حرية – (8/2/2023)
لم يكن فنسنت جيغانتي شخصية عادية أبداً، بل استثنائية بكلّ المقاييس. فكم رجلٍ استطاع أن يضلّل مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) طوال 28 عاماً، من خلال حيلةٍ لم تكن لتخطر على بال أحد؟
رغم أنه كان قائداً لإحدى أقوى عصابات نيويورك، فإن فنسنت كان يتجول ليلاً نهاراً في أشهر أحياء المدينة الأمريكية، مرتدياً ملابس النوم أو “روب” الحمام، وهو يتحدث إلى نفسه بلغةٍ غير مفهومة.
فكان كل من يشاهده يعتقد أنه واحدٌ من آلاف المجانين الذين تَعجُّ بهم شوارع المدينة الصاخبة، في حين أنه كان في تلك الفترة قائداً لإحدى أقوى عصابات المافيا ثم الزعيم الأكبر لها.
وبفضل “جنونه”، نجح فنسنت جيغانتي في إبعاد نفسه عن الشبهات والإفلات من ملاحقة مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي لسنواتٍ طويلة، واحتاج ذلك إلى مهارة خاصة وصبر طويل.
وُلد فنسنت جيغانتي يوم 29 مارس/آذار 1928 في مدينة نيويورك الأمريكية، من والدَين مهاجرين -سالفاتوري ويولاندا- انتقلا إلى الولايات المتحدة من مدينة نابولي الإيطالية.
عمل الأب في صناعة الساعات، أما الأم فكانت خياطة، واللافت أن 4 من أبنائهما كانوا أعضاء في عصابة إجرامية: فنسنت، وماريو، وباسكال، ورالف؛ فيما كان الابن الخامس، لويس، كاهناً.
لم يكن فنسنت ناجحاً في دراسته، وغادر التعليم الثانوي في الـ16 من عمره ليركز على رياضة الملاكمة، التي برع فيها. فمن أصل 25 منازلة احترافية خاضها، انتصر في 21 مقابل 4 هزائم، بحسب موقع Tech Tribune الفرنسي.
لم تكن الملاكمة غريبة عن عالم المافيا؛ وفي سنّ الـ22 عاماً، دخل فنسنت عالم الجريمة المنظمة ليعمل تحت إمرة فيتو جينوفيز، زعيم “عائلة جينوفيز” إحدى عصابات المافيا الأمريكية في نيويورك، والساعد الأيمن للزعيم الأكبر لوكي لوتشيانو.
ووفقاً لموقع Grunge الأمريكي، فقد كان جيغانتي شاباً مُطيعاً ضمن العصابة التي انتمى إليها، وكان يُنفّذ كل الأوامر؛ لدرجة أنه قُبض عليه سبع مرات قبل أن يبلغ 25 عاماً، لارتكابه جرائم متعددة، أبرزها سرقة السيارات وتعمّد إشعال الحرائق.
محاولة قتل فاشلة كانت حاسمة في مشواره الإجرامي
ذاع صيت فنسنت جيغانتي في عالم المافيا الأمريكية، مع بداية العام 1950، كمُنفذ عمليات القتل لصالح عائلة لوتشيانو. وقد أُسندت إليه عام 1957 أخطر عملية في تاريخه الإجرامي، والتي كانت حاسمة في صعوده إلى أعلى مراتب القيادة في العائلة.
أرادت العائلة التخلص من فرانك كاستيلو (أحد زعماء عائلة لوتشيانو) بأمرٍ من فيتو جينوفيز، الذي كان أحد أكبر مساعدي لوكي لوتشيانو، زعيم العائلة الذي تقلّص نفوذه في أربعينيات القرن الماضي.
قضى لوتشيانو حينها فترةً في السجن؛ وبعد أن تمّ ترحيله إلى إيطاليا سنة 1946، عَيَّن فرانك كوستيلو مكانه لقيادة العائلة، ما أثار استياء فيتو جينوفيز، الذي كان يأمل في أن يكون الزعيم الأول للعائلة.
ورغم إخلاصه التام للوتشيانو، إلا أن جينوفيز كان غاضباً من صعود كوستيلو، ومُصمّماً على إبعاده من السلطة.. فلجأ إلى فنسنت جيغانتي، لمساعدته في الوصول إلى مبتغاه.
رَوى موقع The Mob Museum الأمريكي تفاصيل عملية محاولة قتل فرانك كوستيلو، التي جرت مساء يوم 2 مايو/أيار 1957، ونجحت في إبعاده عن قيادة عائلة لوتشيانو رغم نجاته من الموت.
ففي تلك الليلة، رصد جيغانتي منزل كوستيلو مترقباً عودته في سيارة أجرة، بعد عشاءٍ جمعه مع زوجته وبعض الأصدقاء. وأطلق عليه رصاصة عند مدخل المبنى. لكن من حسن حظ كوستيلو أن الرصاصة لم تُصبه سوى بخدوش طفيفة في رأسه.
ولكنه فهم الرسالة جيداً، بأن حياته باتت مهددة من قِبل غريمه الشرس جينوفيز. ورغم أن كوستيلو أكد لرجال الشرطة أنه لم يشاهد الرجل الذي حاول قتله، نجح حارس المبنى في التعرف إلى جيغانتي عندما استجوبه المحققون.
واعتماداً على شهادة البواب، أُلقي القبض على جيغانتي ومحاكمته. ولكن أمام إصرار كوستيلو على عدم إمكانية تعرّفه إلى الشخص الذي أطلق عليه النار، لم تجد النيابة العامة الأدلة الكافية لإدانة جيغانتي، فبرأته من التهمة.
وأوضحت عدة مراجع أن الصحفيين الذين حضروا المحاكمة، سمعوا جيغانتي يقول لفرانك كوستيلو: “شكراً فرانك”، بعد إعلان براءته.
وفي حين قرر كوستيلو التنحي عن قيادة عائلة لوتشيانو، تاركاً الزعامة المطلقة لفيتو جينوفيز -الذي غيّر اسم العائلة إلى “جينوفيز”- ترقى جيغانتي إلى مركز “كابوريجيمي”، أي قائداً لعصابته الخاصة التابعة للعائلة نفسها. فأصبح مُسيطراً على حي “غرينويش فيلاج” في جنوب غرب مقاطعة مانهاتن، بمدينة نيويورك.
وبعد عامين فقط من التغيير الذي طرأ على السلم الهرمي لعائلة لوتشيانو أو “جينوفيز”، أُدين فنسنت جيغانتي وفيتو جينوفيز من قِبل المحكمة الفيدرالية بتهمة تهريب الهيروين. فحُكم على جينوفيز بالسجن 14 سنة، وعلى جيغانتي بـ7 سنوات فقط.
وبعد قضائه فترة 5 سنوات من عقوبته داخل السجن، تم الإفراج المشروط عن جيغانتي، فيما توفي جينوفيز داخل زنزانته في العام 1969.
فنسنت جيغانتي زعيماً لأقوى عصابات نيويورك
تزامنت وفاة جينوفيز مع حدثين مهمَّين في المسار الإجرامي لجيغانتي؛ تمثلا أولاً في ترقيته إلى رتبة “كابو” (قائد) ضمن عائلة جينوفيز، واتهامه ثانياً في قضية رشوة ولاية نيوجيرسي، ما أدى إلى خضوعه لمراقبة مستمرة من قِبل شرطة “أولد تابان” واستجوابه لمرات عدة.
وكي يتفادى المتابعة القضائية، بدأ جيغانتي “مسرحيته” شبه الناجحة المتمثلة في إصابته بمرض عقلي. فقدّم محاميه إلى النيابة العامة تقارير أطباء نفسيين تؤكد معاناته من الفصام، المصحوب بجنون العظمة، فتمّ الإعلان أنه غير مناسب للمحاكمة؛ وأُسقطت التهم الموجهة إليه.
بعد نجاته من تلك المحاكمة، نمت سلطة ونفوذ جيغانتي داخل عائلة جينوفيز، خلال سبعينيات القرن الماضي. وبعد تقاعد الزعيم الأكبر فيليب لومباردو سنة 1981، بسبب تدهور صحته، فرض جيغانتي سيطرته الكاملة على العائلة.
عند توليه زعامة عائلة جينوفيز، أنشأ فنسنت جيغانتي بروتوكولات صارمة ضمن القانون الداخلي للعصابة من أجل إبعاد الشكوك عنه. لم يكن مسموحاً لأي أحد من أفراد العائلة لفظ اسمه مثلاً، وبدلاً من ذلك كان عليهم أن يلمسوا ذقنهم، أو يشكلوا حرف C بيدهم، في حال احتاجوا للإشارة إليه.
وفي تلك الفترة، زوّد جيغانتي أيضاً من الإظهار العلني لمرضه العقلي. فقد كان يتجول في “غرينويش فيلاج” مرتدياً لباس النوم (البيجاما) أو ورداء الحمام، ويتحدث إلى عدادات مواقف السيارات متبوّلاً في الشارع. كما كان يقيم، على فتراتٍ متقطعة، في مراكز للعلاج النفسي.
نجح ادعاء الجنون في إبعاد كل شكوك المحققين الفيدراليين عن احتمال زعامته لعائلة جينوفيز الإجرامية، التي ترأسها فعلاً لمدة 22 سنة، وجعل منها أكبر عصابات نيويورك.
ويُحسب لجيغانتي أنه وسّع عمليات العائلة لتشمل كل شيء، بدءاً من مشاركة القروض، مروراً بنشر الكتب، وصولاً إلى الابتزاز والتلاعب في مناقصات عقود البنية التحتية لمدينة نيويورك.
الـFBI لم تشكّ للحظة أن جيغانتي زعيم عائلة جينوفيز
وتحت قيادته، حققت عائلة جينوفيز أرباحاً ضخمة، وصلت في ذروتها إلى حوالي 100 مليون دولار سنوياً. وطيلة فترة زعامته أكبر عصابات نيويورك، لم تكن الشرطة الفيدرالية تدرك أنه الزعيم الأكبر، لأنه كان في نظرها غير مؤهل عقلياً لشغل ذلك المنصب.
والمضحك أنه في تلك الفترة، كان محققو الشرطة الفيدرالية (FBI) يراقبون أشخاصاً آخرين معتقدين أنهم زعماء العائلة، ومن أبرزهم أنطوني ساليرنو، الذي كان الزعيم الرسمي لعائلة جينوفيز؛ فيما كان جيغانتي الزعيم الفعلي.
وفي كل الأحوال، فإن نفوذ ساليرنو انتهى في يناير/كانون الثاني 1987 حين حُكم عليه بالسجن 100 سنة من دون إفراج مشروط، قضى منها 5 سنوات ونصف فقط، قبل أن يموت في السجن في العام 1992.
قبل ذلك، استمرت تمثيلية جيغانتي من دون أن يلفت شكوك المحققين الفدراليين إلى غاية سنة 1990، عندما اتُّهم مع 14 شخصاً في قضية تزوير للحصول على عقود بملايين الدولارات.
وفي العام 1993 اتُّهم أيضاً بإعطاء أوامر قتل مجموعة من المجرمين في الولايات المتحدة؛ وخلال محاكماته في تلك القضايا، قدّم محامو فنسنت جيغانتي أدلة مزيفة لإثبات عدم أهليته العقلية.
ولكن في العام 1996 رأى القاضي الفيدرالي، المُكلف بإحدى قضايا جيغانتي، أن هذا الأخير بات مؤهلاً عقلياً للخضوع إلى المحاكمة. فتمت إدانته في يوليو/تموز 1997 بالابتزاز والتآمر لارتكاب جريمة قتل، وحُكم عليه بالسجن 12 سنة.
خلال المحاكمة لم يعترف جيغانتي بادعائه الجنون، وظلّ يتظاهر بمرضه العقلي. ووفقاً لصحيفة Washington Post، فإن شقيقه لويس (الكاهن الكاثوليكي) صرّح لوسائل الإعلام: “صحيح أن أخي كان فتى شوارع، لكن وصفه بزعيم عصابة ابتزاز يُعتبر سخيفاً.. فهو لم يقُد أي مجموعة، لأنه لم يكن قادراً على قيادة أي شيء”.
خلال المحاكمة التي جرت في أبريل/نيسان 2003، اعترف فنسنت جيغانتي أخيراً بخداعه الأطباء الذين كانوا يُشرفون على حالته.
حدث ذلك بعدما أعلنت النيابة العامة أنها تملك أدلة، من خلال تسجيلات صوتية، يتحدث فيها جيغانتي بوضوح مع أحد الزوار -من داخل السجن- ويظهر اهتماماً “متسقاً ودقيقاً وذكياً” بشؤون عائلة جينوفيز.
وبحسب مراجع عدة، فإن جيغانتي واصل تزعمه لعائلة جينوفيز من داخل السجن حتى تلك المحاكمة. وقد عاش من بعدها سنتين و8 أشهر فقط، قبل أن يموت يوم 19 ديسمبر/كانون الأول 2005 داخل المركز الطبي للمساجين الفيدراليين في ولاية ميسوري.