حرية – (15/3/2023)
سلطت تقرير صحفي، الضوء على انعكاسات قرار حظر استيراد المشروبات الحكولية، واصفاً إياه بـ”محاولات تخفي وراء التقوى لإخفاء ارتكابات وفساد الطبقة الحاكمة”.
ويقول التقرير الذي نشرته شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية في العراق (15 آذار 2023)، “جاء قرار حظر بيع الكحول، ضمن مادة في قانون البلديات الذي تم تشريعه قبل أكثر من 6 سنوات، ثم ظهر فجأة في صحيفة الوقائع العراقية، ليدخل حيز التنفيذ، ما يشير إلى تناقض القوانين والقرارات التي تصدرها الحكومة العراقية، لا سيما أن مجلس الوزراء العراقي قرر في منتصف شباط/ فبراير 2023 زيادة الرسوم الجمركية على استيراد الكحول بنسبة 200 في المئة”.
تالياً نص التقرير:
ما إن صدر خبر حظر بيع الكحول في العراق، حتى أجرى ف.د (34 سنة) من سكان بغداد- الرصافة، مجموعة اتصالات سريعة مع معارفه في محال بيع المشروبات الكحوليّة، واتفق مع ثلاثة منهم على شراء كمية تغطي حاجته لأشهر، دار على المحلات، وملأ سيارته بمخزون كاف، ثم توجّه إلى منزله.
يبرر ف.د ما قام به بوصفه قراءة (متحذلقة) للنص القانوني إذ يقول : “كنا نعرف أن الحكومة ستفعل ذلك في وقت ما، لذلك أخذت الكمية التي كنت متفقاً مع البائع على سعرها دون أي اضافة، ولأن القانون لا يشير إلى حظر الكحول في المنازل، أنا بمأمن ما دمت لا أبيعها!”.
لا يفصل ف.د هذا الحظر عما يشهده العراق إذ يلخص ما يحصل قائلاً:”إنها عباءة الدين مرة أخرى، محاربة المحتوى الهابط أولاً، وبعد ذلك الكحول، وغداً سيفرضون قوانين تتعلق بالثياب… يتقنعون بثياب الورع والتقوى بينما فسادهم وسرقاتهم تملأ الأرض”.
لا يخفي صديقه المسيحي (د.أ) انزعاجه من القرار، ودهشته مما يحصل في بلد يفترض أنه يضمن تعددية دينية وحريات فردية يحميها الدستور، إذ يقول: “الأمر مشابه للحملة الايمانية لصدام. يصدرون قوانين عجيبة تخالف المنطق ولا سبيل لتطبيقها في بلد فيه مسيحيون وايزيديون وعلمانيون ولا دينيين، المصيبة أن هؤلاء ذاتهم في اللقاءات الدولية يعرضون أنفسهم كحماة لحقوق الإنسان والمكونات والحريات الفردية والتعددية. لن ينجحوا في تطبيقه، فمدن كردستان غير معنية به أصلاً، بل إن المتاجرين به اليوم وهم مسؤولون أو مدعومون من مسؤولين في الأحزاب الإسلامية والميليشيات الحاكمة، سيمضون في تجارتهم ويبيعون لكن بأسعار أعلى”.
تجارة سرية وربح على قدر الخطر
يقول (جاسم) صاحب متجر كحول وسط بغداد، إنه يشهد إقبالاً منقطع النظير على شراء مختلف أنواع الكحول منذ الإعلان عن بدء تنفيذ القانون، هو ينتظر مثل غيره، إبلاغه رسمياً بذلك، كي يتوقف عن البيع العلني ويتوجه إلى بيع الكحول سراً كما كان يفعل في فترات سابقة.
يذكر جاسم الذي رفض التصريح عن اسمه أو اسم محله، أن النظام العراقي فرض حظراً مماثلاً منتصف تسعينات القرن المنصرم، تماشياً مع ما سمي في حينها “الحملة الإيمانية” التي كان الرئيس العراقي السابق صدام حسين قد أطلقها لإضفاء طابع ديني على نظامه.
تعرض متجر جاسم آنذاك لهجوم مسلح من قبل من وصفهم بالجهاديين، واضطر إلى دفع إتاوة لكي يغضوا الطرف عنه، هجوم مشابه اختبره جاسم بداية عام 2017، حين وصلته من عناصر ميليشيا “الحشد الشعبي”، تهديدات بالتصفية، ويعلق :” قمت ببيع ما لدي سراً بعد تلك الحادثتين ولفترات متفاوتة، ثم زاولت عملي بشكل علني”.
أشار جاسم إلى أن مبيعاته ترتفع ودخله يزيد عندما يتم حظر الكحول أو التضييق على من يبيعونه، لأنه يرفع الأسعار قياساً لإرتفاع الخطورة، إذ لديه الكثير من الزبائن، وجهات نافذة يستعين بها للحصول على الكميات التي يريدها، على حد تعبيره.
صوت مجلس النواب العراقي في اللحظات الأخيرة من اجتماع على 2016 على قانون واردات البلديات، لكن الرئيس الأسبق فؤاد معصوم لم يصادق عليه، لذا لم يدخل مرحلة النفاذ إلا بعد نشره في جريدة “الوقائع” الرسمية في شباط 2023.
نصت إحدى فقرات القانون على: “حظر استيراد وتصنيع وبيع المشروبات الكحولية بكافة أنواعها”. فيما نصت الفقرة الثانية على غرامات مالية باهظة تقع على من يخالف المحظورات.
اختيار التوقيت
يُرجح المحامي علي ذنون سبب عدم إرسال القانون للنشر في الجريدة الرسمية أواخر عام 2016، برغم تشريعه والتصويت عليه برلمانياً، هو انشغال المسؤولين بالحرب ضد تنظيم “داعش” وقتها (2014-2017)، وأشار إلى أن أي قانون يصبح سارياً بعد نشره في الجريدة وليس من تاريخ مصادقة أعضاء مجلس النواب عليه. وأضاف: ” أعتقد بأن قادة الأحزاب المؤلفة للحكومة ومعظمها ذات طابع ديني أرادوا التريث في تنفيذ القانون لكي لا تتم مقارنتهم بداعش”.
يلفت ذنون الانتباه إلى أن القانون إذا طبق، فسيشمل المحافظات خارج إقليم كردستان، مشيراً إلى أن جهات مسؤولة في الإقليم كانت في الأصل معترضة على تشريع القانون عام 2016، ويضيف “الكثير من سكان الإقليم من المسيحيين والإيزيديين، إضافة إلى الأجانب، كما أن القطاع السياحي في الإقليم واسع ونشيط، وحظر الكحول ضربة موجعة له وللعاملين في النوادي والبارات والفنادق”.
تنفيذ القرار يخلق اشكالات متعددة، أولاً كونه يخرق حريات فردية أساسية وثانياً لأنه قرار غير صالح للتنفيذ، مثلاً في 4 آذار/ مارس 2023، وجهت الهيئة العامة للجمارك العراقية، كتاباً الى المناطق والمراكز الجمركية بمنع دخول المشروبات الكحولية بمختلف أنواعها، استناداً إلى قانون واردات البلدية. لكن المدير العام لجمارك حكومة إقليم كردستان، سامال عبدالرحمن، ذكر في تصريح صحافي أن “أي قرار يصدر عن الحكومة العراقية يجب أن يمر عبر مجلس وزراء حكومة إقليم كردستان، وأن تتم الموافقة عليه قبل تنفيذه”، مبيناً أن “مجلس الوزراء لم يطلعنا على هذا”.
قانون مخالف للدستور
القانون وتوقيت إدخاله حيز التنفيذ، خلفا حالة اعتراض لا سيما أنه يتعارض مع ضمان الحريات التي نص عليها الدستور العراقي ويؤثر في فرص عمل أقليات تشكو أساساً من التضييق عليها كالإيزيديين والمسيحيين، وكثيرون من هؤلاء يعتاشون على أعمال قائمة على بيع الكحول.
سجل نواب إيزيديون ومسيحيون تحفظاتهم ورفضهم للقانون، ناهيك أنه يخاطب المخاوف المنتشرة من تحوّل النظام نحو الديكتاتورية مجدداً، عبر قمع الحريات الفردية، وفرض قوانين مصدرها ديني (إسلامي)، دون مراعاة التنوع الثقافي والاجتماعي.
يذكر (خدر. س- 63 سنة) نازحٌ منذ أكثر من 8 سنوات في مخيم للايزيديين في مدينة زاخو في إقليم كردستان، أنه كان يملك متجراً للمشروبات الروحية في قضاء سنجار، ورثه عن أبيه الذي بدوره ورث المهنة عن جده، لكن عناصر “داعش” الذين هاجموا القضاء في 3 آب/ أغسطس 2014، دمروا متجره وما كان في مخزنه، ما كبّده خسائر كبيرة.
يقول “بعدما وقفت على رجلي مجدداً وبصعوبة كبيرة، واستأجرت مطعماً أقدم فيه المشروب لزبائني، فهل سيجبرونني على التوقف عن ذلك بقانونهم؟”، ويقترح: “أنا مستعد للتوقيع على تعهد بأنني لن أبيع لغير الإيزيديين والمسيحيين، في أوروبا يطلبون البطاقة الشخصية من الزبون للتأكد من أن عمره أكثر من 18 لكي يبيعوه الكحول، أنا سأطلبها لكي أتأكد من هوية الزبون الدينية!”.
هل يمشي العراق على خطى إيران
يرى الناشط الايزيدي مراد اسماعيل، أن ما يحدث هو “فرض للشريعة الإسلامية على غير المسلمين ما يشكل انتهاكا صارخا للدستور ولحقوق الأقليات والحقوق المدنية ويضع العراق على طريق خطير”.
كتب على صفحته الشخصية في “فيسبوك”: “90 في المئة من مشرعي قوانين تحريم المشروبات الكحولية في العراق، يتعاطونها هم أنفسهم ويتفاخرون بذلك أمام السفراء والمسؤولين الغربيين. فلم كل هذا الاكساء بالتدين والرياء؟”.
يرى اسماعيل، الذي يرأس منظمة ايزيدية ناشطة في سنجار، أن المشكلة أعمق بكثير من بضعة آلاف من الوظائف فهي ” تمهد الطريق لأسلمة الدولة لتتناسب مع النسختين الإيرانية والأفغانية “.
يرى نواب ومسؤولون من قوى مختلفة، أن عمليات بيع وتداول المشروبات الكحولية تحتاج إلى قانون لتنظيمها وليس منعها، لكنهم يتحاشون الإعلان عن مواقفهم في ظل سطوة قوى اسلامية أو مراعاة لرأي غالبية مجتمعية مسلمة.
يقول النائب السابق عن المكون الايزيدي صائب خدر، إن المشروبات الكحولية كانت مجالاً كبيراً للفساد منذ 1991 وأن “عدم تنظيمها قانونياً سيجعل ذلك ظاهرة تقيد الحريات وتشجع على الفساد فمنعها ليس حلاً واقعياً وإنما تنظيمها”.
انتقد مثال الالوسي، السياسي العراقي المستقل، حظر الكحوليات وقال في تصريحات صحافية إن الأحزاب الموالية لإيران “تريد جعل بغداد دولة إسلامية من خلال تطبيق قوانين مخالفة للدستور”، مشيراً إلى أن في البلد توجهات دينية وثقافية مختلفة “ولا يمكن فرض رأي أطراف متشددة على العراقيين”. ويرى أن الخطوة ربما تهدف الى زيادة تجارة المخدرات في العراق، خصوصاً أنها تصب في مصلحة جهات، ذات توجه إيراني، تعمل على إدخال المخدرات والمتاجرة بها.
يرى الناشط المدني (م.ز) أن العراق يستنسخ شيئاً فشيئاً التجربة الإيرانية، عبر قوانين يراها تعسفية و”تغلّب مصلحة فئة محدودة على بقية الفئات والتوجهات في المجتمع”. ولا يستبعد أن تشهد المرحلة اللاحقة ظهور من يطالبون بتحويل العراق إلى (جمهورية العراق الإسلامية) على غرار (جمهورية إيران الإسلامية) على حد قوله.
يضيف مستغرباً : “كنا نعتقد بأن زوال الجماعات التكفيرية سينهي مرحلة التشدد ويعود العراق على ما كان عليه من انفتاح قبل نشوء الديكتاتورية”.
ينفي الكاتب نادر عبد السلام أن تكون للمادة المتعلقة بحظر الكحول خلفية دينية، “بل هي فقط لإرضاء النظام الإيراني الذي يفرض بصمته على مختلف مناحي الحياة في العراق وضمنها الشق السياسي”.
أشار النائب السابق، فائق الشيخ علي في مؤتمر صحفي عقده في مجلس النواب بعد تصويت المجلس على قانون واردات البلديات في تشرين الأول/ أكتوبر 2016 بأن المادة المتعلقة بالخمور” دخيلة”
نوه الشيخ علي إلى أن العراق فيه صالات قمار لا يوجد مثلها حتى في “مونتيكارلو أو لندن، وارداتها اليومية مليونا دولار تتقاسمها بعض الأحزاب الدينية الشيعية التي تمتلك ميليشيات هنا في العراق”، وقال كذلك بأن “حزباً شيعياً يحمي الملاهي الليلية في العراق مقابل أموال تدفعها له” وأن هنالك “حزباً دينياً شيعياً ثالثاً يوفر الحماية للبارات”.
يربط الباحث عادل كمال حملة استهداف صانعي المحتوى التي سبقت تنفيذ بند القانون المتعلق بحظر الكحول، ليست إلا خطوة واضحة بشكل جليّ هدفها :”تخويف كل من يعترض على قوانين ستمررها السلطة، فكل من سيعبر عن رأيه إزاء موضوع الكحول سيعد صانع محتوى هابط ويحال إلى القضاء”.
يتوقع كمال “ضغطاً دولياً على الحكومة العراقية بهدف منح الأقليات غير المسلمة التي لا تحرم الكحول استثناءات من القانون، وأن ذلك قد يظهر قريباً بعد طعون يقدمها ممثلون عن تلك الأقليات للمحكمة الإتحادية أو أن تقوم بذلك تكتلات الأحزاب في مجلس النواب لتظهر نفسها بمظهر ديمقراطي”.