حرية – (28/1/2023)
تؤكد إحدى النظريات التي تفسر سر تميز اللغة البشرية أنها تطورت كوسيلة لتبادل المعلومات عن العالم، تلك التي تتعلق تحديداً بالبشر وليس العناصر والكائنات الأخرى المحيطة بهم، أي أن اللغة، بحسب هذه النظرية، تطورت كوسيلة لتبادل النمائم، كنوع من الأحاديث الهادفة إلى إظهار حقيقة الأمور وإبرازها.
كما تؤيد كتب وأبحاث ودراسات نظرية عدة النميمة هذه، فحتى اليوم تتكون الغالبية العظمى من التواصل البشري، سواء كان مكتوباً أو مسموعاً أو مرئياً، من النمائم التي نتبادلها بصورة طبيعية، كما لو أن لغتنا تطورت من أجل هذا الغرض فعلياً.
لكن يبدو أن هناك هوة بين كيف يرى الأكاديميون النميمة وكيف يراها العامة، إذ يسجل الفريق الأول جوانب إيجابية لها تخفى على كثير من الناس.
النميمة والتعاون الاجتماعي
يتناول الكاتب والمؤرخ يوفال نوح هراري في كتابه “العاقل” أهمية هذه النظرية قائلاً إن “التعاون الاجتماعي هو مفتاحنا الحقيقي من أجل البقاء والتكاثر وإن كمية المعلومات التي يتوجب على المرء الحصول عليها وتخزينها من أجل تتبع العلاقات دائمة التغير، لو لعشرات قليلة من الأفراد مذهلة جداً، فمعرفة الأفراد (الرجال والنساء منهم) لأماكن وجود الحيوانات من حولهم ليست كافية، بل الأهم أن يعرفوا من في مجموعتهم يكره من ومن يحب من ومن هو الصادق ومن المحتال”.
وعلى رغم أن هذه الصفة غالباً ما تعاب إلا أن تبادل النميمة والتكلم في ظهور بعضهم بعضاً كانا ضروريين جداً لبث روح التعاون في المجموعات الكبيرة، إذ مكنت المهارات اللغوية الجديدة التي اكتسبها العقلاء الحديثون قبل نحو 70 قرناً من تبادل النمائم لساعات وساعات، بالتالي أدى الحصول على المعلومات الموثوقة حول من يجب أن يؤتمن إلى إمكانية توسيع المجموعات الصغيرة إلى مجموعات أكبر وإلى تطوير أنواع من التعاون أكثر متانة.
النميمة الفاعلة
والحقيقة أن أولئك الذين كانوا يتعاونون مع الآخرين ويرتبطون بهم ويتبادلون الأحاديث والنشاطات، تمتعوا بفرص أكبر للحصول على الموارد من جهة، وفرص للارتباط من جهة أخرى، والأهم أنهم تمتعوا بأمن متزايد، متبنين من دون وعي معتقدات على نمط العبارة القديمة التي تقول “الذئب الوحيد يموت، لكن القطيع يظل حياً”، فكان التودد وممارسة الأنشطة ومشاركة الملاحظات المتعلقة بالآخرين وسلوكاتهم بمثابة التعاون الذي يوثق حال التجمع البشري في أكثر أشكاله تماسكاً.
ومع بزوغ الثورة الذهنية ساعدت النمائم الإنسان العاقل على تشكيل مجموعات أكبر وأكثر استقراراً، إذ يبدو وكأن النميمة ساعدت بالفعل أسلافنا على البقاء، كما أخبرنا تشارلز داروين أن في التاريخ الطويل للبشرية، أولئك الذين تعلموا التعاون والارتجال بأكثر الطرق فاعلية، هم من سادوا.
العدد السحري
لكن حتى النمائم لها حدودها، فهناك حدود واضحة لحجم المجموعات التي يمكن أن تشكل وتستمر، فمن أجل أن تعمل مجموعة ما، يجب على كل الأعضاء فيها أن يعرفوا بعضهم بعضاً بشكل حميمي ليستطيع كل منهم أن يثق بالآخر ويساعده، إذ أظهرت دراسة في علم الاجتماع أن أعلى حجم “طبيعي” لمجموعة تترابط في ما بينها بالنمائم يصل إلى نحو 150 فرداً، فلا يستطيع معظم الناس معرفة بعضهم بشكل حميمي ولا أن يتبادلوا النمائم بفاعلية حول أكثر من 150 شخصاً.
وهنا يطرح هراري فكرة العتبة الحرجة التي تتركز حول هذه العدد السحري في المنظمات البشرية في وقتنا الحالي، إذ تستطيع المجتمعات وشركات الأعمال والشبكات الاجتماعية والوحدات العسكرية أن تحافظ على نفسها بالاعتماد بشكل رئيس على المعارف الحميمة وتبادل النمائم، مثلاً يمكن لفيلق عسكري من 30 جندياً أو حتى فرقة من 100 جندي أن تعمل معاً جيداً بالاعتماد على العلاقات الوثيقة، كما يمكن لشركة عائلية صغيرة أن تبقى وتزدهر من غير مجلس إدارة ولا مدير تنفيذي ولا قسم محاسبة.
لكن بمجرد تجاوز عتبة 150 فرداً فإن الأمور تتوقف عن العمل بهذه الطريقة، لكن بالتأكيد تمكن الإنسان من تجاوز هذه العتبة عند إنشاء المدن والإمبراطوريات بطرق أخرى تعتمد على الخيال، وهذا موضوع آخر.
هل الجميع ينم؟
تعتقد الغالبية بأن بعض الشخصيات الاعتبارية أو ذات المؤهلات العلمية والثقافية لا تخوض في الأحاديث عن الآخرين، لكن ربما لا تكون الحقيقة كذلك، وفي هذا الصدد يطرح يوفال هراري أسئلة مثل هل تعتقد بأن أساتذة التاريخ يتحدثون عن أسباب الحرب العالمية الأولى حين يلتقون على الغداء؟ أو أن علماء الفيزياء النووية يقضون استراحات القهوة في المؤتمرات العلمية وهم يتكلمون عن الكواركات (من لبنات البناء الأساسية للمادة)؟ ويجيب أنه ربما يفعلون ذلك أحياناً، لكن في غالبية الوقت هم يتبادلون النمائم فعلاً عن الشجار مثلاً بين رئيس القسم والعميد، أو عن زميل استخدم تمويلات بحثية لشراء سيارة “لكزس”، أو عن الأستاذة التي اكتشفت خيانة زوجها وغيرها.
وفقاً للمتخصصين في علم النفس، فإن ما يصل إلى 80 في المئة من حواراتنا تتضمن التحدث عن أشخاص آخرين وتركز عادة على الحديث عن الأفعال السيئة لبعضهم لتجنب وقوع الآخرين في شركهم، من خلال إيصال معلومات تتعلق بسلوكات مرفوضة في المجتمع، بالتالي المساعدة في تجنيب المستمعين الوقوع في فخ المحتالين والمستغلين.
وهنا تظهر النميمة كدليل على التعلم المكتسب ثقافياً وتقدم لحظات وأمثلة قابلة للتعلم حول ما هو مقبول اجتماعياً وما هو غير مقبول، على سبيل المثال، إذا كان هناك شخص يغش كثيراً في مجتمع أو دائرة اجتماعية ما، وبدأ الناس بالحديث عن هذا الشخص وسلوكاته السلبية، فإن هذا النوع من النقد الجماعي يمكن أن يحذر الآخرين من عواقب الغش من جهة ومن التعامل مع الغشاش من جهة أخرى.
كما يمكن للنميمة أن تعزز التعاون الفاعل من خلال نشر المعلومات المهمة، وهنا ترد إلى الذهن عبارة “سمعتك تسبقك” كدليل على أن القائل سمع سابقاً إشاعات تتحدث عن هذا الشخص، تعينه على التعامل مع الجوانب الإيجابية والسلبية في شخصيته.
فيسيولوجياً
وفي دراسة نشرت عام 2015 في مجلة Social Neuroscience المتخصصة في علم الأعصاب الاجتماعي، تضمنت تصوير دماغ لرجال ونساء أثناء سماعهم ثرثرة إيجابية وسلبية عن أنفسهم وعن أصدقائهم وعن المشاهير أيضاً، بينت أن الأشخاص الذين يسمعون ثرثرة (جيدة وسيئة) عن أنفسهم وبعض القيل والقال بشكل عام، أظهروا نشاطاً أكبر في قشرة الفص الجبهي لأدمغتهم، وهو نشاط يعد أمراً أساسياً في قدرتنا على التعامل مع السلوكات الاجتماعية المعقدة، ويرجح الخبراء ارتباط هذه النتيجة برغبتنا في أن ينظر إلينا بشكل إيجابي من قبل الآخرين وأن نكون متوافقين ومقبولين اجتماعياً بالنسبة إليهم بغض النظر إذا كان هذا يعكس ما نشعر به بالفعل أو لا.
ووجدت الدراسة أيضاً أن النواة المذنبة، وهي مركز مكافأة في الدماغ، نشطت مستجيبة للإشاعات السلبية عن المشاهير، إذ بدت المواضيع المتعلقة بفضائح المشاهير كما لو أنها مسلية وممتعة.