حرية – (7/2/2023)
إذا أردت تحقيق الشهرة فتحدث عن النساء، أما إذا أردت النجومية الأكثر سرعة، فقم بتحويل منصاتك الخاصة إلى نشرة يومية تبث يومياً نصائح عن الشروط الواجب توافرها في الزي المقبول للمرأة، لكن إذا أردت الإنصاف فما عليك سوى الرجوع إلى الأصل، حيث البساطة والمعايير المتقق عليها بين المتعايشين في مكان ما، والتي شكلت تراثاً هائلاً من الزي النسائي العربي على مدى تواريخ وحقب عدة، فالملبس التقليدي يحارب التشدد بطريقة لا مثيل لها، وبذوق رفيع متنوع، بالتالي فكلما تم تهميشه أصبح هناك فراغ لمريدي “الفانز” والساعين إلى الانتشار، وإلى مآرب أخرى.
منذ تسعينيات القرن الماضي، وحتى السنوات العشر الأولى من الألفية الثالثة، صنع عدد ممن أطلقوا على أنفسهم رجال دين شهرتهم الكبرى وحققوا ثروات جراء شرائط الكاسيت التي كانت تمتلئ بالوعظ، حيث كانت النساء دوماً محورها الأساس، ولا سيما عدد وشكل القطع التي يرتدينها، على رغم أن الزي التقليدي العربي للمرأة بشكل عام مقبول تماماً، وغير مبالغ فيه، لكن تضخيم الأمور كان مسيطراً كالعادة على نجوم تلك الخطب، الذين استمروا بشكل أو بآخر عبر “تويتر” و”فيسبوك”، وفي بعض الأحيان “تيك توك”، حيث يبث بعضهم الخطب الآن، فاللغة هي ذاتها، والاتهامات لم تتغير، لكنها مجاراة بالطبع لجديد الوسائط.
على جانب آخر، صمدت الأزياء النسائية التراثية والشعبية العربية بألوانها المبهجة واحتشامها من دون مبالغة أو نفور، صامدة وغير مبالية، لتكون معبراً رئيساً عن تاريخ غير منطوق ممتد من المشرق إلى المغرب، وهوية وطنية لا تقبل الشك أو التأويل.
تصميمات لكل العصور
الزي الشعبي أو التراثي أو التقليدي بمعناه البسيط هو نوع من الملابس يعبر عن ثقافة وهوية مجموعة من الناس في نطاق جغرافي معين، وغالباً ما يكون متناسباً مع طبيعة البيئة وطقسها، وبحسب كتاب “تاريخ الأزياء الشعبية في مصر” لسعد الخادم، فإن “لكل أمة زياً ولكل عصر لباساً، وغالباً ما تعبر الأمم عن أفكارها ومكنون تاريخها من خلال أزياء شعبها رجالاً ونساءً”.
وعلى رغم أن كثيراً من تلك الأزياء لا يزال متداولاً حتى اليوم، مثل الجلباب والقفطان والعباءة، فإنها تظهر في الغالب بصورة أكبر في الاحتفالات القومية والمناسبات الاجتماعية مثل الأعراس والأنشطة الاجتماعية المختلفة، كما أن الزي نفسه قد يختلف في الدولة الواحدة، وفقاً لطبيعة كل منطقة، سواء أكانت ساحلية أو صحراوية أو جنوبية، لكن هناك سمات أساسية مشتركة على الأقل في ما يتعلق بالعالم العربي، فالحشمة والوقار ودقة النقوش ذات الألوان الزاهية أمور ثابتة في الأزياء من الشام إلى الخليج إلى المغرب العربي، كما أن ملابس المرأة التقليدية التي تعيش في سيناء بمصر مثلاً تقترب كثيراً من الزي التراثي لرفيقاتها في الدول العربية المجاورة، ومن بينها الأراضي الفلسطينية.
أزياء محتشمة وتقاليد
يرى عميد المعهد العالي للفنون الشعبية بالقاهرة وأستاذ أرشفة الفولكلور مصطفى جاد أن “الشكل العام للزي التقليدي للمرأة مرتبط بعادات الشعوب وتقاليدها وأخلاقياتها، وأيضاً بالآداب السلوكية والعوامل البيئة”، لافتاً إلى أنه “بالرجوع إلى أصول وعناصر التراث الشعبي، وما تمثله، ثم التعامل معها بشكل عصري، ستختفي أية مشكلات متعلقة بالجدل حول مواصفات الملابس النسائية”.
ويلفت جاد، المتخصص في التراث الشعبي غير المادي بمنظمة “اليونيسكو”، النظر إلى ضرورة التفرقة بين الزي التقليدي اليومي، وذلك الذي ترتديه النساء في المناسبات، مثل الأفراح أو العزاءات، مؤكداً أنه “تراث متفق عليه بين جميع فئات المجتمع، ومرتبط بأخلاقيات كل بيئة”.
ويضيف، “البهجة والأناقة عنصران أساسيان في تلك الملابس، بدليل أن كثيراً من دور الموضة العالمية باتت تستقي من الأزياء التقليدية العربية تصميماتها الحديثة، وبينها الزي السوداني المبهج”، لافتاً إلى أن ملابس المرأة العربية التراثية ملهمة للغاية، وكذلك الأكسسورات التقليدية المصاحبة للملبس الأساس، وهي التي ترتديها النساء على الرأس وفي اليدين والقدمين.
لا تسقط بالتقادم
بالمتابعة، فإن الموضة التقليدية إذا ما أتيحت لها الفرصة، فإنها ستنافس أحدث خطوط الأزياء، فمثلاً انشغل الرأي العام العالمي، الشهر الماضي، بارتداء لاعب كرة القدم العالمي ميسي للبشت العربي الفخم في أثناء تتويجه ومنتخب بلاده الأرجنتين بكأس العالم في البطولة التي أقيمت بقطر، مطلع هذا الشتاء، وتدريجاً انتشرت صور جمهور ميسي وهم يحاولون تقليده بارتداء هذه القطعة التراثية الأنيقة المعروفة في منطقة الخليج العربي. وعلى رغم ارتباطها بالملبس الرجالي، فإن البشت كقطعة ملابس نسائية يحظى أيضاً بالانتشار، وتتنافس الفتيات على اقتنائه، بخاصة بعد أن تم تجديده بلمسات عصرية من قبل عدد من مصممات الأزياء، لا سيما السعوديات منهن، وأبرزهن هنيدة صيرفي ومناهل القاسم وليلى البسام، حيث ارتدت نساء شهيرات تصميماتهن من البشت الذي يتميز بالفخامة والرقي والحداثة، في حين يعد البشت الحساوي واحداً من أشهر البشوت التي تتمتع بشهرة وجماهيرية، وقد أقامت وزارة الثقافة السعودية في يونيو (حزيران) الماضي مهرجاناً حمل اسمه للتركيز على هذا الموروث العريق، وأيضاً على قدم مهنة الحياكة في البلاد.
اللافت أن هناك تنوعاً هائلاً في الملبس التقليدي النسائي العربي بتنوع المناطق والعصور، كما أن ثراءه يجعله يشكل إطلالة متكاملة لاحتوائه على أكثر من قطعة، فعلى سبيل المثال، وبحسب ما جاء بالموقع الرسمي لوزارة التعليم السعودية حول الأزياء التقليدية في عهد الدولة السعودية الأولى، فمن ملابس النساء “العباءة والدراعة والشيلة والجبة والمخنق”، ودوماً تعبر نوعية الأقمشة وتفاصيل التصميم عن المكانة الاجتماعية للمرأة التي ترتديها.
أما كتاب “مكنز التراث الثقافي غير المادي”، الذي نشره عميد المعهد العالي للفنون الشعبية وأستاذ أرشفة الفولكور وتقنيات الحفظ مصطفى جاد قبل نحو أربع سنوات، فيتضمن بصورة أكثر تفصيلاً مميزات التراث العربي في ما يتعلق بعالم الأزياء.
جاد أيضاً لديه بصمة واضحة في التوثيق العلمي وتكويد عناصر التراث الشعبي غير المادي من خلال موقع “مكنز الفولكلور المصري”، الذي تشرف عليه مكتبة الإسكندرية ومركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي.
على نسيج ملون
يصف عميد المعهد العالي للفنون الشعبية بالقاهرة الأزياء التقليدية بأنها “حالة إبداعية يمكن أن تستلهم منها دور الأزياء العالمية تصميماتها الجديدة، مع الاعتراف بحقوق الملكية الفكرية وفقاً للمصدر الذي يتم الاستناد إليه في التصميم، وفي السياق نفسه يمكن الإشارة إلى المصمم اللبناني العالمي زهير مراد الذي خطف أنظار العالم قبل عامين تقريباً بعرض أزياء مستوحى بالكامل من الزي الفرعوني، وارتدت تلك التصميمات أبرز العارضات، وأيضاً نجمات الفن في العالم”.
ويعود جاد للتأكيد أن “شال نساء واحة سيوة في مصر مثلاً مليء بالنقوش الهندسية والألوان، وهو معبر مختصر عن التراث الثقافي، حيث يتضمن أيضاً رسماً لقرص الشمس الفرعوني، الذي يرمز لمعبد الإله الفرعوني آمون، حيث يقع هناك”.
الثوب الطويل الأنيق الزاهي المليء بالتفاصيل الدقيقة، والذي يلف القوام بأناقة من دون ابتذال هو عنوان شامل لجميع الأزياء التراثية النسائية في العالم العربي، فالملابس ابنة بيئتها، وهي تحمل ذكاءً فطرياً في نسيجها وتصميمها يجعلها منسجمة تماماً مع المناطق التي نشأت فيها، بالتالي فإنها طوال الوقت مرنة للتماشى مع التطورات في عالم الموضة من دون تفريغها من أصولها، كما أنها على الدوام حائط صد في وجه تيارات تحاول فرض ثقافة في الملبس مغايرة وغير ملائمة للمجتمعات العربية، قوامها الألوان القاتمة والموديلات الحديثة التي تفتقر إلى الحيوية.