حرية – (14/3/2023)
ذكر تقرير لمؤسّسة فَنَك Fanack الهولندية أن ثمانيةُ أعوام كانت كفيلة بعودة الديانة الزرادشتية إلى الحياة من جديد في العراق. فمنذ إصدار القانون رقم 5 لعام 2015 بهدف حماية المكونات والأقليات الدينية في كردستان العراق، عاود أتباع الزرادشتية ممارسة طقوسها والترويج لها والمطالبة بمنحهم بقية حقوقهم.
وأضاف التقرير (14 آذار 2023) أن ظهور الزرادشتية كان نقطة تحولٍ في التطور العقائدي للبشرية. فهذه الديانة ساهمت عبر تعاليمها وأسسها القديمة في تشكيل العديد من النظم العقائدية الهامة كما استوحت شخصياتٌ أدبية وفكرية بارزة من الزرادشتية. ومن هذه الشخصيات فولتير ونيتشه وفريدي ميركوري.
فيما يلي تكملة التقرير بشأن الزرادشتية وخلفيتها التاريخية ومفاهيمها التأسيسية وطقوسها:
خلفية تاريخية
لا تاريخ دقيق لظهور الزرادشتية. ومع ذلك، تشير أغلب المصادر إلى ظهور هذه الديانة قرابة عام 1738 قبل الميلاد. ويرجح إبراهيم زراري، عضو المجلس الأعلى في الحوزة الزرادشتية، أن تكون الزرادشتية قد ظهرت قرب نهر جيجست وبالتحديد في مدينة أورمية – مهاباد الإيرانية.
وتعتبر الزرادشتية أو المزدايسنائية أقدم ديانة توحيدية لا زالت تُمارس في العالم. وجاءت تسميتها نسبة إلى مؤسسها زرادشت الذي خالف ما كان يسود زمانه من دياناتٍ متعددة الآلهة في وسط آسيا. وبحسب نصوص الجاثا، وهي مجموعةٌ من التراتيل القديمة الفلسفية بين زرادشت والطبيعة أو الخالق، فقد أسّس زرادشت الديانة الجديدة التي تعرف إلهاً واحداً هو “أهورامزدا”.
فيما بعد، صارت الزرادشتية الديانة الرسمية للإمبراطوريات الميدية والأخمينية والبارثية. بيد أن هذه الديانة ازدهرت بشكلٍ ملفت في عهد الساسانيين. وجعل الساسانيون الزرادشتية دين الدولة الرسمي، ما أدى إلى تنامي عدد أتباعها.
الديانة الزرادشتية بقيت موجودة بعد سقوط الإمبراطورية الساسانية قبل أكثر من 1400 سنة على يد المسلمين. ومع ذلك، فقد دمّر المسلمون معالم الزرادشتية الدينية أو حوّلوها إلى مساجد. ولهذا السبب، فقد ظلّ أتباع الزرادشتية يمارسون طقوسهم بصورة سرّية إلى حين إصدار حكومة إقليم كردستان قانون حرية الأديان رقم 5 في السنوات الأخيرة.
وفي العهد الأموي، لم يضغط المسلمون على رعاياهم المقيمين في بلاد الفرس، ومنهم الزرادشتيون، باتجاه اعتناق الدين الإسلامي. وبصورة مماثلة لأهل الذمّة، كان على الزرادشتيين دفع الجزية حتى يبقوا على دينهم.
واشتدّ الضغط على الزرادشتيين وغيرهم من أتباع الأقليات الموجودة في إيران المسلمة. وعلى هذا الأساس، فقد اضطر الزرادشتيون للتفرّق والإقامة بعيداً عن الحواضر الإسلامية المهمة. واستقر معظم الزرادشتيين في مناطق صحراوية قليلة الماء، شديدة الحر، وبعيدة عن صخب الأحداث السياسية. ومن تلك المناطق مدينة يزد. كما هاجر آخرون إلى كوجرات في غرب الهند، واستقروا هناك حيث سماهم الهنود بالبارسيين.
وفي العهد الصفوي، تعرّض الزرادشتيون لاضطهادٍ كبير، وهو ما أدى إلى تناقص أعدادهم في إيران والعراق بشكلٍ كبير. وتفاوتت الانتهاكات التي قام بها الصفويون بحقّ الأقليات الدينية بما يتوافق مع تقلبات ومتطلبات سياساتها الدينية.
وفي بداية العصر القاجاري، اشتد الضغط على الزرادشتيين. وباتت حينذاك المضايقات حدثاً يومياً ضدهم. وشمل ذلك تمييز منازل الزرادشتية بعلامات خاصة، وسنّ القوانين لتشجيعهم على اعتناق الإسلام. كما كان يذهب ميراث الأسرة بالكامل للشخص الذي يصبح مسلماً في عائلة زرادشتية.
المبادئ والطقوس الرئيسية
بالنسبة للزرادشتيين، الطريق الأصلح في العقيدة، هو كالتالي: النية تكون مبنية على ثلاثة مُثُل عليا: الفكر الطاهر، الكلمة الطيبة، والعمل الصالح.
أما عن تفاصيل طقوسهم، فيقول زراري: “لدينا خمس صلوات في اليوم، إضافة إلى الوضوء. لكنّ صلاتنا ووضوءنا يختلفان عن صلاة ووضوء المسلمين. نحن نتوجه في الصلاة إلى أي مصدر للنور. في النهار، نتوجه للشمس. وفي الليل، نتوجه إلى النار أو الشمعة أو مصدر آخر للنور. ولدينا صيام أربعة أيام كلّ شهر. وتسمى أيام الصيام بـ “نابور”. وخلال الصيام، نمتنع عن أكل اللحوم فقط. وعلى هذا الأساس، فإننا نصوم 48 يوماً في السنة”.
تقول هدى شيخموس، ممثلة الديانة الزرادشتية غرب كردستان: “الزرداشتيون يدفنون موتاهم بحسب عادة المجتمع، مثلهم مثل غيرهم من المسلمين هناك. ولا وجود لتشريعات ثابتة. هذا الأمر يعود إلى طبيعة الإنسان وطريقة تفكيره. وعلى سبيل المثال، إن رأى المرء الماء حلالاً، فهو حلال. كما لا وجود لتعدّد الزوجات في الزرادشتية”.
وتسمى الزرادشتية بالديانة الاختيارية. ولا يولد الزرادشتي وهو على دين أبيه أو أمّه، كما هو الحال عند بقية الديانات، بل إنه يبقى دون ديانة حتى يبلغ وبعدها يتم اطلاعه على كافة الأديان ليختار من بينها. أمّا أعيادهم ومهرجاناتهم، فترتبط بالمناخ وتغيّرات الطقس وأيام السنة والأشهر. وكلمة مهرجان مكونة من قسمين: “ميهر” وتعني الرحمة و”جان” وهي صفة للمحبة وتعني الحياة أيضًا.
ثمّة واجب أخلاقي على الزرادشتيين أن يقوموا به أيضاً، وهو أن يعيشوا “حياة طيبة” وأن يتعاملوا مع الآخرين بحب ورحمة.
التحديات والأفكار المغلوطة
رغم أن الدليل العراقي لعام 1936 يذكر الزرادشتية باسم المجوسية كأقلية دينية، إلا أن الدستور العراقي الجديد لا يزال لا يعترف بالزرادشتية كدين مستقل. وبحسب زراري، فإنّ الدستور يعامل أتباع الزرادشتية تحت اسم الإسلام.
ومن أهم أسباب معاناة الزرادشتيين في العراق المفاهيم المجتمعية المغلوطة عن ديانتهم. وفي هذا الإطار، يقول زراري: “يتّهمنا البعض بعبادة النار وبأنّ لنا آلهة متعددة، لكنّ هذا غير صحيح. نحن لا نعبد النار، بل نقدّسها. ولا يجوز زواج الأقارب في الزرادشتية حتى الدرجة الخامسة، لأنّ ذلك يورث نقص العقل والجسد. ولا تجد زوجين يلتقيان في الجد الثالث أو الرابع. والزرادشتية ليست ديناً تبشيرياً، رغم أنّها ترحب بمن يريد أن يعتنقها، وتحترم جميع الأديان الأخرى”.
قالت المهندسة لينا الربيعي، ممثلة الزرادشتية في النجف الأشرف: “نحن بحاجة لأن تضيف الحكومة العراقية دروساً تعريفية عن الزرادشتية وتعاليمها وطقوسها لمواجهة هذه الأفكار المغلوطة. هذه الدروس ستعلّم الطلاب حبّ الزرادشتية إلى جانب حبّهم للديانات الأخرى. كما أنّ وجود هذه الدروس التعريفية من شأنه الحيلولة دون وقوع أي إبادة جماعية جديدة، كما حدث مع الطائفة الأيزيدية”.
وأضافت: “مطالبنا هذه هي أيضاً مطالب شيوخ الدين والوجهاء وأصحاب الكلمة العليا والمؤثرين في المجتمع”.
لا دعم مالي
لا يحظى الزرادشتيون بأيّ دعمٍ مالي من داخل العراق أو خارجه. كما ليس هنالك رواتب أو معاشات لرجال الدين. وعلى ذلك، يقوم رجال الدين الزرادشتيين بعملهم بطريقة تطوعية.
وشهدت الآونة الأخيرة إغلاق معبد للطائفة في أربيل بسبب نقص التمويل وعدم القدرة على دفع الإيجار الشهري بحسب زراري. وهناك أيضاً معبدان آخران في السليمانية يتم دفع مصاريفهما عن طريق جمع التبرعات من الزرادشتيين أنفسهم.
وليس هنالك أي طموح للطائفة أيضاً. هم يريدون فقط أن يتم معاملتهم كما يتم معاملة غيرهم من أتباع الطوائف الأخرى، بدءاً من كتابة ديانتهم بشكل صريح على الهوية الشخصية عوضاً عن تصنيفهم كمسلمين، وليس انتهاءً بمنحهم حرية ممارسة طقوسهم الدينية.
رسالة الزرادشتية الجديدة
ما زال هناك بعض التهديدات التي تصل لمعتنقي هذه الديانة بين فترة وأخرى. وبحسب شيخموس، فإن الزرادشتيين ما زالوا يخافون من الإعلان عن ديانتهم بشكل رسمي، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية المسلمة، خوفاً من الفكر الذي خلفه تنظيم داعش في عقول الناس هناك.
وعلى هذا الأساس، يفضّل الزرادشتيون البقاء في مناطق كردستان، كونها الأكثر أماناً عليهم، خصوصاً النساء منهم. ويتمنى الزرادشتيون أن يقوم أتباع الديانات الأخرى بالتعامل معهم بنفس طريقة تعامل أتباع هذه الديانة معهم. فهؤلاء يعاملون الآخرين بكل حب، وهم يطلبون منهم التعرّف على دينهم أكثر دون أن يعودوا إلى الخرافات المنتشرة عنهم.
عينة استطلاعية
أجرى موقع فنك عينة استطلاعية عبر موقع التواصل فيسبوك لعددٍ من الشبان والشابات العراقيين. وشملت العينة 30 شخصاً، بمتوسطٍ عمريّ يتراوح بين 18 و40 سنة، وأغلبهم كانوا طلابا جامعيين أو مثقفين بشكل عام.
المعارضون
كانت نسبة المعارضة هي الأقل نسبياً مقارنة بغيرها، إذ بلغت نسبة الرفض ٢٠%. وبرّر المعارضون سبب ذلك إلى تعاليم ونصوص الديانة الزرادشتية التي تتعارض وتعاليم الدين الإسلامي والديانات السماوية الأخرى. وفي هذا السياق، يقول أحد المستطلعين: “هناك أربع ديانات سماوية عرفناها منذ الصغر، وكلّ ما عدا ذلك وهم. لا وجود لذكر زرادشت في أي كتاب سماوي. لو كان نبياً حقاً، لقال لنا ديننا والعلماء ذلك”.
البعض الآخر قال إنّ عودة هذا الدين الذي اندثر لمدة طويلة، وفي هذه الفترة غير المستقرة بالذات، يخدم مصالح بعض الجهات الخارجية التي تريد إضعاف العراق وتخريبه، وبأية وسيلة ممكنة.
دين الناس للناس
على الطرف الآخر، كانت نسبة الحياد هي الأكبر، وبلغت 47%. وتؤكد إحدى المستطلعات على حرية اختيار الدين بالنسبة للإنسان. وتضيف: “العراق ليس للمسلمين فقط. هذه الأرض للجميع. والتعدي الذي يحدث على أي شخص فيها، وعبر أية طريقة، جريمة ليس لها دين”.
من المشاركين أيضاً مَن رأى أنّ الخوض في مثل هذا النقاش، أو مجرد إبداء الرأي فيه قد يعرضه للكثير من المشاكل، وبلغت نسبتهم 3%. وقال البعض إنهم يدعمون الزرادشتيين، لكنهم لا يستطيعون التصريح بذلك علانية.
وهناك من اكتفى ببيت الحلاج الشهير “ديني لنفسي ودين الناس للناسِ”، دون أن يضيف أي شيء آخر.
أحد المستطلعين قال: “لا وجود للحرية في عراق اليوم عدا في إقليم كردستان. هذه المنطقة ما زالت في تقدم مستمر، ولا وجود لمثيل لها في كثير من العالم العربي المحيط بنا. هناك حرية العقيدة للمذاهب والأديان كل في شأنه، شعباً وحكومةً”.
وأضاف: “الزرادشتية موجودة، وحتى في النجف. وهناك زرادشتيون يحملون أسماء مثل علي وكرّار ومحمد، لكنهم لا يستطيعون البوح بذلك هنا. لقد تعاملت مع الكثيرين منهم. هم طيبون، لكنهم خائفون. هؤلاء لم يتمكنوا من البوح بمعتقدهم حتى وصلوا إلى كردستان، أو حتى سافروا خارج العراق”.
المؤيدون
أكثر من 30% من المستطلعين نظروا بطريقة إيجابية لظهور الزرادشتيين بطريقة علنية. ويدعم نصف هؤلاء المقولة التالية:” اعبد حجراً، لكن لا ترمني به”. وأبدى المستطلعون من هذه الفئة استعدادهم لاستقبال أي ممثل للزرادشتية لخوض النقاشات معه حول هذه الديانة والتعرّف عليها بشكلٍ أكبر.
إحدى المستطلعات أكدت دعمها لحق الزرادشتيين بممارسة معتقداتهم بحريّة، لكنها رفضت ذكر اسمها خوفاً من ردة الفعل المجتمعية. وقالت: “لا أمانع أبداً التعرّف على هذه الديانة، لكنّي لا أملك أية وسيلة تتيح لي التعرّف على معتقداتها”.
ويقول مستطلع آخر: “أثرت الفلسفة الزرادشتية بالكثير من المفكرين والفلاسفة والعباقرة عبر التاريخ. وهذا إن دل على شيء، فيدلّ حتماً على عظمتها وعظمة تعاليمها وفكرها”. وأبدى أمله بأن يتعرّف مستقبلاً على هذه الديانة من أفواه أصحابها.
مستطلعٌ ثالث قال “الزرادشتية موجودة على الأرض شئنا أم أبينا. كما أنّ أعداد مريديها في تزايدٍ مستمر. العراق منذ القدم، عراق الاختلاف والتنوع، فلماذا لا نقف اليوم مع إخواننا من الزرادشتيين وغيرهم من الأقليات الأخرى؟ لماذا لا نساعدهم على ممارسة كافة طقوسهم بكل حرية، ما داموا لا يضروننا بشيء؟”.
الخوف من المجتمع
أخيراً، ثمة من كان زرادشتياً في الأصل وعبّر عن خوفه من إعلان ديانته. وبلغت نسبة هؤلاء 3% من المستطلعين. وبيّن هؤلاء أنهم يخافون من إعلان ديانتهم رغم رغبتهم الشديدة بذلك، خصوصاً وهم يشاهدون مجاهرة أبناء دينهم في كردستان بذلك. وردّ هؤلاء إحجامهم عن إعلان دينهم إلى الخوف من نظرة المجتمع لهم وممّا سيتعرضون له من إقصاءٍ مجتمعين، لا سيّما في المناطق ذات الأغلبية المسلمة.