حرية – (14/3/2023)
كانت مدينة مأرب عاصمة مملكة سبأ العظيمة ومركزها الاقتصادي والسياسي والديني وظلت كذلك لقرون عديدة، منذ البداية جاء ذلك من خلال المصادر الحديثة لخبراء آثار، ونقوش أثبتت بأن مسألة عاصمتين لمملكة سبأ لا يعدو كونه قصراً في المعلومات والدلائل الأثرية التي اعتمد عليها الرحالة الأوائل دون الكشف الأثري.
وتناول خبير الآثار اليمني مبخوت مهتم تفصيلاً لذلك في كتابه “عاصمة سبأ بين مأرب وصرواح” من خلال الدلائل الأثرية لمعالم مملكة سبأ في محافظة مأرب اليمنية.
وتعتبر مأرب مهد الحضارة السبئية اليمنية القديمة التي كرمت بالذكر في القرآن الكريم، واقترن ذكرها في المصادر والموروث بمملكة سبأ ذائعة الصيت.
ويقول الباحث محمد البارع “إن عوامل التدوين والنقش بالخط المسند على الحجر كان العامل الرئيس الذي مكن خبراء الآثار من تتبع أخبار مملكة سبأ ومعرفة الكثير من تفاصيلها.
التأريخ بين الحرب والإهمال
تعافت مأرب في جوانب كثيرة في ظل الحرب التي تشهدها المحافظة منذ سبع سنوات لكنها لم تتعاف في جانب الآثار والثقافة فقد ظلت المعالم الأثرية تتعرض للإهمال والعبث في ظل عدم وجود أي اهتمام من قبل السلطات الحاكمة لمأرب وحال المعالم الأثرية والسياحية بما فيه المعابد الموجودة وآثار سد مأرب القديم تشبه مقالب النفايات وفي أحسن الأحوال كأحواش للمواشي تحيط بها الشباك الحديدية التي هي أشبه بشباك قضبان السجن وتحت حراسة قبلية ولم تشهد أي تحسن بهذا الخصوص هذا الأهمال أتاح الفرصة للحاقدين على تراث اليمن بالنهب وطمس الهوية التاريخية.
ومعالم مأرب الأثرية هي الأشهر بين آثار اليمن، وفي مقدمتها “سد مأرب” الشهير عمود الاقتصاد اليمني القديم ومعبد بران المعروف شعبياً باسم “عرش بلقيس”، وقد أضحت معظم مواقع ومعالم آثار مملكة سبأ ضحية الصراعات والحروب التي ألقت بظلالها على البلاد اليمنية.
وتتعرض حواضر مملكة سبأ منذ سبع سنوات، وحتى لحظة كتابة هذا التقرير لاستهداف وهجوم ممنهج من قبل الحوثيين، وأضحت مدن أثرية كمدينة صرواح أشبه بساحة حرب مفتوحة.
وعند هجوم الحوثيين على مأرب في عام 2015 تمركزت عناصر الحوثيين في موقع سد مأرب القديم والمدينة القديمة مما عرضهما للأضرار ودارت معارك بين القوات الحكومية والحوثيين قبل أن تتمكن القوات الحكومية من تحرير المناطق التي تقع هذه المعالم فيها.
وقبل أيام نشر ناشطون حوثيون مجموعة صور لمسلحين حوثيين في معبد مدينة صرواح وصور مؤسس الجماعة معلقة على عمدان المعبد.
وسلطة الحوثيين هي امتداد لسلطة الإمامة البائدة التي عرفت بعدائيتها لتأريخ الإنسان اليمني، وهناك عدد من الوقائع والشواهد التأريخية التي تؤكد أن المنهجية واحدة في استهداف المعالم التأريخية. ومع هجوم الحوثيين العنيف على محافظة مأرب قالت جماعة الحوثي في أدبيتها الفنية على لسان فنانيها ذائعي الصيت أنهم سيرفعون الصرخة على معبد الشمس في امتداد لمنهجهم العدائي لكل ما يمثل رمزية تأريخية حضارية لليمنيين.
ويقول الباحث والكاتب ثابت الأحمدي “للإمامة ثأر تاريخي مع اليمن واليمنيين منذ قديم الزمن، فهي ترى في كل مَعلم أو عَلَم منافساً لحضورها، لتحل هي بكهانتها محل هذا الحضور التاريخي، لذا لا تكترث للتاريخ القديم في أدبياتها الدينية أو التاريخية، لأنها جماعة طارئة على التاريخ أساساً. ومن يتابع تاريخ كل إمام من أئمتهم يجد أنه هدم جزءاً من تاريخ اليمن، ابتداء من الكاهن الأول يحيى حسين الرسي وانتهاء بالحوثي”، وهي تهم تنفي جماعة أنصار الله صدقيتها أو تبررها بدواع مغايرة للتي يسوقها الطرف الآخر.
ويحكي الأحمدي أمثلة على ذلك بالإشارة إلى أن الإمام الرسي هدم كثيراً من الحصون في بني الحارث وصعدة، وهدم أحمد بن سليمان مدينة صعدة القديمة كاملة، وهدم آل شرف الدين قصر غمدان، وهدم الطاغية الملقب المهدي محمد صاحب المواهب جزءاً من جامع العامرية برداع، ولولا تحشد الأهالي ومنعهم جنود الإمام لكان هدمه نهائياً، وهدم الإمام يحيى قباب جوامع تعز، وجوامع تهامة، وصادر أوقاف جامعة الأشاعرة بزبيد لمصلحته الشخصية، كما هدم كل المباني التي خلفها الأتراك ورحلوا. ويواصل الحوثي اليوم ذات السياسة، كما فعل أجداده، على حد قوله، الذي لم يتسن التأكد من مصداقيته عبر مصدر مستقل.
واحة مأرب
يقول خبير آثار ونقوش مأرب الدكتور مبخوت مهتم إن واحة مأرب القديمة والتي تمثل أكثر من 20 هكتاراً كلها معالم ومواقع مهمة توجد بها أكثر من 20 معبداً ناهيك عن بعض المعالم والمنشآت التي ذكرت في النقوش وما زالت غير معروفة لنا أماكنها تحديداً، وأهمها دار الولائم وهو مكان إقامة الولائم من قبل مكاربة وملوك سبأ من بعدهم، إلا أنه يشير إلى أنه لا يستبعد وجوده في منطقة واحة مأرب في منطقة “صونا” وهو المكان الذي يعتبره المشعر المقدس لرمي الجمرات في مفاهيم الحج اليمني القديم.
معبد “عرش بلقيس”
يقع “معبد بران”، (عرش بلقيس) في مديرية المدينة وهو واحد من أشهر المعالم التاريخية لمملكة سبأ الذي تحول شيئا فشيئا إلى كنز يعاني الإهمال ويحيط به سياج حديدي أشبه بقضبان السجن ويتكون “عرش بلقيس” من ستة أعمدة أحدها مكسور، كما يضم وحدات معمارية مختلفة أهمها “قدس الأقداس”، والفناء الأمامي وملحقاتهما، مثل السور الكبير المبني من الطوب.
ويرى الدكتور مبخوت مهتم أن اختيار المكان لبناء هذا الصرح الديني وكذلك العلاقة في ما بينه وبين المعبد الكبير محرم بلقيس (معبد أوام) والذي يقع إلى الشرق منه قليلاً تضع أمامنا تساؤلات عن أهمية هذا المعبد ووجوده بالقرب من معبد الحج وشعيرة الطواف الرسمية للحجيج (معبد أوام ) ووجود كلا المعبدين جغرافياً خارج أسوار مدينة مأرب العاصمة أي بما معناه أن هناك الكثير من العوامل منها الدينية والاجتماعية تلعب الدور الأكبر في ذلك.
ويشير الدكتور مبخوت مهتم إلى أهمية النقوش التي عثرت عليها البعثات الأجنبية في كلا المعبدين وأهميتها في ترسيخ معارفنا حول الصورة التي كانت قائمة آنذاك ولا سيما القوانين والشرائع والأعراف الاجتماعية.
تأريخ بناء المعبد
أستاذ الآثار والنقوش اليمنية القديمة محمد بن علي الحاج يذكر أن “تاريخ بناء معبد برآن يعود إلى بداية الألف الأول قبل الميلاد بحسب نتائج التنقيبات الأثرية التي قامت بها البعثة الألمانية الأثرية، ويرجح أن اكتمال شكله المعماري بما في ذلك المنصة المرتفعة قد تم في عصر مكاربة سبأ خلال القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، وأن بناءه المعماري قد جاء متناسقاً تماماً، يتقابل فيه المدخل الرئيس والساحة مع المدرج العالي ذو الأعمدة الستة، لذا فهو يعكس عظمة السبئيين في البناء والتخطيط، كما أن أعمدته الحجرية تعد أطول الأعمدة الحجرية في الجزيرة العربية وأنه ظل على مدى 1500 عام مكاناً دينياً مهماً يحج إليه السبئيون من كل مكان”.
ويضيف الدكتور الحاج أن المعبد يصنف بين أبرز الشواهد الدينية والثقافية في حضارة اليمن القديم لما يحويه من مراحل معمارية وكتابات مسندية وفنون نحتية توحي بالروعة والجمال وتعود تسميته بران إلى النقوش المسندية التي عثر عليها بداخله والتي تذكره باسم برآن وهو اسم المكان الذي بني فيه المعبد في الجهة اليسرى من واحة مأرب، أما التسمية المعروفة باسم “عرش بلقيس” فهي تسمية محلية يطلقها السكان هناك على المعبد منذ أزمنة بعيدة لاعتقادهم بأنه العرش الفعلي للملكة بلقيس التي ارتبط ذكرها في القرآن الكريم بالنبي سليمان عليه السلام.
رحلة سبأ إلى اليونسكو
وأدرجت لجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة في يناير من عام 2023 معالم مملكة سبأ القديمة في محافظة مأرب شرق اليمن على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، لتلتحق بمدن صنعاء وشبام حضرموت وزبيد وسقطرى.
وتشمل تلك المعالم سبعة مواقع أثرية هي أبرز الشواهد التي تم اكتشافها حتى اللحظة من آثار مملكة سبأ ويعود تأريخها إلى الألفية الأولى قبل الميلاد، وهي سد مأرب القديم بملحقية سدين صغيرين ومدينة مأرب التأريخية القديمة ومعبد أوام ومعبد بران ومعبد ومدينة صرواح الأثرية.
وفي إشارة إلى آثار سد مأرب القديم قالت اليونسكو إن “نظام الري في مأرب القديمة براعة تكنولوجية في الهندسة الهيدرولوجية والزراعة على نطاق لا مثيل له في جنوب شبه الجزيرة العربية القديمة، مما أدى إلى إنشاء أكبر واحة قديمة من صنع الإنسان”.
وقال سفير اليمن لدى اليونيسكو الدكتور محمد جميح لـ”اندبندنت عربية” إن إعداد الملف استغرق قرابة ثلاث سنوات “ما بين العمل الميداني والمكتبي وفي أروقة اليونيسكو ومع هيئة المحكمة الدولية التي أصدرت الحكم وعمل مع السفراء من أجل دعم الملف داخل اليونيسكو داخل لجنة التراث العالمي”.
وأضاف “أصبحت مأرب اليوم مصنفة ضمن قائمة التراث العالمي وهذا يعطيها الحق في حماية دولية ويعطيها الحق في مشاريع الحماية، مشاريع الحفاظ عليها، مشاريع الترميم والصيانة، وبعد القرار ستخرج لجنة الى مأرب لمعاينة المواقع”
وحول أهمية تصنيفها يقول الأكاديمي علي طعيمان أستاذ الآثار والعمارة القديمة “إنها سجلت في قائمة المواقع المعرضة للخطر وبهذا التصنيف ستعمل على إعادة تأهيل المعالم الأثرية والحفاظ عليها وسلامتها وستضع عدداً كبيراً من المشاريع في المستقبل القريب”.
وتعرضت الآثار التي أدرجت في قائمة التراث العالمي للسرقة والنهب والإهمال منذ أن تم اكتشافها، ولم تعمل السلطات المحلية والمركزية أي جهود للحفاظ عليها.