حرية – (9/3/2023)
لطالما كان العمل الصحفي من المجالات التي قد تجلب الكثير من المتاعب على ممارسيه؛ فبين مطاردة المسؤولين للحصول على تصريحات وصولاً للتحقيقات الاستقصائية المرهقة، لا تناسب هذه الوظيفة ضعاف القلوب أبداً.
لكن أن يقوم الصحفي بادعاء الجنون والعيش في مصحة مرعبة لأيام طويلة من أجل إيجاد الحقيقة مهما كانت المخاطر على حياته وسلامته النفسية والعقلية، فهو ما لا يقدر عليه الكثير من الناس.
نيللي بلي وشغفها المبكر بالصحافة
وُلدت إليزابيث كوكران في مايو/أيار عام 1864 في ضواحي بيتسبرغ، بولاية بنسلفانيا الأمريكية، وبدأت حياتها المهنية الصحفية في وقت مبكر.
بحلول عام 1885، عندما كانت تبلغ من العمر 21 عاماً، كتبت رداً مجهولاً على مقال صحفي معادٍ للنساء في صحيفة The Pittsburgh Dispatch المحلية.
ونتيجة لردها القوي والمثير للإعجاب، طلب ناشر الصحيفة من كاتب الرد المجهول الكشف عن هويته. وبالفعل، سرعان ما كانت إليزابيث معينة وتكتب للصحيفة بشكل ثابت بسبب مهارتها في الكتابة.
واتباعاً للعادة السائدة في ذلك الوقت، اعتمدت اسماً مستعاراً لكتاباتها وعملها الصحفي؛ فاختارت نيللي بلي، وهي شخصية في أغنية شعبية للفنان الأمريكي ستيفن فوستر.
عملت نيللي كمراسلة استقصائية في صحيفة The Dispatch، وركزت بشكل أساسي على قضايا المرأة وحقوقها، خاصة في أواخر القرن التاسع عشر عندما كان لا يزال التمييز الجنسي في أوجه ضدهن.
ثم أمضت 6 أشهر في السفر إلى المكسيك، وتناولت الحياة في ظل حكم الديكتاتور بورفيريو دياز.
وبحلول عام 1887، انتقلت نيللي إلى نيويورك بحثاً عن عمل يفتح لها المزيد من الإمكانات والفرص. وبعدما استغرقت شهوراً في البحث لتحصل على وظيفتها التالية، تم تعيينها في صحيفة New York World.
الصحيفة الناجحة التي كان يدير نشرها جوزيف بوليتزر، متخصصة في القصص المثيرة التي جعلتها واحدة من أكثر الصحف انتشاراً في عصرها. كما نشرت الصحيفة أيضاً مقالات استقصائية مثيرة وخطيرة، ما جعلها مكاناً مناسبة تماماً لميول وتطلعات نيللي بلي.
التخطيط لعملية تخفٍّ خطيرة وجديدة من نوعها
كانت نيللي تبلغ من العمر 23 عاماً فقط في ذلك الوقت، وكانت واحدة من عدد قليل من الصحفيات المحترفات في مدينة نيويورك.
عاقدة العزم على ترك بصمتها، قبلت مهمة خطيرة وغير عادية، إذ بعدما انتشرت الشائعات حول الظروف اللاإنسانية في أحد أكثر الأماكن شهرة في المدينة، “الملجأ المجنون” في جزيرة بلاكويل، المعروفة الآن باسم جزيرة روزفلت، بات من المثير معرفة القصة كاملة.
اقترح محرر نيللي عليها أن تصبح نزيلة بنفسها في مستشفى الأمراض العقلية سيئة السمعة لمدة 10 أيام لفضح الظروف الحقيقية فيها، فوافقت على الفور.
وتحت اسم مستعار، أجرت غرفة في سكن مشترك، وشرعت في إثبات أنها مجنونة. فكانت تتجول في القاعات والشوارع المجاورة، وترفض النوم، وتصرخ بشكل هستيري، وحتى تدربت على الظهور في المرآة “كمجنونة” لكي تبدو واقعية تماماً.
ثم في غضون أيام، استدعى أصحاب المنزل الشرطة. ادعت نيللي حينها أنها مهاجرة من كوبا وتعاني من فقدان الذاكرة. فأرسلها قاضٍ إلى مستشفى بلفيو بنيويورك، حيث تذوقت المعاناة المريرة، حيث أُجبر نزلاء المستشفى على تناول طعام فاسد والعيش في ظروف مزرية.
وبعد التزامها بالدور رغم المعاناة، تم تشخيص إصابة نيللي بلي بالخرف وأمراض نفسية أخرى غير دقيقة، فتم إرسالها بالعبّارة إلى جزيرة بلاكويل في إيست ريفر.
مستشفى “بيت المجانين” سيئة السمعة
تم بناء مصحة بلاكويل في الأصل لاستيعاب 1000 مريض، ومع ذلك كان يحشر أكثر من 1600 شخص في مساكنها عندما وصلتها نيللي في خريف عام 1887.
وقد أدت التخفيضات الكبيرة في الميزانية إلى انخفاض حاد في رعاية المرضى، ولم يتبق سوى 16 طبيباً في طاقم العمل لرعاية كل هؤلاء المرضى.
الأمر الأكثر إثارة للقلق كان ما يتعلق بكل من أسباب المرض العقلي وكيفية علاج المرضى في تلك الحقبة؛ حيث اعتُبرت المصحات مثل بلاكويل من الأماكن المسموح فيها بكل شيء تقريباً، حيث يمكن للباحثين عن الإثارة مثل تشارلز ديكنز وآخرين زيارة أولئك الذين يعتقدون أنهم “مجنونون”. كما أمكن للأطباء إجراء اختبارات نفسية غير مهنية على مرضاهم في كثير من الأحيان.
وقد قرر الكثير من الأطباء والموظفين الذين لم يتلقوا سوى القليل من التدريب علاجات قاسية ووحشية لا تُشفى المريض بل تؤذيه أكثر وتزيد من تردي حالته وقواه العقلية.
ظروف مروعة تصيب الأصحاء بالمرض العقلي!
أثناء ذلك، أقامت نيللي بلي صداقة مع زملائها المرضى في المصحة العقلية، الذين كشفوا لها عن تفشي الإساءة النفسية والجسدية من طاقم الأطباء والعاملين.
ووثقت بكتاباتها كيف أُجبر المرضى على الاستحمام بالثلج والبقاء في ملابس مبللة لساعات، مما أدى إلى الإصابة بأمراض شديدة. كما أُجبروا على الجلوس بثبات على مقاعد، دون أن يتحدثوا أو يتحركوا، لفترات استمرت 12 ساعة أو أكثر، وهو ما كان تعذيباً وليس علاجاً بأي حال.
كذلك تم ربط بعض المرضى بالحبال وأجبروا على جر عربات مثل البغال. علاوة على هذا، كشفت نيللي كيف كانت الظروف الغذائية والصحية مروعة، حيث تم توزيع اللحوم الفاسدة والخبز المتعفن والماء الملوث في كثير من الأحيان على المرضى دون اكتراث بسلامتهم.
وبالنسبة لأولئك الذين اشتكوا أو قاوموا فقد تعرضوا للضرب، وتحدثت نيللي حتى عن التهديد بالعنف الجنسي من قِبل موظفين مجرمين بحق المرضى الذين قاوموا هذا النظام الشرس ضدهم.
صُدمت نيللي أيضاً عندما اكتشفت أن العديد من السجناء لم يكونوا مجانين على الإطلاق؛ بل كانوا من المهاجرين الجدد الذين وصلوا لأمريكا في ظروف صعبة، وكان معظمهم من النساء، الذين وجدوا أنفسهم محاصرين في نظام قانوني سيئ ولم يتمكنوا من التواصل مع غيرهم. بينما كان البعض الآخر من النزلاء مجرد فقراء لم يجدوا أسرة أو جهة تعولهم فتم زجهم في “بيت المجانين”.
ما أثار رعب نيللي بشكل خاص أنها سرعان ما أدركت أنه في حين أن العديد من هؤلاء النزلاء لم يكونوا يعانون من أمراض عقلية قبل وصولهم إلى المصحة، فإن علاجاتهم ألحقت بهم أضراراً نفسية خطيرة جعلتهم مرضى نفسيين وعقليين فعلاً.
نشر القضية وتسليط الضوء على فضيحة “بيت المجانين”
بعد 10 أيام من التخفي في الدور بعناية، تمكن محرر نيللي بلي في الصحيفة من إطلاق سراحها. وبعدها بأيام نشرت مقالاتها الأولى عن تجربتها، ما أثار ضجة كبيرة إعلامياً.
بعد شهر من نشر المقالات، زارت لجنة من هيئة محلفين كبرى المستشفى للتحقيق في الأمر. لكن لسوء الحظ، تم إبلاغ المستشفى وموظفيها بشكل مسبق، فتم إخفاء الأدلة لكل الجرائم.
بحلول الوقت الذي وصل فيه أعضاء هيئة المحلفين، كان ملجأ المرضى النفسيين قد تم ترتيبه وتنظيمه، وتم الإفراج عن أو نقل العديد من السجناء الذين قدموا لنيللي تفاصيل ما عانوه من معاملة مروعة.
نفى الموظفون رواية نيللي بلي، بل تم إحضار الطعام والمياه النظيفة في المكان لإخفاء أي سوء معاملة.
لكن على الرغم من هذا الجهد في التستر، اتفقت هيئة المحلفين الكبرى مع رواية نيللي بلي الصحفية. فتم دفع مشروع قانون كان قيد النظر بالفعل، والذي من شأنه زيادة التمويل للمؤسسات العقلية، مضيفاً ما يقرب من مليون دولار (ما يعادل 24 مليون دولاراً اليوم) إلى ميزانية الإدارة.
كما تم فصل الموظفين المسيئين، وتم تعيين مترجمين لمساعدة المرضى المهاجرين الأجانب في التواصل، وتم إجراء تغييرات على النظام للمساعدة في منع ارتكاب أولئك الذين لم يعانوا بالفعل من مرض عقلي.
نجاح مسيرة نيللي بلي بعد السبق الفريد
ساعد الوقت الذي قضته في مستشفى الأمراض العقلية في تعزيز مسيرة نيللي المهنية، وسرعان ما أصبح اسمها واحداً من بين أشهر الصحفيين في العالم.
وبعد عامين فقط من كشفها فظائع “بيت المجانين”، تصدرت عناوين الصحف مرة أخرى عندما انطلقت في رحلة جديدة وثقتها في كتاب حول العالم في 80 يوماً، وكتبت فيه تفاصيل وهي تجوب العالم بنفسها في فترة قياسية تفوقت على الرقم القياسي السابق لها بأسبوع.
في النهاية تقاعدت نيللي بلي من الصحافة بعد زواجها من رجل أعمال ثري؛ ثم عادت لاحقاً إلى الكتابة وعملت كمراسلة أجنبية خلال الحرب العالمية الأولى، حتى وفاتها عام 1922.