حرية – (12/3/2023)
تعد إريتريا إحدى أكثر الدول التي خضعت لسلسة متواصلة من النظم الاستعمارية مارست بحق شعبها مختلف أشكال التمييز، وذلك بسبب وقوعها في منطقة استراتيجية تمثل حلقة اتصال تجاري وحضاري بين أفريقيا وشبه الجزيرة العربية، ولا شك في أن هذا الموقع الاستراتيجي المهم قد جعل من إريتريا منطقة صراعات، بل موضع أطماع عديد من القوى الاستعمارية التي وضعت أعينها على الشاطئ الإريتري، الذي يمتد لأكثر من 1000 كيلو متر على الجهة الشرقية للبحر الأحمر، ويضم مجموعة من الجزر ذات الأهمية الاستراتيجية، ويتجاوز عددها الكلي أكثر من 160 جزيرة متفاوتة الحجم والأهمية.
بدأ الاستعمار الأوروبي لإريتريا منذ عام 1520، عندما غزا البرتغاليون البلاد، ودام حكمهم عقوداً عدة قبل أن يأتي الغزو العثماني ليطرد نظيره البرتغالي عام 1557، حيث انضوت البلاد تحت حكم الدولة العثمانية حتى 1866.
ثم جاء الاستعمار الإيطالي الذي بدأ في 1882، قبل أن يغادر مكرهاً عام 1942 إبان الحرب العالمية الثانية، حيث خضعت إريتريا للانتداب البريطاني، وفترة وجيزة من الحكم الوطني الفيدرالي، لتقع في النهاية فريسة الاحتلال الإثيوبي الذي أحكم قبضته عليها منذ بداية ستينيات القرن الماضي وحتى العقد الأخير من القرن ذاته حين تمكنت الثورة الإريترية من تحرير كامل التراب الوطني في مايو (أيار) 1991، لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ البلاد علق عليها الإريتريون كثيراً من الآمال والتطلعات التي تتجاوز حدود الأطماع الأجنبية في بحرهم وبرهم.
هبة البحر
لم يكن البلد الذي لا تتجاوز مساحته حوالى 117.600 كيلومتر مربع موضع أطماع القوى الكبرى لولا موقعه الاستراتيجي على البحر الأحمر، لذلك وضعت الأنظمة الاستعمارية المتعاقبة خططها للسيطرة عليه كي تجد لنفسها موقعاً مميزاً على هذا البحر الرابط بين أفريقيا وآسيا، لتتضاعف أهمية الموقع بحفر قناة السويس، حيث تحول البحر الأحمر إلى أحد أهم الممرات الملاحية العالمية، مما جعل حلم قيام الوطن الإريتري مرهوناً بمدى قدرة الإريتريين على تقديم تنازلات قاسية في شأن هذا البحر الذي أضحى نعمة ونقمة في الوقت ذاته.
طالما تحدث مستعمرو إريتريا عن أنهم معنيون بالحفاظ على هذه الميزة الاستراتيجية للبلاد، لا بأهلها، وكرر الإمبراطور الإثيوبي هيلي سلاسي هذا القول، معتبراً أن “بقاء بلاده حبيسة من دون منفذ نحو ذلك البحر يعد انتحاراً”، وهكذا دفع عشرات الآلاف من الإريتريين أرواحهم لقاء الدفاع عن هذه الجغرافيا ضد المستعمرين المتعاقبين، وتعهدوا بحماية بحرهم وتغنوا به بلغاتهم المختلفة معبرين عن آمالهم العالقة.
“إريتريا يا جارة البحر يا منارة الجنوب/ من أجل عينيك الجميلتين/ من أجل عينيك الحزينتين/ يأتي زحفنا من أقدس الدورب”. هكذا تغنى الفنان إدريس محمد علي أثناء سنوات الثورة، تماماً كما فعل أحمد ود الشيخ بلغة التقرايت حين قال “قيح بحر من بدير بحرنا/ تاريخ لشهد وعالم أمرنا”، وتعنى “هذا البحر منذ الأزل لنا/ فالتاريخ شاهد والعالم يدرك ذلك”.
ظل الوطن في ذاكرة الإريتريين هبة البحر، بسببه يواجهون الأطماع المتعاظمة، ومن أجله يضحون بالغالي والنفيس. وحدث أن تم تقديم مبادرات عدة في نهايات الثمانينيات من أجل ضمان منفذ بحري محدود لإثيوبيا في مقابل قيام الدولة الإريترية المستقلة في بقية الأجزاء، لكن ذلك العرض كان يتناقض تماماً مع وحدة الكيان الإريتري والتزام الثورة بألا أحد يملك حق التنازل عن شبر من ذلك الشريط الساحلي، تحت أي مبرر سياسي أو اقتصادي أو غيرهما.
تعويذات الفرار
لم تكن محطة الاستقلال بكل آمالها كافية لطي صفحة التغريبة الإريترية وعودة الأجيال التي نشأت في الخارج نتيجة الوضع الذي فرضه الاستعمار على القوى الوطنية، حيث لم تشرع الدولة الجديدة في تبني سياسات تخاطب أحلام شعبها وتلبي عطشه لوطن حر وديمقراطي يستوعب تبايناته السياسية والثقافية، ويحتضن مشاريعه الاقتصادية والمجتمعية، بل إن الآمال المعقودة على الاستقلال تقلصت، حتى تحول الوطن ككل إلى “غنيمة حرب” للتنظيم المنتصر الذي وضع خاتمة لحرب الاستقلال لكي يخوض حروباً جديدة متناسلة مع جيرانه، ويصبح الجيل الجديد وقوداً لتلك الحروب المستعرة، مما دفعه للفرار مجدداً من خريطة الخراب بحثاً عن السلام والحرية.
وكان البحر مرة أخرى جسراً للهرب ووجهة للانتقال نحو مساحة أكثر أمناً، لتبدأ مأساة أخرى عنوانها “قوارب الموت” بحثاً عن حياة، ويشهد العالم تراجيديا الهرب الثاني، حيث تصدرت القصص الإريترية عن قوارب عبثت بها الريح في عرض المتوسط فضلت طريقها من النجاة إلى الموت نشرات الأخبار العالمية، آلاف البشر لقوا حتفهم غرقاً كأن حلم الوطن تحول إلى كابوس، وكأن البحر لعنتهم الدائمة.
أمواج الهجرة وموجات الفن
تأثر الأدب الإريتري بالحال العامة للبلاد، لاسيما ما يتعلق منها بالذاكرة الملتبسة حول البحر، بل إن الثيمة الأساسية لمعظم الإنتاج الأدبي في هذا الشأن تراوحت بين قصص اللجوء بحراً وبراً، وبين أحلام الوطن الغائب والمغيب، سواء لدى تناول فترة الثورة التحريرية، أو ما بعد الاستقلال.
ولعل أحد أهم الرويات التي وثقت مأساة الإريتريين مع البحر كانت رواية “تايتنكات أفريقية” لأبي بكر كهال، التي ترجمت إلى لغات أجنبية عدة منها الإنجليزية والفرنسية والتركية وغيرها، ووجدت احتفاء نقدياً كبيراً، كما تم إقرارها في جامعات غربية عدة كمرجع مهم لفهم ظاهرة الهجرة واللجوء عبر قوارب تتساوى فيها احتمالات النجاة والغرق.
كما تفاعل الفنانون الإريتريون مع الظاهرة ليؤسسوا لذاكرة مغايرة تماماً لتلك الراسخة في أذهان أغلب شعوب العالم حول البحر كفضاء رومانسي، إذ تغنى فتسوم براكي للبحر كحاوية للفناء، وهو الذي نجا بأعجوبة من مصير رفاق الرحلة الذين قضوا نحبهم غرقاً في عرض المتوسط، لكن غناءه الذي يحاكي النحيب لم يبق في مساحة الحسرة والرثاء بل تجاوزها نحو ذاكرة أخرى تؤسس للخلود، وحتى حينما أدى أغنية عاطفية تمنى على حبيبته أن يخلف منها نجلاً يسميه بحر حتى تبقى ذكرى الراحلين خالدة، وكهذا يرث القادمون ذاكرة من مضوا من دون شاهد أو مقبرة.
البحر قبلة الفناء
تحت هذا المعنى يصك الفنان الإريتري الأمين حسب الله، مفردات أغنيته “محسي” بلغة البلين، حيث الفناء والبحر لديه صنوان، “لا أحد يقصد البحر، من دون أن يراوده كابوس الموت”، هكذا تمضي الأغنية بمهل كالمقدم على الموت صاغراً، وكأنها ألحان جنائزية ترافق الأحياء نحو مدن الموتى. في حين يشهر الفنان إبراهيم فانوس سؤاله “سلمنتاي؟” أي (لماذا؟) كمطلع لأغنية بالعنوان ذاته، وهو سؤال قد يبدو بسيطاً في طرحه، لكنه يحمل معاني كثيرة عن جدوى هذا العبث، لماذا وإلى متى سيظل البحر غولاً يلتهم الأبناء من دون رحمة؟ “كأن إنسان هذه الجغرافيا أضحى الوجبة المفضلة للكائنات البحرية”، وهو مطلع أغنية أخرى ترثي جيلاً من الإريتريين لم يعد يملك خياراً أفضل من مجابهة الموج.
وعلى رغم هذه الذاكرة الملتبسة والقاسية لا يكف الإريتريون عن الفخر بإطلالتهم على هذا الأفق الأزرق الممتد، والمراهنة على حظهم القادم محمولاً فوق لجة الأمواج، حيث يرددون قصيدة “مهر الحرية” لشاعرهم الأشهر محمد عثمان كجراي، التي تقول “في البحر الأحـمر مرهـوباً/ فوق الأمواج الفضية/ في كل بقاعـك يا وطني/ يتردد لـحن الحرية”.