حرية – (18/3/2023)
كانت السيارة العجيبة “نايت رايدر” التي ظهرت في دراما أميركية شهيرة من بطولة الممثل ديفيد هاسلهوف في سبعينيات القرن الماضي البداية الفعلية لمشوار طويل من التطور الذهني البشري الذي سيرافق التطور الميكانيكي في عالم السيارات. وقد وثق العمل لما يمكن وصفه بالسيارة الناطقة أو الذكية، والتي تجسد الأساس النظري لكثير من التحولات العملية الهائلة التي حققت على أرض الواقع عملياً في زمننا هذا، وخلال فترة قصيرة من الوقت، إذ يمكن القول إن السيارة العجيبة تنبأت بولادة السيارة ذاتية القيادة، إذ مرت السيارة قبل ذلك وخلال ما يقرب من نصف قرن بتطورات عدة ملموسة ومهمة، منها السيارات التي تعمل بمحركات هجينة، ثم جاءت السيارة الكهربائية التي تمثل تطوراً كبيراً يصب في مصلحة البيئة، ولكن وصولنا إلى الحلم المنشود لهذا الاختراع قد لا يكتمل إلا بوجود سيارات طائرة، إذ يشارف مخترعون على تحقيقه أيضاً في وقت قريب.
تطبيقات صبيانية
عبر الناس عن فضولهم تجاه علاقتهم بالسيارة في بداية عهدهم بها من خلال تطبيقات صبيانية، فكانت السيارة ملهمة لألعاب الأطفال والصبية في الحارات والأزقة، وصار دارجاً في فترة ما بعد خمسينيات القرن الماضي رؤية أطفال يدفعون عجلات حديدية ويوجهونها يدوياً، ومن ثم دخلت عربات الخردق وهياكل السيارات المجسمة من الخشب والمعادن على خط الألعاب ليجوب بها الأولاد الحارات متباهين بمجسماتها الجميلة.
السيارة العجيبة من الداخل
وفي غضون سنوات قليلة اختفت هذه الألعاب وامتلأت الأحياء والشوارع بالسيارات الحقيقية، ووصلنا إلى مرحلة يندر فيها أن تشاهد بيتاً لا توجد فيه سيارة أو أكثر، سواء في المدن أو القرى والأرياف، وحتى في البوادي والمناطق النائية والبعيدة من التجمعات السكنية، لكن آخر ما كان يتوقعه الفتى الصغير الذي يقود مجسماً معدنياً أو خشبياً بدائياً في زقاق الحارة في منتصف السبعينيات من القرن الماضي الذي يجسد حلمه في اقتناء سيارة حديثة، أن يرى ذلك المجسم الصغير يكبر ويتطور بسرعة فائقة ليصبح قادراً على حمله هو وعائلته، ليركب الفتى بعد سنوات قليلة مقصورة الحلم الذي راوده متجولاً في الأحياء ذاتها التي مارس اللعبة فيها ذات يوم.
كثير من ذلك حدث أثناء فترة قصيرة تمتد من ثمانينيات القرن الماضي حتى مطلع الألفية الثانية خلال مواكبتنا لحكاية السيارة، فشاهدنا بأم أعيننا السيارة العجيبة التي تتحدث مع صاحبها وتقود ذاتها تتحول إلى حقيقة مجسدة على أرض الواقع، مما دفعنا للقول إن عالم السيارات يعد واحداً من أكثر عوالم التكنولوجيا الحديثة قابلية للتطور، حيث تنفق أموال طائلة في سبيل تحويل كل الأحلام التي نتخيلها في هذا المجال إلى واقع ملموس أمام أعيننا وفي فترة قياسية.
وصول السيارة إلى الشرق
مع وصول السيارة إلى الشرق تغير شكل الحارة العربية، هذا الشكل الذي يمكن تشبيهه سابقاً -من باب التقريب للواقع- بتصميم الحارة في مسلسل “باب الحارة” الشهير. واستمر هذا الشكل إلى وقت قريب، لكنه اختفى حين دخلت السيارات إلى حياتنا، فزادت المسافات بين البيوت المتلاصقة، واحتلت السيارة المساحة الأكبر، وانقرضت الشوارع الصغيرة الضيقة غير المعبدة التي كانت معدة لاستعمال الإنسان انقراضاً شبه نهائي، لتدخل الآلة بمختلف تطبيقاتها صميم الحياة الحديثة وتنتشر في البيوت وأماكن العمل، وكان من أهم تلك الآلات السيارة، إذ احتاجت هذه الآلة إلى طرق أكبر ممهدة ومحطات لتعبئة الوقود ومحال لبيع قطع الغيار والصيانة.
تطور عمراني
سكن العرب قبل السيارة بيوتاً شعبية متواضعة، فتصميم البيوت في مناطق من الأردن مثلاً كان قبل وصول هذا الاختراع يعتمد كلياً على الهندسة المعمارية البدائية المتناقلة عبر الأجيال، وكانت البيوت تبدأ بحائط واحد تقام عليه الغرفة الأولى مع مرافق مستقلة مثل يأتي الحمام والمطبخ، فيما لا يحتاج بناء غرفة أخرى سوى تشييد ثلاثة جدران ملاصقة للحائط الرئيس فيما تظل بقية المرافق مشتركة، لكن هذا النمط البسيط من البناء لم يعد مناسباً بعد وصول السيارات، إذ صارت البيوت في حاجة إلى كراجات ومساحات أكبر لاستقبال هذا الزائر، ومع مرور الوقت صارت هذه المساحات من شروط ترخيص المساكن.
بدأت السيارات الكهربائية تسيطر على السوق
أشعلت السيارات رغبة الناس بالتواصل، فزاد اهتمام المصانع بهذا الاختراع، وتحولت تجارة السيارات وما يتعلق بها من خدمات وصناعات إلى مضمار أعمال واسع يفتح آفاقاً لفرص عمل ووظائف كثيرة ويدر أرباحاً طائلة.
في المقابل، تطورت صناعة السيارات كثيراً، وباتت السيارات أكثر شعبية وفي متناول الأيدي بفضل ثقة البنوك ورؤوس الأموال بهذا الاختراع، مما سهل تملكه لجميع فئات المجتمع تقريباً، وصولاً إلى زمن تحولت السيارة فيه إلى جزء أصيل من ثقافة الحياة ونمط العيش، بل إن أهميتها صارت تفوق في بعض الأحيان أهمية الطعام والشراب، لأن السيارة في وقتنا هذا أصبحت شرطاً من شروط العمل والحياة معاً، مما جعلنا نتنازل شيئاً فشيئاً عن أشياء أساسية في حياتنا لصالح الحفاظ على وجود السيارة في المنزل.
السيارة والمرأة
ترافق ظهور السيارة في حياتنا مع ثورة اجتماعية وثقافية واسعة شملت مجالات عدة، وليس مصادفة تزامن هذه الثورة مع تطورات اجتماعية أخرى منها تطور دور المرأة ودخولها إلى جميع مجالات الحياة بوصفها منافساً شرساً للرجل في جميع مجالات العمل.