حرية – (5/2/2023)
نجحت مبادرة مجتمعية “رياضية ثقافية” في إنهاء حرب قبلية طاحنة في إقليم دارفور، غرب السودان، استمرت لأكثر من 13 عامًا، بعدما فشلت عشرات اتفاقيات الصلح التي عقدت برعاية الدولة، في إحلال السلام بالمنطقة.
ومنذ عام 2009 ظلت قبيلتا “الفلاتة والمساليت” بولاية جنوب دارفور، في حالة حرب متجددة، بدأت بنزاع على تبعية بلدة تُسمى “سعدون” الواقعة بين محليتي “تُلس” عاصمة قبيلة “الفلاتة”، و”قريضة” حاضرة قبيلة “المساليت”، وتطورت إلى ثارات وغارات، خلفت مئات القتلى والجرحى وآلاف النازحين.
وفي عام 2010، أصدر والي جنوب دارفور وقتها، عبدالحميد كاشا، قرارًا بتبعية البلدة إلى رئاسة الولاية، وعين لها حاكما يتبع لوزارة الحكم المحلي، في محاولة لمنع تفاقم النزاع بين الطرفين، بيد أن ذلك لم يفلح في نزع فتيل الحرب.
وخلال هذه الفترة وقعت السلطات الولائية والمركزية، عشرات اتفاقيات الصلح ووقف العدائيات، بين الطرفين، ولكن كان النزاع يتجدد قبل أن يجف حبر الاتفاق.
وفي تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أطلق شباب من القبيلتين بمحليتي “تلس وقريضة” بولاية جنوب دارفور، مبادرة مجتمعية للسلام والتعايش، بعد أن شاوروا الزعامات الأهلية في الطرفين، التي أيدتها ودعمتها في صمت.
يعاني إقليم دارفور من اضطرابات أمنية وصراعات قبلية تغذيها الميليشيات المنفلتة ذات التسليح العالي، وسط عجز السلطات الرسمية عن ملاحقة هذه الميليشيات الخارجة عن القانون
تواصل رياضي ثقافي
يقول عضو المبادرة، عيسى بابكر، إن المبادرة اعتمدت “الرياضة والثقافة”، مدخلاً للتعايش السلمي، حيث أقامت منذ انطلاقتها عددًا من الأنشطة الثقافية والرياضية، التي تجمع بين الطرفين، ما خلق تواصلاً بينهما بطريقة لا إرادية.
ويضيف بابكر لـ “إرم نيوز”: “كان المواطنون من القبيلتين، يجتمعون حول ملعب لمتابعة مباراة في كرة القدم، أو حول مسرح لمتابعة نشاط ثقافي اجتماعي مشترك، وهكذا حتى وصلنا مرحلة شارف فيها الطرفان على تناسي مرارات الحرب”.
وخلال يومي “الخميس والجمعة” الماضيين، اغتسلت القلوب بالدموع، حينما بدأ الرجال الذين يتحاربون بالأمس في عناق بعضهم البعض، وسط “زغاريد” النساء و”الحكامات” اللائي تحولن إلى رسل سلام ومحبة، بعد أن كن بالأمس يحرضن على القتال والثأر.
والخميس، دخل نحو 1000 شخص من رجال قبيلة “المساليت” عُقر دار قبيلة “الفلاتة”، ليسوا غزاة، وإنما رُسل سلام ومحبة، فخرج الآلاف من أهل الدار لاستقبالهم، خارج مدينة “تُلس” ثم زفوهم إلى الداخل.
تعاهدنا بأن نعيد ماضينا التليد في السلام والتعايش، لقد رسمنا لوحة ملحمة شعبية تلقائية، بمشاركة مواطني محليات الجوار، الذين سمعوا بالحدث فجاؤونا وشاركونا الفرحة
زعيم قبيلة “الفلاتة”
عناق ودموع
يقول زعيم قبيلة “الفلاتة” الناظر محمد الفاتح، إن القبيلتين فشلتا على مدى 13 عاماً في وضع حد للنزاعات المسلحة، رغم توقيع عشرات اتفاقيات الصلح، لكن مجموعة قليلة من شباب القبيلتين نجحت في ما فشلت فيه الدولة.
ويؤكد الفاتح لـ “إرم نيوز” أن “الرياضة” أثبتت حقاً أنها جسرٌ للتواصل بين الشعوب.
ويشير إلى أن مجموعة من شباب قبيلته جاؤوه في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وعرضوا عليه فكرة مبادرة مجتمعية يعتزمون القيام بها لكسر الحاجز مع قبيلة “المساليت” وتحقيق السلام والتعايش معها عبر “الرياضة والثقافة”.
ويؤكد تأييده للفكرة ليقوم بعدها الشباب بالاتصال بأصدقائهم من القبيلة الأخرى، كانت قد جمعت بينهم قاعات الدرس في المدارس والجامعات، وبدورهم أخطر أولئك زعيم قبيلتهم الذي وافق بدوره بلا تردد على الخطوة.
ويتابع: “بالأمس جاء إلينا رجال قبيلة المساليت، واستقبلناهم على مدى يومين في ديارنا، أقُيمت خلالها مباراة في كرة القدم بين الطرفين، ثم ليال ثقافية وندوات”، مؤكداً أن جميع سكان المنطقة شاركوا في إكرام الضيوف من تلقاء أنفسهم دون أن يطلب منهم أحد ذلك، مما يعني أن الهدف تحقق تماماً، بهذه الفكرة”.
مباريات كرة القدم، والبرامج الثقافية، التي أقامها أصحاب المبادرة، نجحت في ما عجزت عنه الدولة بوقف العنف المسلح .
ويضيف: “كنت على رأس المستقبلين للضيوف الزائرين، وشاهدتُ الرجال الذين يتقاتلون بالأمس بالسلاح، يتعانقون اليوم بالدموع”. مؤكداً أن الجميع تعاهد بألا رجعة للحرب.
ويستكمل الفاتح حديثه: “تعاهدنا بأن نعيد ماضينا التليد في السلام والتعايش، لقد رسمنا لوحة ملحمة شعبية تلقائية، بمشاركة مواطني محليات الجوار، الذين سمعوا بالحدث فجاؤونا وشاركونا الفرحة”.
ويعاني إقليم دارفور من اضطرابات أمنية وصراعات قبلية تغذيها الميليشيات المنفلتة ذات التسليح العالي، وسط عجز السلطات الرسمية عن ملاحقة هذه الميليشيات الخارجة عن القانون، والقبض على المتورطين في العنف وتقديمهم إلى العدالة.
اختراق غير مسبوق
وتعليقا على الحدث، يقول الناشط المجتمعي، صلاح أبكر “نيالا”، إن المبادرة حققت اختراقاً غير مسبوق في السلام والتعايش الاجتماعي بين قبيلتي “المساليت والفلاتة”، وأعادت العلاقات الطبيعية بينهما بعد صراع دام امتد لما يزيد عن عقد من الزمان.
ويضيف أن مباريات كرة القدم، والبرامج الثقافية، التي أقامها أصحاب المبادرة، نجحت في ما عجزت عنه الدولة، مؤكدًا أن الشباب أصحاب المبادرة، نجحوا أيضاً في محاربة خطاب الكراهية الذي كان متفشياً طوال الفترة الماضية.
ودعا إلى تعميم التجربة في بقية مناطق النزاعات القبلية في إقليم دارفور المضطرب، باعتبار أن “الرياضة والثقافة” وسائل تشرك أصحاب المصلحة بطريقة لا إرادية في صناعة السلام والتعايش.
وطالب “نيالا” الطرفين بالحذر من مثيري الفتن وأصحاب المصالح في إيقاد نيران الحروب، حتى لا يتسببوا في هدم جسور التواصل التي شيدت بين القبيلتين.
كما دعا إلى رصد خطاب الكراهية ومحاربته لأنه يمثل أكبر مهدد لقيم الإقليم.