبع تغريدته التي يتابعها الملايين يومياً، كلها تفاصيل ذات أهمية كبيرة، بعدما باتت أية كلمة أو حركة أو موقف يصدر عن السياسي محل تفحص ومراقبة ومتابعة فريق معين من الفرقاء المتنافسين.
السياسي المبتدئ يتعلم من السياسي القديم
يكتب الباحث فيليب سيرجنت عن العلاقة العاطفية بين الكذب والسياسة فينصح السياسي المبتدئ والمخضرم قائلاً “عليك أولاً أن تكون ذا موهبة في اتخاذ مواقف إبداعية لإظهار الحقيقة، لذا لا بد من أن تتحدث طوال الوقت عن إنجازاتك الكثيرة الموعودة وعن قدرتك على تحقيقها، وعليك أن تقنعهم مرة جديدة بما أقنعتهم به في المرة الماضية، وإذا كنت في أول الرحلة في عالم الكذب السياسي فقل إنك ستنفذ وعود منافسك التي لم ينفذها، وهذه هي طبيعة اللعبة وهكذا كانت الأمور دائماً”.
ويعطي سيرجنت مثالاً لقدرة السياسي على تحوير الاتهامات الموجهة إليه لحرف الأنظار عنها عبر رد رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون على متهميه بأنه يرتكب أخطاء بالقول إنها مجرد “زلات”، وأكمل قائلاً “عندما يتهمك الناس فهذا يعني أن ما تفعله هو قول الحقيقة بقدر معين”.
وما قصده جونسون هو أن ما نعتبره قرارات خاطئة من الناحية الواقعية أو الأخلاقية إنما تستند إلى حقيقة أعمق من أن تباح للعموم، وكأنه يقول “ما نقوله غير ما نفعله”، وبحسب بعضهم “هذه هي الحقيقة على الأرجح التي يقولها جونسون”.
وللصدفة فإن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو كان قد نادى جونسون باسم بوريس يلتسين، وحين ضحك الصحافيون في مؤتمرهما الصحافي المشترك، صحح نتنياهو زلة لسانه “بكذبة” أيضاً، حين قال إنه كان يحاول التأكد من أن الصحافيين يتابعون كلامه جيداً، فضحك الجميع مرة جديدة لأن “العذر أقبح من الذنب”، بحسب الصحافيين الذين حضروا المؤتمر.
هذا المثال يظهر أن مشكلة العلاقة الحديثة بين السياسة والكذب تقوم على سلسلة من الكذبات التي تغطي كذبات سابقة، فالسياسيون يكذبون على الناخبين ثم يكذبون في شأن الكذب على الناخبين ثم يصدقون الكذبة التي يكذبونها بإعادة تعريف الكذب السياسي في كل مرة.
الباحث الزائر في “معهد بروكينغز” جوناثان راوخ يُرجع انتشار مثل هذه الخدع في السياسة المعاصرة إلى قبول الكذب السياسي واعتبار النفاق والكلام المزدوج من أدوات العمل السياسي.
وبرأي راوخ “نحن أيضاً نتصرف بطريقة السياسيين نفسها، إذ نقول لزوارنا المزعجين إننا استمتعنا بزيارتهم، أو نشكر العاملين غير الأكفاء على الخدمة السيئة أو ننحاز بطريقة لاواعية إلى سياسيين نعرف أنهم بعيدون من الحقيقة في ما يقولونه”.
“الكذب” بسبب الجهل العام
غالباً ما يخفي السياسيون وجهات نظرهم الحقيقية المخالفة لتوجهات الرأي العام أو التي لا تحظى بتأييد جزء كبير منه، فمثلاً اضطر باراك أوباما وديك تشيني إلى إخفاء دعمهما لزواج المثليين كونه لا يحظى بشعبية، وكان المراقبون والمطلعون والمقربون يعرفون أنهم لا يقولون مواقفهم الحقيقية من هذا الأمر، لكن أحد محرري “واشنطن بوست” كشف بطريقة طريفة عن الكذب السياسي الذي لا يمكن تغطيته إلا بكذب سياسي آخر، حين كتب بأنه على الجمهوريين الذين يدعمون خطة دونالد ترمب لإنشاء إدارة تنهي ثقافة الكذب التي يمارسها السياسيون “المؤسسون” أن يعلنوا للرأي العام أولاً أن ترمب يكذب في شأن قدرته على إنهاء ثقافة الكذب.
المفكرة والفيلسوفة الألمانية المعروفة بريادتها في نقاش الجوانب المعتمة في عالم السياسة وتداخله مع الحياة الاجتماعية حنا أرندت توصلت باكراً في بحثها “الكذب في السياسة” عام 1972 إلى كشف دور الكذب البارز في السياسة الداخلية والخارجية، ولو كانت أرندت لا تزال على قيد الحياة الآن لكانت تأكدت من صحة استنتاجاتها بعض مجموعة فضائح الوثائق السرية المهربة، سواء من “ويكيليكس” أو “وثائق بنما” أو “فضيحة بيغاسوس التخابرية” أو “وثائق البنتاغون” التي تم فك رموز كثير منها بعد تهريبها، ثم أخيراً الفضيحة التي أطلقها إيلون ماسك بعد شرائه منصة “تويتر” في مقابل 33 مليار دولار، ليعلن أن المنصة لطالما تحفظت أو أخفت معلومات تتعلق بعلاقات تجارية بين عائلة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن والنظام الروسي، وهو ما أنكره بايدن منذ حملته الانتخابية في مواجهة دونالد ترمب.
موقف أرندت جذري ضد تبرير الكذب في السياسة، ولطالما أعلنت أن تحقيق العدالة يأتي ولو كانت النتيجة دمار العالم، وهذا موقف كلاسيكي يقوم على المبدأ السياسي القديم “لتتحقق العدالة ولو هلك العالم”، وبرأي الفيلسوفة الألمانية أنه بلا عدالة فلن يكون هناك عالم أصلاً نناقش فيه إذا ما كان الكذب مقبولاً أم لا”.
وهذا ما بينته التجارب سواء في التصاريح التي أطلقها الرئيس الأميركي ليندون جونسون حول حرب فيتنام أو ما اعتبره بعضهم “تضليلاً” في شأن المعلومات التي أدت إلى حرب العراق أو الكذب لتضخيم واقع ما عبر الإعلام والإشاعات لتمرير مشروع ما أو لحشد المؤيدين أو لنشر الكراهية والعنصرية، أو المحاولات الدائمة لنشر فضائح تتعلق بحياة السياسيين الخاصة، عدا عن إيمان السياسي المطلق بمواقفه وآرائه واتهامه كل الآخرين بالكذب مما يدفعه إلى السيطرة على السلطة ما إن يصل إليها.
وهناك أمثلة كثيرة في التاريخ عن الزعماء الذين يبنون صورة قد تكون “وهمية” عن قدراتهم وبلادهم المستقبلية في خيال مواطنيهم، سواء بالترغيب أو الترهيب أو الاعتياد القسري والمنظم، فيصدق الزعيم وتنطلي عليه كذبته التي أطلقها بنفسه، وثبتها بقوة الحديد والنار والسجون السرية والاغتيالات كما جرى في معظم الأنظمة الفاشية والنازية في ألمانيا وإيطاليا موسيليني وإسبانيا فلاانكو وأرجنتين خوان بيرون، ومعظم أنظمة أميركا الجنوبية من كوبا إلى فنزويلا ونيكاراغوا وبوليفيا وتشيلي وغيرها، وفي الأنظمة العسكرية العربية التي وصلت تحت شعارات التحرير والاستقلال عن الانتداب وعاشت طويلاً تحت شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” مع إسرائيل، والتي انتهت بهزيمة كل هذه الأنظمة أو أنها وجماهيرها لا تتوقف عن إعلان انتصارها في كل مناسبة، ومن يعترض أو تظهر عليه أية علامة من علامات التشكيك في الحقيقة المعممة يكون عدواً للشعب والنظام، لكن في الخلاصات التي توصلت إليها أرندت فإن فرض الحقيقة الكاذبة بطرق سلمية أو بالعنف لا يخفي الحقيقة الأصلية ولو غابت زمناً طويلاً، ولا يمكن حماية السياسة من الأكاذيب إلا بقول الحقيقة، فمن يحاول نسج حقيقة لتغطية كذبه في عالم السياسة فإنه مهما اتسع غطاؤه وحياكته فلن يتمكن من تغطية تأثير كذبه في الاجتماع العام.