حرية – (14/3/2023)
عند زيارة بريطانيا فإنّ من بين الأمور التي تجعلك تشعر بالغرابة، طريقة قيادة السيارات في الطريق، إذ يلتزم البريطانيون بالسير على الجهة اليسرى، على عكس أكثر من ثلثي دول العالم.
وبالتأكيد ليست بريطانيا الدولة الوحيدة التي تُقاد بها السيارات على جهة اليسار، إذ يقود حوالي 35% من سكان العالم سياراتهم على جهة اليسار، بما في ذلك اليابان ومالطا وقبرص وإندونيسيا وأيرلندا ومعظم دول الإمبراطورية الإنجليزية القديمة: الهند وأستراليا ونيوزيلندا وعدد من الدول الإفريقية.
بينما تلتزم بقية دول العالم، بما فيها كل الدول العربية بالقيادة في الجانب الأيمن، لكن ما سرّ اختلاف جهة القيادة بين دول العالم؟
القيادة على جهة اليسار هي الأصل
رغم اختراع السيارة كان في العصر الحديث، فإنّ جهة الطريق التي نسير عليها اليوم لها تاريخٌ طويلٌ بين من يسير على الجهة اليمنى أو على جهة اليسار.
مع ذلك، لا يختلف اثنان على أنّ القيادة على جهة اليسار كانت الأقدم تاريخياً، إذ يعود تاريخ القيادة على جهة اليسار إلى العصور الوسطى، حيث كانت الإمبراطورية الرومانية تحكم معظم الأراضي الأوروبية وتسيطر على العالم القديم، في ذلك الوقت كان معظم الناس يستخدمون اليد اليمنى في يومياتهم وأشغالهم، لذلك كانوا يمسكون بسيوفهم في يدهم اليمنى، ويحملونها على الجانب الأيسر من أجسادهم.
خلال تلك الفترة، كان العنف والسلب وقطع الطريق السمة البارزة في يوميات أوروبا، لذلك كان على أي شخص أن يأخذ حذره وهو يسير في الطريق، لذلك عند مقابلة شخص آخر قادم نحوهم على الطريق كان من الطبيعي أن تكون على الجانب الأيسر من الطريق، لأن ذلك سيسمح بالدفاع عن النفس في حالة التعرض لهجوم، إذ كان السير على الجهة اليسرى يجعل إخراج السيف الذي يوضع عادة من الجهة اليسرى للخصر أسهل للفرسان إذا احتاجوا إلى ذلك، كما أنّ فكرة السير على اليسار أبعدت سيوفهم عن المارة إذا حاولوا سرقتها.
استمرت القيادة على جهة اليسار لقرونٍ، فقام الرومان بقيادة عرباتهم على اليسار بسبب استعمالهم اليد اليمنى، وتعامل الخيول مع هذه الجهة، لكن هذا التقليد سرعان ما بدأ في التغيير التدريجي بدءاً من القرن الـ18، خصوصاً لدى فلاحي فرنسا والولايات المتحدة، فقد انتشرت العربات التي تجرّها عدّة خيول لنقل البضاعة، وبما أنّ عربات ذلك الوقت لم تكن تتوفّر على مقعد للسائق، فقد كان السائق يركب الحصان الموجود على أقصى اليسار لكي تبقى يده اليمنى حرّة، ويستطيع أن يحمل بها السوط الذي يضرب به الأحصنة. جلوس السائق في أقسى اليسار يجعله طبيعيّاً يرغب في أن تمرّ باقي العربات على يساره، حتى يستطيع رؤيتها وتفاديها، ومن هناك بدأ انتشار القيادة على اليمين، وذلك وفقاً لموقع theautopian.
لماذا تقود معظم الدول سيارتها على جهة اليمين؟
كان القرن الـ18 الزمن المفصلي في تاريخ جهات القيادة، خلاله ظهرت فكرة القيادة على اليمين، ثم سرعان ما تغلغلت هذه الفكرة لتصبح قانوناً ملزماً، إذ أصدرت الإمبراطورة النمساوية إليزابيث سنة 1752، مرسوماً ملكياً بتعميم القيادة على الجهة اليمنى.
مع ذلك، كانت القيادة على جهة اليمين تنتظر حدثاً تاريخياً كبيراً لتركب ظهره من أجل الانتشار على نطاقٍ واسعٍ، كان ذلك الحدث هو الثورة الفرنسية، التي اندلعت سنة 1789، فقد أراد الثوار الفرنسيون بقيادة نابليون الذي كان في الواقع أعسر (يستعمل يده اليسرى) القطيعة مع التقليد السابق في عهد الملكية، حين كانت الطبقة الأرستقراطية تسير على الجانب الأيسر للطريق، في حين يُجبر الفلاحون والفقراء على التزام الجانب الأيمن منه.
في سنة 1794، أصبح قرار السير من الجهة اليمنى رسمياً في فرنسا، ثم سرعان ما أسهمت الحروب النابليونية، بالإضافة إلى التوسعات الاستعمارية الفرنسيّة في فرض هذه القاعدة في مختلف أنحاء العالم، وبذلك صار أكثر من ثلثي سكان العالم يقودون سياراتهم على جهة اليمين.
بريطانيا تنشر القيادة على جهة اليسار في الثلث المتبقي!
في المقابل، سارعت بريطانيا إلى فرض القيادة على الجهة اليسرى في مستعمراتها، من أجل كسر القاعدة الفرنسية في سياق التنافس الاستعماري بين الإمبراطوريّتين، إذ نصت القوانين الإنجليزية على هذا التقليد في العام 1835.
ومثل الفرنسيين، روَّج البريطانيون لفكرتهم- مثلما فعل نابليون- لعادة القيادة على الجهة اليسرى من الطريق، في الأجزاء من العالم التي حالفها الحظ وأصبحت تحت سيطرة الإمبراطورية البريطانية.
ولهذا السبب يقود نحو 35% من سكان العالم- ويشمل ذلك دولاً مثل الهند وأستراليا ونيوزيلندا وبعض الدول الإفريقية- سياراتهم على الجهة اليسرى من الطريق حتى يومنا هذا، وهي بلدان كانت مستعمرات بريطانية سابقة، أو تابعة للكومنولث البريطاني.
أمريكا واليابان الاستثناء في التنافس الفرنسي البريطاني على جهة القيادة
كما سبق ذكره، قادت بريطانيا حملة للترويج للقيادة على جهة اليسار، في إطار تنافسها مع الإمبراطورية الفرنسية، فقامت بفرض القيادة على جهة اليسار على مستعمراتها، مع ذلك نجد أنّ اليابانيين الذين لم يخضعوا للاحتلال البريطاني يقودون سياراتهم على جهة اليسار.
ويعود السرّ في ذلك إلى القرن الـ17، حين حكم الساموراي البلاد، وبما أنّ مقاتلي الساموراي يحملون سيوفهم في حلّهم وترحالهم، فقد التزموا بالسير على الجانب الأيسر للأسباب نفسها التي ذكرناها فيما يخصّ مقاتلي الرومان القدماء.
ولكن لم تصبح هذه العادة غير المكتوبة رسميةً إلا في العام 1872، الذي تزامن مع مساعدة البريطانيين لليابانيين في بناء سككهم الحديدية. ونصَّ القانون الياباني على القيادة في الجهة اليسرى بدايةً من عام 1924.
مع ذلك حاولت الولايات المتحدة الأمريكية فرض القيادة على جهة اليمين على اليابانيين، ففي بضع سنوات خلال الحرب العالمية الثانية، فرضت الولايات المتحدة في محافظة أوكيناوا القيادة على اليمين، لكن اليابان أعادت القيادة على اليسار في عام 1978.
بالمقابل نجد أنّ الأمريكيين الذي خضعوا للاستعمار البريطاني يقودون سياراتهم على جهة اليمين، لكن ذلك لم يكن الأصل، فقد كان سكانها الأصليون يقودون عرباتهم على الجهة اليسرى، وبعد تمردهم في العام 1776 ابتعدوا عن ممارسة كل العادات التي ارتبطت بأسيادهم الاستعماريين. وبالطبع، ساعد تدفق المستوطنين من الدول الأوروبية الذين كانوا عرضةً للتأثير الشديد للفرنسيين أيضاً في هذا التحول.
وكانت ولاية بنسلفانيا الأمريكية هي أول ولاية تسن قانوناً يُلزم المواطنين بالقيادة على الجهة اليمنى من الطريق في العام 1792، وتبعتها ولاية نيويورك في العام 1804، ثم ولاية نيوجيرسي في العام 1813.
في القرن الـ20، شجعت صادرات السيارات بعض البلدان على التحول إلى القيادة على جهة اليمين، فقد تحوّلت كندا في عشرينيات القرن الماضي إلى القيادة على جهة اليمين، تبعتها السويد في عام 1967، ونيجيريا في عام 1972، وكانت السويد آخر دولة في أوروبا تحوّل جهة القيادة إلى اليمين.
ورغم شبه الإجماع على القيادة على اليمين، هناك عدد قليلٌ من الدول التي لا تزال ترفض تحويل جهة القيادة من اليسار إلى اليمين.