حرية – (26/1/2023)
الغضب والحزن والسخط وكبت الغضب من أجل المجاملات الاجتماعية أو توافقاً مع العقد الاجتماعي، كلها مشاعر إنسانية كالسعادة والخوف وغيرها، ولكن تم الاتفاق في العقد الاجتماعي بأن الغاضب يسبب نتائج غير سوية، وأن الشخص الغضوب غير مرغوب فيه في المجتمعات المسالمة والهادئة والملتزمة بالقوانين التي تسير حياة المواطنين فيها، حيث حرية الفرد تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين.
وجد علماء النفس أن التعبير عن الغضب سواء الفردي والعام، هو أمر صحي إذا ما كان غضباً فردياً من قواعد أو من عادات أو من قوانين وإلزامات اجتماعية غير مجدية أو فاسدة أو تؤدي إلى نتائج غير جيدة. وقد يتحول هذا الغضب الفردي إلى جماعي من أجل الوقوف في وجه مشروع ما يسبب الضرر. وهذا النوع من الغضب يعتبر صحياً في تصنيفات علم النفس والاجتماع، بينما يؤدي كبت الغضب لفترات طويلة إلى ظهور أعراض أكثر سوءاً من الغضب نفسه، بعضها يعتبر من الأمراض النفسية الشديدة كالانعزال والفصام والتوتر الدائم والقلق. وقد تؤدي هذه الحالات النفسية الناتجة من كبت الغضب إلى أمراض جسدية أيضاً، وهي ما يطلق عليه “الأمراض المتحولة نفسياً”، التي تظهر على شكل أوجاع في الجسد وأمراض مختلفة منها بعض أنواع الخلايا السرطانية غير الحميدة.
كبت الغضب قد يؤدي إلى مشكلات نفسية ولكن الغضب المتكرر وشبه الدائم يؤدي أيضاً إلى الإفراز المطول لهرمونات التوتر، التي تدمر الخلايا العصبية في مناطق الدماغ المرتبطة بالحكم والذاكرة قصيرة المدى، ويضعف جهاز المناعة، مما يؤدي إلى الإصابة بأمراض شديدة، ويؤثر في القلب والشرايين.
وبعض أنواع موجات الغضب وتقلب المزاج الحاد يمكنها أن تؤدي إلى البارانويا وإيذاء النفس والانتحار. وقد ينشأ الغضب المفرط الشائع من مشكلات الثقة بالوالدين، وقد يكون بمثابة دفاع في مواجهة مخاوف الهجر والرفض.
غضب الطريق الاجتماعي والسياسي
من الأنواع الجديدة للغضب غير المكبوت الذي بات ظاهرة في أنحاء العالم ما يمكن تسميته “غضب الطريق”، أي الغضب الذي يحدث بين سائقين في الطريق، وبدلاً من اللجوء إلى حل مشكلتهما بطريقة سلمية وقانونية، يقوم أحدهما أو كلاهما بالتعبير عن غضب عارم بسبب ما طرأ من تجاذبات على يومه من خلال إصلاح المسألة عبر خبير محلف أو تصليح السيارة. وهذا الغضب يمكن أن يكون من دون سبب محدد، كأن يقوم أشخاص عنصريون بأعمال عنف تجاه أحد المارة بسبب اللون أو بسبب الملابس أو العرق وغير ذلك من طرق التعبير عن الغضب الشوارعي. وهذا الغضب هو مثال عن الغضب العام الذي ينتقل إلى مجال السياسة، حين يلتزم فرد تجاه عقيدة سياسية معينة أو تجاه شخصية سياسية شعبوية، فيصبح الشخص المنافس ومؤيدوه عثرة في طريق تحقيق الهدف المنشود، وهذا الغضب السياسي الفردي ينطبق عليه مثال القصبة الوحيدة التي يمكن كسرها بسهولة، ولكن يصبح الأمر أكثر صعوبة حين تصبح مجموعة من القصبات مجدولة معاً. فالغضب الفردي يتحد بغضب الجماعة ويصبح غضباً جماعياً في المجال السياسي والرياضات الشعبية، التي تستقطب جماهير من طبقات الغاضبين على نواحي المدن الكبرى في العالم، أو الطامحين إلى فرص النجومية والشهرة في معظم دول العالم الثالث، أو بالنسبة إلى الجمهور الذي يعتبر أن الانتصار في كرة القدم هو انتصار سياسي أيضاً، بل ويؤدي إلى وحدة وطنية قائمة علة هذا الانتصار. ففي البرازيل والأرجنتين ومعظم أميركا الجنوبية ومعظم أفريقيا جنوب الصحراء وعلى رأسها جنوب أفريقيا، حدث هذا الأمر، وكانت كرة القدم اللعبة الغاضبة التي تستقطب جماهير وحشوداً ساخطة تنفس عن غضبها بالولاء الكامل للفريق وبالضدية للجهة المقابلة، ولو أدى الاستنفار من الآخر بالغضب إلى نتائج وخيمة كالمشكلات التي يسقط فيها قتلى من الطرفين الخصمين سواء سياسياً أو كروياً. عدا عن جماعات الجماهير الذي يموتون دهساً تحت الأقدام بسبب الفوضى أو انهيار المدرجات، وتكون غالباً وليدة موجات كبيرة من الغضب في المدرجات. وقد وقع في مصر والجزائر عدد من الأحداث التي أدت إلى مقتل مئات الشباب من مشجعي الفرق الرياضية.
ويمكن أن تكون أمثلة “غضب الطريق الاجتماعي” استدلالاً جدياً على كيفية تحول الغضب “السياسي” إلى غضب عدائي. وفي علم النفس فإن الدراسات الحديثة تشير إلى أن الأكثر شراسة أو تعبيراً عن الغضب هم الذين يزعمون أنهم يفعلون ذلك لحماية الآخرين. كأن يغضب أحدهم من سائق لم يلتزم بإشارات السير.
خليط الغضب
في البيولوجيا أو بحسب إفرازات الدماغ، يرتبط الغضب باستنفار الإنسان للقتال أو للهرب أو تجميد رد فعل الجهاز العصبي. الغضب في الإفرازات الهرمونية يشبه الاستعداد للقتال ولكن ليس بالضرورة لتوجيه اللكمات، بل يمكن لأنواع من الغضب الجماعي أن تحفز المجتمعات على مكافحة الظلم. لكن بعض علماء السوسيولوجيا يعتبرون أن إطلاق العنان للغضب لا يؤدي إلى التنفيس الذي يتوق إليه الناس، بل يميل إلى أن يتغذى على نفسه. عالم النفس جيري ديفنباكر يرى أن الغضب ناتج من خليط من الحدث المحفز وخصائص الفرد وتقييم الحادثة من قبل الشخص، خصوصاً إذا كانت سماته الشخصية نرجسية وتنافسية وتجد صعوبة في التسامح مع الإحباط، ويدخل في صلب التقييم إذا ما كان يستحق الموقف اللوم أو الغضب لأجله.
في حال الأشخاص المصابين باضطراب الأعصاب وينفجرون باندفاع ويتجادلون مع الأشخاص الأعلى سلطة في العمل أو في المجال العام الاجتماعي أو السياسي ويرفضون الامتثال للطلبات، ويزعجون ويلومون الآخرين عن عمد، قد يكونون مصابين في جزأين من الدماغ، أحدهما في فرط نشاط اللوزة الدماغية، وهي المنطقة التي تساعد في تنظيم النبضات وتمنع العدوان. وهؤلاء غالباً ما لا تكفيهم جلسات السيطرة على الغضب، بل يحتاجون إلى الأدوية لتعديل انفعالاتهم. والحرمان من النوم له تأثيره أيضاً في التحكم في الدوافع الغاضبة. وهناك بعض أنواع الغضب التي يقدم عليها الأشخاص تحت راية “أسطورة التنفيس” عن الغضب. وهناك العلاقة بين الذكورية والغضب والعدوان، إذ تظهر الدراسات أن الذكورية مرتبطة بالغضب، وعندما تتعرض ذكورية الرجال للتهديد فإنهم يتفاعلون بغضب متزايد تحت تأثير تحدي مستويات هرمون التستوستيرون.
التقليل من شأن الآخرين الفاسدين يرفع من مستوى احترام الذات. ويهدف البشر من منظور تطوري، إلى الحصول على مكانة اجتماعية قوية والحفاظ عليها داخل المجتمعات الصغيرة. وقد يساهم التعبير عن الغضب تجاه سلوك الآخرين المفسدين في رفع مكانة الغضوب بين الآخرين الذين يشعرون بما يشعر به ولكنهم يكبتون مشاعرهم، فيصبح مثالاً وسطهم. وهو ما يفسر الشعور بالرضا لدى هذا النوع من الغاضبين.
في كل الأحوال لا بد من الإشارة إلى أن السخط يؤدي إلى الموت، وفق الأبحاث. فعندما نغضب تدخل مواد كيماوية مثل الأدرينالين والتستورون والأندروفين إلى مجرى الدم، ويزداد معدل ضربات القلب وتدفق الدم وتتوتر العضلات، فيصاب الجهاز المناعي بالضرر وكذلك نظام القلب والأوعية الدموية.